من كنوز السنة
الاعتدال في الحب والبغض
ستر الجعيد
الاعتدال والتوسط سمة من سمات هذا الدين، يدخل في كثير من الأشياء،
بل يمكن القول أنه قاعدة مطردة.
والمتأمل في أحوال كثير من الأمم والأفراد، يجدهم بين غالٍ ومسرف،
ومتهاون ومضيع، وبين معتدل ومتوسط سالك لطريق الأمة الوسط قال تعالى:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] .
والتوسط الذي يجري في حياة الأمة كما هو في تفكيرها وفقهها، ومعالجتها
لكثير من قضاياها يجعلها إذا التزمت به تحصل على فضائل جمة وخصال حميدة
تجني عليها من المفاسد وعدم الاعتدال بقدر ما تفرط في التوسط والاعتدال،
والأمثلة على ذلك كثيرة في حياة الأفراد والأمم بل وحتى الدعوات، ومناحي
التوجيه، والتعليم، والتربية، ولكن لو نظرنا في الحب والبغض لوجدنا ذلك
واضحاً، فالناس بين مشتط في البغض لأمور لا تستحق ذلك البغض أو على الأقل
لا تستحق تلك الدرجة من البغض، وآخر متساهل فلا يبغض على أشياء تستحق
البغض بل أحياناً البغض فيها واجب مفروض، وقد تجد من يضع الحب مكان
البغض المطلوب.
فتجد من هو مقيم بحب بلغ فيه درجته القصوى، وإعجاب يسيطر على
مشاعره وتصرفاته في الوقت الذي تجد أن حباً أقل من ذلك يكفي في هذا الموطن
مما يجعل الأثر يظهر في معالجة كثير من القضايا.
ومع أن التوسط والاعتدال قاعدة مطرودة يفهم من فروع كثيرة لكن رسولنا -
صلى الله عليه وسلم- نص عليه ونبه على أثر تركه في هذه المسألة بالذات لأنها
ذات أثرٍ بالغٍ وينشأ عن الإخلال بها مفاسد كثيرة، كما ينشأ عن التمسك بها مصالح
جمة. فقال محذراً وموجهاً: «أحبِبْ حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك
يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» [1]
«ومعنى هوناً ما: أي حباً مقتصداً لا إفراط فيه وإضافة ما إليه تفيد التقليل، يعني لا سرف في الحب والبغض فعسى أن يصير الحبيب بغيضاً والبغيض
حبيباً فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم ولا في البغض فتستحي»
فما أعظم الإسلام، وما أعظم توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهلا
من فقه صحيح، وتحرٍ واضح لهذه المسألة ومعرفة لحدود الحب والبغض حتى
تصلح أحوال الأفراد والأمم والجماعات والدعوات، وتدرأ كذلك مفاسد كبيرة تنشأ
من غياب هذا الفقه الصحيح في الواقع، وبالإضافة إلى ما سبق فإن هذا الحديث
ينبه على بعض جوانب من قضايا علم النفس التي ذكرها رسولنا -صلى الله عليه
وسلم- ضمن توجيهاته وأقواله، فهل من دراسة جادة لها وتوضيح لمقاصدها،
وبناءً لهذا العلم على أسس صحيحة بدلاً من تجارب فرويد ومن لهث وراءه
بنظريات جوفاء خطؤها أكثر من صوابها، فهي لا تعدو أن تكون تفكيراً من كافر- في جوانب لا يصلح فيها التفكير وإنما جاء بيانها ممن خلق الإنسان - أو تجربة
على حيوان أو على بيئة لا تتفق مع أحوال المسلمين في كثير من القضايا،
وبالتالي جاءت ثمارها غير متفقة بل ونكدة في غالبها.
أرجو الله أن يوفق المختصون للاهتمام بذلك ولا يأخذهم التعصب لتخصصهم، وليعيدوا النظر في كثير من أمور التربية وعلم النفس فهي بحاجة إلى إعادة النظر
وإرجاع إلى أصول صحيحة وأسس قويمة.