محمد العبدة
الحديث عن الشورى في الإسلام يكتسب أهمية بالغة وذلك لخطورة هذا
الموضوع أولاً، وللمعاناة التي عاناها ويعانيها المسلمون من أثر الاستبداد ثانياً،
هذا الاستبداد الذي طال كل شيء: الفرد، والأسرة والتجمعات والدولة، وقد كتب
الكثير حول الشورى، وسيكتب لأنها لم تترسخ بعد نظرياً فضلاً عن أن تترسخ
عملياً، والمقصود هو التطبيق العملي.
إن إعادة الكتابة عنها هو من باب التأكيد والتذكير حتى تصبح قاعدة من
قواعد الدعوة والعمل، ولا يقال هنا: ما الفائدة وصورتها التطبيقية لم تأت بعد،
وحتى تأتي الحكومة التي تقبلها نكتب عنها. والحقيقة أننا لا نكتب عن الشورى
للدولة فقط، بل للدعوة الإسلامية، فالشورى قاعدة مهمة وأصيلة من قواعد بناء
الأمة سواء على مستوى مؤسسة أو دولة أو أي تجمع يريد الخير.
منذ بداية ما يسمى (عصر النهضة) أي من مائة عام تقريباً وأصحاب الغيرة
على الأمة الإسلامية يدندنون حول هذا الموضوع، وسواء أصاب بعضهم أم أخطأ
وسواء خلطوا معها مفهوم الحرية والديمقراطية الغربيين أم كانوا واضحين، المهم
أن الموضوع كتب عنه لأنه من أساسيات النهضة ولم يترسخ بعد، لم يتحول القرار
الفردي إلى قرار جماعي، لم تتحول المؤسسة التي تقوم على جهد جماعة وبدلاً من
تطبيقه عملياً، راح بعض الكتاب يجادلون هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ مع أن
أمر الشورى أكبر من هذا الجدل، فنحن لم نحقق الخطوة الأولى وهي الإصغاء إلى
أهل الخبرة والعلم، لم نتعلم فن الاستشارة، قبل أن ننتقل إلى الشورى كممارسة
لصنع القرار في شؤوننا العامة، إن التشاور بحد ذاته عمل مهم وهو فن لم نتعود
عليه، ولم نتقنه بعد، وقد أدبنا الله سبحانه وتعالى بهذا الأدب في لفتات من كتابه
الكريم، ولكن يغفل عنها الغافلون.
(ففي قوله تعالى للملائكة: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ليعلم عباده أن
أحدهم ولو عظم سلطانه وسما في العلم مكانه، لا يحول ذلك بينه وبين أن يعرض
الأمر على من هو دونه، وقص القرآن علينا من أمر بلقيس أنها قالت للملأ من
قومها بعد أن اتصلت بكتب سليمان عليه السلام [يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا
كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ] والقرآن لا يقص علينا القصص للتفكه بالوقائع
التاريخية، ولكن ليتعلم الجاهلون) [1] ...
ويقول الإمام الطرطوشي منبهاً على أهمية الشورى:
(ولا يمنعنك عزمك على إنفاذ رأيك وظهور صدام لك عن الاستشارة ألا ترى أن إبراهيم -عليه السلام- أمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها فيحمله حسن
الأدب على الاستشارة فيه فقال: [يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا
تَرَى] .
وعدم المشورة يعني الاستبداد (والعمل بالرأي الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه
ما بلغ من الكمالات والمعارف ولا يسوغ أبداً أن يسلم أمر الدولة لإنسان واحد
بحيث تكون سعادتها وشقاؤها بيده ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلاً، وأوسعهم
علماً) [2] .
وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم
فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد،
استخذاء تحت سوط الجلاد وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتسيطر حين يتاح لها
شيء من النعمة والقوة) [3] .
ومن التصوير الدقيق لأثر الاستبداد على النفوس وكيف ينزل بها إلى مستوى
هابط ما ذكره الكوكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) يقول:
(وقد يبلغ من نتائج الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي
إلى طلب (التسفل) بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من
النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها) [4] ...
فإذا كان الاستبداد يصل بالأمة إلى هذه الدرجة فإن ما قصه القرآن الكريم عن
بني إسرائيل وفساد فطرتهم بسبب خضوعهم الطويل لفرعون مصر لهو أكبر شاهد
على ذلك.
ولابد من الرجوع للقرآن الكريم لنرى ما قال المفسرون حول آية الشورى.
ما قيل في آية الشورى:
قال رشيد رضا في تفسير قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (وشاورهم في ...
الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك
من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب
(غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي فيها، فإن الخير كل الخير في تربيتهم على
المشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً لما في ذلك من النفع لهم في
مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من
الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد
وأكبر) [5]
ويقول سيد قطب: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] بهذا النص الجازم يقرر الإسلام
هذا المبدأ في نظام الحكم وهو نص قاطع لم يدع للأمة الإسلامية شكاً في أن
الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.
لقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة (معركة
أحد) أمام ما أحدثته من انقسام في أوج الظروف ولكن الإسلام كان ينشئ أمة
ويربيها ويعدها لقيادة البشرية وكان الله سبحانه وتعالى يعلم أن خير وسيلة لتربية
الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة ولو
كان وجود القيادة الرشيدة يمنع الشورى لكان وجود محمد -صلى الله عليه وسلم-
ومعه الوحي كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى ولكنه لم يبلغ
هذا الحق [6] .
ويقول الطرطوشي: (إذا قيل: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم وواجب
عليهم مشاورته. قلنا هذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ تعالى نبيه عليه السلام به؛ ومن أقبح ما
يوصف به الرجال ملوكاً كانوا أو سوقه الاستبداد بالرأي وترك المشورة) [7] .
قال الرازي في تفسيره: (إنما أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك
ليقتدي به غيره في المشاورة، ولأنه إذا شاورهم اجتهد كل واحد منهم في تحصيل
أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على
حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة
الجماعة أفضل من صلاة المنفرد) [8] .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره: (فإن في الاستشارة من
الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره، منها: أن المشاورة. من
العبادات المتقرب بها إلى الله ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن
المشاور لا يكاد يخطئ في فعله) [9] .