محمد محمد بدري
(تعودنا من أعدائنا تواضعاً لا حاجة لنا إلى شرح دوافعه الخبيثة، فنراهم لا
يضعون توقيعهم على ما يصنعون، فهم يهيئون كل ما يقلب الوضع رأساً على
عقب، يضعون القنبلة ثم ينسحبون بكل تواضع، تاركين لسواهم مهمة تفجيرها
أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإعلام والإذاعة! ! فأعداؤنا يوظفون دائماً مَن يضع
توقيعه على أعمالهم) . [1]
أولاً: حتى لا نُخدَع:
لابد أن نفكر في (الغد) بنفس الدرجة التي نفكر بها في (اليوم) هذه حقيقة.
لكنا لابد أن نعلم أن هذا وذاك من كلا التفكيرين - لن يكون مؤدياً إلى الوعي
الإسلامي الذي لا يُخدع إلا إذا كانت معطيات (الأمس) كلها أمام أنظارنا..
فمعطيات (الأمس) هي المقدمات لحقائق اليوم، وهذه الحقائق هي جذور المستقبل، ومن معطيات الأمس:
دور النخبة العسكرية:
كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود أعداء الإسلام - عن
مواجهته جهرة إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة
وأوضاع في المنطقة كلها تتزيَّا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين
جملة، ثم هي تحت هذا الستار الخادع - تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها
مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى
الطويل [2] .
وهكذا ظهر في (اللعبة السياسية) عنصر جديد في حرب الإسلام هو
(الانقلابات العسكرية) عن طريق شرذمة من العسكريين الذين أُشربوا في ... قلوبهم ثقافة الغرب وتربوا على يديه ونشأوا في كنفه ورعايته! !
يقوم هؤلاء (بثورة) لتخليص شعوبهم من الظلم إلى العدل ومن الاحتلال إلى
الاستقلال - بزعمهم - فتتحقق معادلة الأعداء الشيطانية باستقلال سياسي شكلي
وتغييرات اجتماعية محدودة مع تركيز السلطة في يد فرد مستبد لتكون النتيجة حكماً
عسكرياً يقوم بتصفية الحركة الإسلامية.
وقد قام الأعداء بصنع الكثيرين من زعماء النخبة، وكلما نفق منهم فرد دفعوا
بالآخر إلى مسرح الأحداث.
وقام أفراد (النخبة العسكرية) يثيرون في شعوبهم النعرة القومية، ويتحدون
الغرب في الظاهر! ! ثم هم تحت هذا الستار الخداع ينفذون لأعداء الإسلام كل
مخططاتهم. وفي الجانب الآخر قام هؤلاء (العملاء) بتخريب اقتصاديات بلادهم
وأبقوا عليها في حالة فقر وتخلف وبالتالي تبعية للذين كانوا يستعمرونها! . ثم
خرج زعماء النخبة العسكرية على شعوبهم بمقولات مفادها (الرضا بالأمر الواقع)
و (التعايش مع الغرب) ! ! ويا لها من خدعة خبيثة مجملها (إثارة النعرات القومية
وتخريب الاقتصاد ثم الوصول إلى الأمر الواقع ثم طلب التعايش مع الذين رفضتهم
الشعوب وطلبت الاستقلال عنهم في فترة من الفترات) .
وهكذا يعيد زعماء (النخبة العسكرية) البلاد الإسلامية هدية متواضعة
لأسيادهم في الغرب، أولئك الأسياد الذين يَدين الانقلابيون - زعماء النخبة
العسكرية - بالعبودية لهم. [3]
الحروب المصطنعة:
(إمعاناً في الخداع والتضليل، وإمعاناً من الصهيونية العالمية ... والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروباً مصطنعة باردة أو ساخنة، وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة، ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد) . [4]
وقائع ودروس وعبر الماضي تكشف لنا وجه الحقيقة وتعطينا المناعة
السياسية إذا صح التعبير ضد الخداع والتضليل.
(ففي عام 1956 م قام وزير الخارجية الأمريكي دالاس بسحب عرض بناء
السد العالي مما دفع النظام الناصري إلى تأميم القناة، وعلى أثرها قام الاستعمار
الإنجليزي والفرنسي واليهودي بالاعتداء على مصر) .
ثم ماذا؟ ثم تضغط أمريكا على إنجلترا وفرنسا و (إسرائيل) وتطالبهم
بالانسحاب على هيئة قرار من الأمم المتحدة (متى كانت قرارات الأمم المتحدة
تُحترَم؟ !) .. وتنسحب تلك الدول مع ضجة إعلامية ضخمة تعزو الانتصار إلى
ذكاء القيادة السياسية، وتجمّل وجه أمريكا التي تعمل لصالح الأمم والشعوب
الصغيرة! ! ثم ماذا؟ ثم بما أن النظام الناصري قد انتصر فإنه يمكنه ممارسة
القمع بلا حدود.. فيضرب أساس الفكر الإسلامي، ويحاول استئصال كل أثر
للإسلام في حياة الناس، ومطاردة كل مسلم حتى كان الناس يخافون أن يذهبوا إلى
الصلاة.
ومن بعد عبد الناصر جاء السادات وكانت حرب 1973م وما إن بدأت
الحرب حتى بدأت القيادة السياسية في تكبيل رجال القوات المسلحة، ثم تم اختراق
تلك القوات من قبل العدو والدخول للضفة الغربية للقناة، وكان مما يدعو إلى
العجب وقتها عدم ضرب ما يسمى (بالثغرة) ! ! .. ولكن وسط الضجة الإعلامية
المضللة ظهر السادات في صورة (البطل) الذي هزم (إسرائيل) ولكنه لم يستطع
هزيمة أمريكا! ! وأنه في سبيل إنقاذ الجيش الثالث سيقبل التسوية مما يعني
الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها! ! وكان هذا هو بداية (تحريك القضية) و (تمرير) التسوية والذي استهدفته الإدارة الأمريكية من هذا النصر التكتيكي. [5]
فكان توقيع اتفاق كامب ديفيد وكان من الطبيعي جداً أن تضرب الحركة
الإسلامية بلا هوادة لأنها هي المعوق الرئيسي أمام الاتفاقية والتطبيع، فكان ما كان
من أحداث دامية واعتقالات واسعة للمسلمين!
وهكذا (فعبور القناة مثَّل بالنسبة للسادات ما مثَّله التأميم بالنسبة لعبد الناصر:
إنجاز ذو أهمية قصوى، يمنح النظام الشرعية المطلقة. وفي كلتا الحالتين فإن هذه
الشرعية كانت تستخدم بالتالي لإخماد صوت المسلمين أو محاولة إخماده) [6]
وتتوالى الحرب المصطنعة من أعداء الإسلام لحلفائهم الذين يؤدون أدوارهم من
داخل الحدود ويسحقون لهم الحق وأهله.
حقيقة المعركة:
من يدقق الطرف ويجيل النظر في تاريخ الاستعمار الحديث لبلادنا يعلم أن
هدف المستعمرين محاربة الإسلام وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية.
ويسرف في الخطأ من يعتقد أن عداوة اليهود وسائر أعداء الإسلام لنا،
وحروبهم ضدنا ستتوقف إذا وجدت الأمم المتحدة حلاً لقضية فلسطين أو لبنان أو
أريتريا أو غيرها.
يسرف في الخطأ من يعتقد ذلك؛ لأنه يكون قد جهل أو تجاهل حقيقة أزلية
أخبرنا بها رب العزة في محكم كتابه الكريم؛ حيث يقول - عز وجل -: [ولا
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] ؛ فسيقاتلنا
اليهود والنصارى والشيوعيون والمجوس وكل ملل الكفر، سيقاتلنا هؤلاء جميعاً
مادمنا مسلمين. [7]
وليعد مَن شاء إلى قول سعد جمعة - في كتابه (أبناء الأفاعي) - أنه سمع
بأذنيه تسجيلاً حياً لهُتاف الجماهير اليهودية حينما وصلت إلى (حائط المبكى) بعد
احتلال القدس عام 1967 وهي تصيح بهوس وجنون: (محمد مات وخلَّف البنات
- اليوم انتهى محمد، اليوم قُضي على الإسلام!) [8] ، فحقيقة المعركة التي
يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة هي
معركة العقيدة، ولكن معسكر الكفر يلونها بألوان شتى، ويرفع عليها أعلاماً شتى،
في خبث ومكر وتورية. فهذا علم الاقتصاد، وذاك علم السياسة، والمراكز
العسكرية، وغيرها.
بينما معركة الأعداء معنا هي أولاً - وقبل كل شيء - لتحطيم تلك الصخرة
العاتية التي نطحوها فأدمتهم جميعاً.. صخرة العقيدة. [9]
(والعالم الحر - المزعوم - هو الصليبية في حقيقة الأمر، وزعامة الصليبية تقع دائماً في يد الدولة الأقوى في العالم الصليبي، فحين كانت هي ...
بريطانيا كانت زعامة الصليبية في يدها، ولما صارت هي أمريكا انتقلت الزعامة
إليها بحكم الأمر الواقع) . [10]
ولكن حقيقة المعركة هي معركة العقيدة، وحقيقة المؤامرة هي مؤامرة على
العقيدة، وهي تتم يوماً بعد يوم؛ فعلينا أن لا نلبَس ثوب الغفلة تجاه هذه المعركة
وتلك المؤامرة، حتى لا نُقاد كما تُقاد الأنعام.
ثانياً: نظرة إلى الواقع:
إن أوربا وأمريكا - أو بمعنى أدق (الغرب الصليبي) - لا يزال على
صليبيته.. بل لقد ازدادت حدة هذه الصليبية في السنوات الأخيرة مع ظهور
الصحوة الإسلامية التي يعتبرها الغرب الخطر المستقبلي عليه، ويدل على ذلك
حرص الغرب على التواجد في المنطقة؛ يرصد تلك الصحوة عن كثب ويحاصرها
.. بل ويتعاون مع الشرق في ذلك فتكون الصحوة الإسلامية هي إحدى قضايا قمة
هلسنكي! !
ويدل على صليبية الغرب أيضاً ما يثار هذه الأيام في الإعلام الغربي حول
أحداث الخليج واعتبارها (موقعة) مع الإسلام، وحديثهم عنها ليس فقط (كهدف)
من أهدافهم بل (الهدف) .. و (نقطة الهدف) مع المسلمين. ونراهم يتحدثون من
الآن عما يكون بعد (موقعة الخليج) من تركيب جديد لمنطقة يسمح لأمريكا أن تقوم
بدور أكبر من الماضي كما صرح (بيكر) وزير الخارجية الأمريكي.
وما هو أصرح من ذلك ما قاله (تشيني) وزير الدفاع: (إنني أعتقد أننا
نكتب فصلاً جديداً في تاريخ القرن العشرين واستراتيجية جديدة وعلامات جديدة
نتيجة ما يستهدف العالم من تطورات وعدم استقرار) ! !
كل ذلك وغيره كثير يؤكد من جديد أن الوفاق بين الشرق والغرب إنما هو
(الوفاق ضد الإسلام) وأن معركتهم ضد الإسلام هي (حقيقة المعركة) .
إن تدمير قوة (الأمة) وارجاعها إلى الوراء ولتنتهي حيث بدأت هو هدف من
أهداف أعداء الإسلام، وقوة العراق كشعب مسلم أمر يخشاه هؤلاء الأعداء؛ ليس
لأن صدام لا يسير في ركابهم - فهذا أمر لا شك فيه - ولكن لأن هذه القوة قد
تصير يوماً لمن لا يسير في ركابهم! !
ولذلك فهم حريصون على تدميرها ويخططون لذلك من وقت بعيد فقد جاء في
مقال نشر في صحيفة (كيفونيم) اليهودية - بتاريخ 14 من فبراير عام 1982م:
(وأما العراق فهو غني بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككه أهم
بالنسبة لنا من تحلل سورية؛ لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد
لإسرائيل.
وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم العراق داخلياً قبل أن يصبح
قادراً على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا) ! ! [11]
وهذا يجعلنا نتساءل هل يكون غزو الكويت هو تنفيذاً جزئياً لمخطط خارجي
وهل تمتد المؤامرة إلى تقسيم وتمزيق العراق جغرافياً؟ ! ؛ لتدخل المنطقة مرحلة
الدويلات الصغيرة؟ ! !
وفي ظل هذا الفهم.. هل يمكن اعتبار التصريحات القوية هي لون من ألوان
(الحروب المصطنعة) التي تبعد الشبهة عن العملاء؟ !
وأخيراً.. فإن القوات الأمريكية التي جاءت باسم الحفاظ على الشرعية
الدولية والقانون الدولي.. كان تدخلها سريعاً بل فائق السرعة وشديد الكثافة
والتطور والقوة التدميرية وهو أمر قد يراد منه بث الرعب في نفوس المسلمين
وإشعارهم (بالهزيمة الداخلية) والضعف عن مواجهة الغرب ومدافعته، وهو هدف
بحد ذاته لأنه من يهزمه عدوه من داخله فإنه لا يبقى أمامه إلا أن يصفي الساحة من
فلول عاجزة دون جهد أو تعب..
أمتنا اليوم:
من الواجب على المسلم أن يرى الحياة من خلال واقعه وليس من خلال أمانيه، ولذلك فإنه من العبث أن نستغرق الوقت ونبذل الجهد في محاولة تجميل وتزيين
لصورة واقعنا الذي نعيشه..
فواقع أمتنا اليوم لم يحدث من قبل، (لقد أحاط بنا عدونا وأرهقنا وأوصلنا
إلى مرحلة الشتات والفرقة والهزيمة النفسية والاحباط.. بل والوهن والاستكانة
وفقدان الانتماء للأمة وانعزال كل فرد في داخل نفسه وفي همه الفردي) ، ودخلت
الأمة مرحلة (القصعة) وتداعت عليها الأمم، وأصابها النذير الذي حذرها منه
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
ولسنا نريد أن نساهم في صور اليأس والإحباط التي بلغت مداها في أمتنا
اليوم، ولكنا نريد أن نؤكد أن واقعنا اليوم لا يخرج في حقيقته عن أن يكون نتيجة
طبيعية للمقدمات التي صغناها بأيدينا، فنعرف حقيقة التحدي الذي يواجهنا ونجمع
طاقاتنا النفسية والمادية لتبدأ عملية الإقلاع من جديد.
ثالثاً: ماذا بعد موقعة الخليج؟ !
بعد ما ذكرناه من حقائق، وما كشفناه من مؤامرات، يواجهنا التساؤل الذي ...
لا مفر منه والذي نعتقد أنه قفز ولا شك إلى ذهن القارئ، ما الذي يجب أن نفعله؟ ! كيف نواجه المؤامرة والمتآمرين، ونقطع دابر الغزاة المفسدين؟ ! كيف ننتقل
بأمتنا من التبعية إلى الريادة؟ ومن الاستضعاف إلى التمكين؟ ومن الفرقة والضعف إلى الائتلاف والقوة؟ !
(أظلمكم وأظلم نفسي إذا زعمت أنني وحدي قادر على تحديد الجواب الكافي ...
وتعيين الحل الشافي. أظلمكم وأظلم نفسي لأن القضية ليست قضيتي وحدي، وإنما
هي قضية كل كاتب ومفكر وداعية ينتمي لأهل السنة والجماعة) . بل هي قضية
كل مسلم من هذه الأمة، فالمسئولية عن الإسلام والمسلمين هي مسئولية كل من
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على تفاوت في الدرجات بتفاوت
الاستعدادات، والقدرات، والمواقع، والظروف. (فليشارك هؤلاء جميعاً في
وضع الحلول الناجعة لأخطر مشكلة من مشكلات المسلمين في هذا
العصر) . [12]
وإذا كنت عاجزاً عن وضع الحلول لهذه المشكلة فلا أقل من توجيه نصيحة
لإخواني المسلمين، لعلها تكون جزءاً من إطار هذا الحل.
إحياء الأمة:
لابد من الطريق الطويل الشاق البطيء الثمرة (لإحياء الأمة) التي تسند حكم
الإسلام حين تقوم وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن تقوم. ويتم إحياء
الأمة بدعوة التوحيد الواضحة على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب
الأهواء واختلاط العقائد.
وذلك عبر مراحل:
- (الانتصار للتوحيد) بتصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها.
- (ملء الفراغ الديني) بدعوة الناس إلى أن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام.
- (إحياء التوجه الإسلامي) بالانطلاق بهذا المفهوم انطلاقاً جاداً يتربى خلاله
الأفراد على الأخلاق الإسلامية، وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات
والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة من
معسكرات الأعداء.
فلابد من (صفوة) تحمل الحق.. و (أمة) تحمي هذا الحق. (أمة) قامت
على مرتكزات عقائدية ثابتة؛ فصار لها ولاء ثابت، وهوية ثابتة، وشخصية ثابتة، وتوجه ثابت.
وهذه (الأمة) بتلك المواصفات هي التي تغلق - بعون الله - الطريق على
عودة الانقلابيين من زعماء النخبة العسكرية في المستقبل، وبالتالي تخرج من
التبعية للغرب. بل وتقتل طموح الغرب في هزيمة المسلمين.
وهكذا نحن ننطلق من واقع [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ
اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] ؛ لنصل إلى مستقبل [اليَوْمَ يَئِسَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن
دِينِكُمْ] [المائدة: 3] وذلك بحول الله وتوفيقه ثم بعملنا على (إحياء الأمة) . [13]
الصف المرصوص:
(من أبرز مشكلات العمل الإسلامي تفرق الجماعات العاملة في الساحة الإسلامية وتمزقها، وقيام بعضها بحرب بعض) [14] ، وبينما أمرنا خالقنا أن لا نختلف كما اختلف اليهود والنصارى؛ فقال - عز وجل -: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] . بينما أُمرنا بذلك يمثل واقعنا اليوم عجزنا عن تحقيق وحدة بين المسلمين كتلك الوحدة أو التعاون الذي حققه اليهود أو النصارى فيما بينهم.. وهذه هي الطامة الكبرى والبلية العظمى؛ فتعدد الاتجاهات إذا تحولت الى حزبية، وأهواء شخصية، ومنافع دنيوية خطر عظيم إذا كان المنتسبون إلى هذه الأحزاب من أهل السنة والجماعة!)
(ولعل ما نعيشه من محنة تكون فرصة للعاملين في الحقل الإسلامي ليوقفوا
التراشق فما بينهم وليعيدوا النظر في مهمتهم، ويدركوا أنهم يحملون أشرف دعوة
ويعملون لأنبل غاية، فيوطنوا أنفسهم، ويعاهدوا الله أن يكونوا بمستوى إسلامهم
وعصرهم فيتخلص العمل للإسلام من التمحور حول النفس والطواف حول
الذات) . [15]
ويدرك الجميع أنه لكي تظهر (الأمة) لابد من ترك الولاء الحزبي الضيق
للجماعات المتفرقة، ولكي تظهر (التضحية) لابد من التخلي عن المكاسب الدنيوية
.. فيتكون لدينا صف مرصوص يؤمن أن الأصل في حياة المسلمين هو الإسلام،
وكل حركة من الحركات أو جماعة من الجماعات هي وسيلة لخدمته، ولا يجوز
بحال من الأحوال أن نضع الوسيلة في مستوى الغاية أو نعطيها مكانها، ونحلها
محلها.
إعداد العدة:
هناك حقيقة أولية لابد أن نتيقَّنها ونحن نتحرك بالإسلام، وهي أن ما نسعى
إليه من أهداف إنما يتحقق بجهودنا وفي حدود طاقاتنا الواقعية.
فنحن مأمورون أن نتعامل مع سُنة الله الجارية وإن كنا لا نكف عن التطلع
إلى رحمة الله في كل لحظة.. تلك السنة التي يقول عنها ربنا - في كتابه العزيز -
[وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] [الأنفال: 60] ، وقال جل وعلا: [هُوَ الَذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ] [الأنفال: 62] .
وإعداد العدة يشمل جوانب كثيرة، علمية وتربوية واقتصادية، وعسكرية..
وغيرها.
فلابد من إعداد كل فرد في الأمة - إن استطعنا - إعداداً عقائدياً ونفسياً
وتربوياً بحيث يراعي هذا الإعداد فرز (أُولي الألباب) لميادين القيادة وتوظيف
الطاقات تبعاً لقدراتها العقلية واتجاهاتها النفسية واستعداداتها العملية بعيداً عن
مؤثرات العلاقات والروابط الشخصية ومقاييس العصبية والإقليمية والطبقية.
وفي إطار عمل عام يركز على العمل الجماعي وروح الفريق بدلاً من
المبادرات الفردية، ثم تجسيد هذا العمل الجماعي في صورة مؤسسات متخصصة،
فيكون لدينا مجموعتان: مجموعة فكرية ومجموعة تطبيقية.
فأما المجموعة الفكرية فمهمتها ابتكار الاستراتيجيات اللازمة في جميع ميادين
العمل وتطوير هذه الاستراتيجيات حسب متطلبات الزمان والمكان.
وأما المجموعة التطبيقية فتكون مهمتها تنفيذ الجزء المتعلق بميدانها من
الاستراتيجيات التي أفرزتها المجموعة الفكرية.
ولا نود في هذا المكان الاسترسال في تفاصيل هذا الأمر فله موضعه، ولكنَّا
نريد أن نقول إنه ما لم يتزاوج الإخلاص مع الاستراتيجية الصائبة في تعبية القوى
البشرية في الأمة، وإعداد العدة التي أمرنا الله فإن مستقبلنا لن يحمل لنا إلا
الكوارث المتلاحقة التي يرتكبها الطغاة الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
حذارِ من اليأس:
إلى كل المسلمين الذين تؤرقهم حال الأمة، وتقضّ مضاجعهم، أقول: إن
الطريق إلى الخروج من أزمتنا سهل وميسور حين نقوم بإحياء الأمة وتوحيد
الصفوف وإعداد العدة والسير في طريق التغيير.
ومع ما نعيشه من واقع أليم (فنحن على يقين بأن الشدائد والمحن تصنع الرجال، وتبصر الأمة بأعدائها الحقيقيين، وأن اشتداد التحدي يصقل الرجال، ويقيم الحضارات، ويقضي على الخلايا الشائخة الأمة) .
(وقد مر على المسلمين في تاريخهم أوضاع لا تقل سوءاً عن أوضاعنا المعاصرة.. وعندما قيض الله لهم من يقودهم تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، ويقضي على الخونة تحولت هزيمة المسلمين إلى نصر وانحسارهم إلى مد) .
(فالأمل في الله أكبر، والثقة في هذا الدين أعمق وهم يمكرون والله خير الماكرين) .