مجله البيان (صفحة 768)

دروس من انتخابات الجزائر

عبد المنعم جمال الدين

تعددت ردود الفعل تجاه نتائج الانتخابات البلدية التي أُجريت في الجزائر

والتي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأكثر من 55 % من الأصوات بينما لم

يحز حزب (جبهة التحرير) الحاكم منذ ثمانية وعشرين عاماً - إلا على 22% ...

تقريباً من الأصوات. ويمكن تلخيص ردود الأفعال هذه في كلمتين: قلق وفرح،

قلق من أعداء الإسلام، وفرح من المسلمين.

وقد أرجع القلقون شعورهم إزاء فوز الإسلاميين لأسباب تعددت بتعدد

مصادرها، فعامة الغرب يخشون من تهديد الإسلاميين لمصالحهم في الجزائر كما

يخشون من علو المد \الإسلامي - تأثراً بالجزائر - في سائر المنطقة العربية مما

يهدد مصالحهم - حسب ظنهم - فيها. [1]

أما رجال الأعمال الغربيون فقد عبروا عن قلقهم لما يعنيه هذا الفوز من

مخاطر - لم يحددوها - على استثماراتهم التي كانوا يزمعون توجيهها إلى الجزائر، فضلاً عن قلقهم على القروض المستحقة على الجزائر. [2]

وبعد ذلك تأتي المخاوف الداخلية والتي تعد امتداداً للتفكير الغربي حيث عبر

عنها محليون - التابعون للغرب فكرياً - نيابة عنه، ويمكن تلخيص هذه النوعية

من المخاوف في ثلاث نقاط هي:

1- أن الإسلاميين يمثلون العصور الوسطى المتخلفة بظلام جهالتها. [3] ...

2- أن الإسلاميين سيهددون الحريات وحقوق الإنسان. [4] ...

3- أن الإسلاميين سيهددون حقوق المرأة. [5]

وهذه المخاوف المتعددة لا تمثل نشازاً في موقف الغرب - وأتباعه المحليين

- من الحركة الإسلامية فهي متسقة تماماً مع مواقفهم عبر تاريخنا الحديث

والمعاصر، كما أن رد الإسلاميين على هذه المخاوف لم يشذ هذه المرة، بل ظل

متناغماً مع مواقفه السابقة، إذ ظل الإسلاميون - طوال تاريخهم الحديث والمعاصر

- فريقين إزاء هذه الاتهامات:

الفريق الأول: لا يبالي ولا يرد، وأكثرهم من الملتزمين بأصول أهل السنة

والجماعة اعتقاداً واستدلالاً.

الفريق الثاني: يحاول أن يرد، فيتخبط في رده، فتارة يأتي خطابه مبهماً لا

يفي بالغرض ولا يكفي إلا لتثقيف الأتباع، وتارة أخرى يأتي منحلاً من الالتزام

بالمنهج الإسلامي الصحيح حسب أصول أهل السنة والجماعة.

ولتتطور الحركة الإسلامية نحو الأفضل لابد من تطوير موقف فريقي الحركة

الإسلامية. فيتعين على الفريق الأول أن يعي طبيعة العصر ومطالبه وتحدياته فيعي

الواقع بكل جزئياته جيداً، وبتمثل الشرع الحنيف بأفق متسع فيُنزِل أحكامه الحكيمة

وتشريعاته الرحيمة على الأحداث المتجددة دون تشدد غالٍ، أو ترخص جافٍ.

ويتحتم على الفريق الثاني أن يزيد من وعيه بالواقع ومتطلباته مع التركيز

الخاص على دراسة أصول أهل السنة والجماعة دراسة عميقة في مجال الاعتقاد

وأصول وقواعد الاستدلال والاستنباط، وذلك حتى يتسنى لهم الانضباط بالشرع

أثناء استجاباتهم لتحديات العصر.

ثم يجب على الفريقين - حينئذ - أن يترفعا عن أن تكون حركاتهم مجرد

ردود أفعال، حيث الفعل من نصيب أعدائهم ورد الفعل من نصيبهم، وذلك الترفع

لا يعني عدم التجاوب مع الأحداث بل يعني صنع هذه الأحداث والتحكم فيها، ولن

يتم ذلك إلا إذا أخذوا بزمام المبادرة بأن يضعوا تصوراً متكاملاً لأهدافهم النهائية

والمرحلية، ويحددوا لكل منهما وسائل عبر خطط مفصلة ذات برامج زمنية قصيرة

ومتوسطة وطويلة المدى.

حينئذ تكون الأفعال المختلفة بناءً على دراسات شرعية وواقعية، بحيث تدفع

أعداءها إلى ردود الأفعال النافعة لأهداف الحركة الإسلامية.

ويدخل في نطاق هذه الدراسات الإسلامية حول مجالات الحياة الدنيوية

النظرية من مثل ضوابط المعرفة، وحدود العقل ومجالاته، وعلاقة الإنسان بعالم

الأسباب، والعلل الكونية ومعلولاتها، ثم تنتقل هذه الدراسات إلى مجالات يبتعد

أثرها قليلاً عن المجال النظري من مثل حقوق الإنسان وواجباته، ويدخل في هذا

الموضوع موضوع حقوق المرأة وواجباتها باعتبارها إنساناً، ويدخل في هذا المجال

- المجال الأقرب للواقع العملي - دراسة الواقع الدولي وكيفية التعامل معه، والنظم

السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الإسلامية.

إن إتمام دراسة هذه المسائل وأمثالها دراسة شرعية وواقعية من المنظور

المذكور آنفاً يؤدي إلى منافع جليلة جداً نلخص أهمها فيما يأتي:

1- تنظيم عقلية المسلمين عامة والدعاة منهم خاصة بأسلوب علمي إسلامي

يمكِّنهم من القيام بأدوارهم على أكمل وجه ديناً ودنيا، مما يعود بالنفع على قضية

الإسلام في المجال التطبيقي العملي عندما تسنح الفرص لذلك.

2- هذه الدراسات ستمثل الزاد الرئيسي - إن لم يكن الوحيد - لإتمام وعي

المسلمين عامة والدعاة خاصة بحقيقة الإسلام المراد تطبيقه مما يحُول دون الالتفاف

حول إرادتهم واستغلال آمالهم من قِبَل بعض دجاجلة السياسة ومغامريها لتحقيق

شهواتهم السلطوية.

3- هذه الدراسات ستلعب دوراً رئيسياً وفعالاً في تربية الجيل المسلم الجدير

بتأييد الله - عز وجل - لأن التصورات الإسلامية في مجال المعاملات تعتمد على

أحداث الواقع، وتتجدد الاستنباطات المتعلقة بها بتجدد جوانبها الواقعية، مما يعني

أن جمودنا واعتمادنا على ما كُتب في عصور سالفة في بعض مسائل هذا المجال -

هو من قبيل الخطأ العلمي [8] ، كما أن بعض المسائل المتعلقة بالواقع - واقع

الإنسان أو واقع الأشياء - في العبادات لا سيما القلبية منها تحتاج إلى تجديد فهمنا

لها عبر النصوص الشرعية الملزمة مباشرة من منظور واقعنا الذي نعيشه يومياً

لإحداث التكييف الشرعي اللازم في حياتنا حتى يمكننا الاستفادة منها إلى أقصى حد

لتحقيق هدفها وهو تزكية النفس، ثم برضاء الله (عز وجل) .

4- ستؤدي هذه الدراسات إلى زيادة إيمان عامة المسلمين لتقديمها للنموذج

المرجو من الحياة الإسلامية المعاصرة، مما يدفعهم لمعرفة حقيقة الإسلام وحقيقة

الجاهلية المعاصرة؛ فيتميز الحق عن الباطل، ويزيد إيمانهم بالحق وهجرهم

للباطل.

5- سيؤدي عرض هذه الدراسات لتصورات الإسلام للحياة الدنيا إلى دفع

المنصفين من غير المسلمين إلى البحث في الإسلام والتعرف عليه، ثم الإيمان به،

كما سيدفع بعض أعضاء معسكرات المحاربة إلى معسكرات الحياد على الأقل،

وسيخفف من حدة عداوة بعض الأعداء، وكل مكسب من هذه المكاسب لا يستهان

به.

6- إن هذه التصورات هي حجر الزاوية، بل هي الأساس الذي ينبغي أن

يقوم عليه أي بناء إسلامي مجتمعي وسياسي قادم؛ لأن مشكلة الأمة الإسلامية لا

تكمن في غياب السيطرة السياسية للمسلمين بقدر ما هي أزمة التزام بالشرع ثم أزمة

حضارية، فلابد من إصلاح كلا الجانبين بقدر غير يسير قبل قيام صرح المجتمع

والدولة الإسلاميين.

وأخيراً ... فإن كل نقطة من هذه النقاط جديرة بأن تفرد بالدراسة، فلعل الله

يوفقنا إلى ذلك في مناسبة أخرى ونكتفي هنا بالإجمال خشية الإطالة ولكننا نختم

مقالنا هذا بالتأكيد على الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة كعقيدة وأصول استنباط

واستدلال وبحث مع إدراك حقيقة الواقع وتحدياته حتى نتجنب المزالق الحالية التي

هي مظنة الوقوع فيها من قبل الكثيرين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015