د. مأمون فريز جرار
إننا نجد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً على أن يظل المسلم بعيداً
عن الفتن، لا يشارك فيها بسيف، بل ينأى عنها إن استطاع، فهو يوصي المسلم
أن يتلف ما كان بين يديه من وسائل الفتن، بكسر السيف أو دق حده بحجر لكيلا
يستخدمه أحد في الفتنة، وكسر القسي وتقطيع الأوتار، ولننظر في هذا الحديث
الذي يرويه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون
فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا
نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه،
ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من
لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر،
ثم لينجو إن استطاع النجا. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟
قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد
الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال:
يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار [1] ) .
ويروي أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن
بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً،
ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من
الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل
على أحدكم فليكن كخير ابنيّ آدم» [2] .
وبيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلم ما يفعله عند وقوع الفتن وهو
الاكثار من العبادة وذلك في قوله:
«العبادة في الهرج كهجرة إليّ» [3] .
ولم يقتصر تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن على توجيهات
تكف المسلم عن المشاركة فيها بالسيف، أو على الفرار منها بل نجد إلى جانب ذلك
تحذيراً من دعاة الفتنة الذين يدعون الناس إلى النار، ونجد بياناً بصفاتهم حتى
يحذرهم المسلم، وأمراً نبوياً لطريق التعامل معهم. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فأن تموت وأنت عاض على جذع
شجرة خير لك من أن تتّبع أحداً منهم» [4] .
وجاء في حديث آخر عن حذيفة فيه شيء من التفضيل عن هؤلاء الدعاة: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون دعاة على أبواب جهنّم من أجابهم
إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا، يتكلمّون
بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال فالزم جماعة المسلمين وإمامهم،
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة
حتى يدركك الموت وأنت كذلك) [5] .
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ما سيطرأ عليهم من
الفتن من خارج مجتمعهم، وما سيكون بينهم وبين أعدائهم من الملاحم، فحدثهم عن
الدّجال وفتنته، ونصر اليهود له، وأن منهم سبعين ألفاً من يهود أصبهان، وبيّن
لهم من أين سيخرج، وأين سيبلغ من الأرض، وما الذي يفتن الناس به، وما الذي
يعصم منه ... كل ذلك في تفصيل دقيق عجيب، يدل على مدى حرص النبي -
عليه الصلاة والسلام- على تأمين السلامة للمؤمنين في عصره وفي العصور التالية
إلى يوم القيامة.
وسأورد لمحات منها ومن شاء التفصيل فليرجع إلى مواطنها [6] .
لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان خروج الدجال فقال: «إنه ...
خارج خلّة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله
فاثبتوا» [7] .
ولنقف عند هذا النداء النبوي الكريم الذي يخترق القرون ليبلغ أسماع مؤمني
ذلك العصر يدعوهم إلى الثبات، ويدلّهم على ما يعصمهم من الدجّال بقوله: «فمن
رآه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف» [8] ويبطل لهم بنصائحه سحر الدجّال
الذي يخيّل إليهم الأشياء على غير حقيقتها فيقول: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه،
معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والأخر رأي العين نار تأجج،
فإما أدركنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمضّ ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه،
فإنه ماء بارد، وإن الدجّال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب» [9] .
وحدّث المسلمين عمّا سيكون بينهم وبين اليهود في آخر الزمان وقبل قيام
الساعة من قتال: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم
المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر:
يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد، فإنه من شجر
اليهود» [10] .
ويحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صراع يقع بين المسلمين والروم
الذين يغزون بلاد الشام، ويغزوا المسلمون بلادهم، ويحدثنا عن فتح القسطنطينية، وهو فتح آخر غير الذي تم من قبل، وهذا القول ليس من عندي بل يدل عليه
هذا الحديث الصحيح الذي يربط بين ذلك الفتح وظهور الدجّال على أثره، ولنقرأ
هذا الحديث بإمعان: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق،
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت
الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سبوا منّا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخليّ
بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم، ويقتل ثلثهم،
أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية،
فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: (إن
المسيح قد خلفكم في أهلكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج،
فبينما هم يعدون للقتال يسوّون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم
-عليه السلام-، فأمهّم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه
لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [11] .
وللنظر في الحديث التالي وما فيه من (الفقه السياسي) ثم ما فيه من الأخبار ...
عن الملحمة الكبرى التي ستكون بين المسلمين والروم. قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (ستصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، ... فتنتصرون وتغنمون وتسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول: غلب الصليب! فيغضب رجل من المسلمين فيقوم اليه فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة، وفي زيادة: فيجتمعون للملحمة حينئذ تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفا [12] ) .
ويبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض أنصار الدين في زمن الملاحم فيما
يرويه أبو هريرة (إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثاً من الموالي هم أكرم العرب فرساً، وأجوده سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين [13] ) .
أما بعد:
فإني لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أن أستقصي أو أن أستوعب، وإنما
هي شذرات منها أردت أن أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه
أحاديث الفتن وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألفّ كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة،
ولكنّ مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل من أوتي فهماً في حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وبصيرة في أحداث التاريخ والواقع. لقد ربط ابن كثير
في البداية والنهاية بين أحاديث الفتن، ولكنه وقف في ذلك على عصره، وبقيت
العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبؤات النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
ولعل قائلاً يقول: أي فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط
والتنظيم الدقيق؟ أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع أو الاستنامة
على نبؤات؛ الله أعلم بها متى تقع؟
وأقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم
يلحّ في الحديث عن الفتن لتسوّد بها صفحات من كتب الحديث، أو لتفرد في
مؤلفات تقرأ للبركة وتبيّن صدق نبوته -عليه الصلاة والسلام- فحسب! وإنما قالها
ليفقهها عنه المسلمون المعنيون بها في كل عصر من العصور، أنها جزء من
الرسالة التي حمّلها وأشهد عليها بقوله (ألا هل بلغت) والمطلوب من المسلمين
فهمها كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تفهم، والعمل بالوصايا التي
ضمّنها إياها.
إن كثيراً من الأحاديث إنما هي أشبه بالرؤيا! ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا
من آتاه الله علم تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشّح لدراسة هذه الأحاديث
وفقه ما فيها وبث هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا
مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس ويتبع بغنمه شعب الجبال ومواقع
القطر يفر بدينه من الفتن، وعلينا أن نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون
بدينهم ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم
وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون
به؟
إن البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده،
بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي
عمل اسلامي لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظل في رأيي غائم الوجهة والأساليب.
بل إن فقه أحاديث الفتن ضروري للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريب
الحديث الذي بين أن المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو
مشترك! وإن من يفقه أحاديث الفتن يستطيع من خلال إدراكه لروح العصر أن
يمتلك وعياً سياسياً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد! ! . وأضرب عل ذلك مثلاً
سمعته من أحد الثقّات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن، هو الشيخ الدبّاغ،
لقد كان هذا الشيخ يقول للناس ويقسم أن بريطانيا وحلفاءها سينتصرون في الحرب
العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك! بل لقد أسرّ إليه بعض
المقربين أن الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا: وقد بيّن
الشيخ -رحمه الله- الأساس الذي بنى عليه يقينه وهو أنه ربط بين حديث الرسول
- صلى الله عليه وسلم - الذي بين أن المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة،
وبين أحداث عصره، فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة
قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور وما تلا ذلك من أحداث ولن تقوم لليهود دولة إلا
إذا انتصرت بريطانيا! ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة! وقد
كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفسرّ به أحداث
عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أن يكون! ! وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى
مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرة الروم (أي النصارى) في آخر الزمان،
وقتال المسلمين لهم، ومواضع هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية ورومية، ونصر
اليهود للدجّال وقتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- له في باب اللدّ في فلسطين،
ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام أفراداً وجماعات ودولاً!
إن البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل وليس من
باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط والتفكير والتدبير
المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وللنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث وما فيها
من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن. مما سبق ذكره ومما هو مفصل في
كتب الصحاح.. ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نوكل إلى نفوسنا وتخطيط عقولنا أم
نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟ !
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي والتاريخ وفقه الواقع
المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين ليكون
هداية لهم.. وليعرفوا مدى حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وحرصه على
نجاتهم من الفتن.. ويجدوا وهم يقرؤون ذلك تفسيراً عملياً لقول الله -عز وجل-
في وصف نبيه -عليه الصلاة والسلام-: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] .