مجله البيان (صفحة 693)

أخلاق

الوفاء بين الجاهلية والإسلام

محمد الناصر

يعتبر الوفاء من أخلاق العرب الأصيلة، حيث إن الرجل منهم كان ينطق

بالكلمة فتصبح عهداً، عليه أن يفي به وإلا عرّض شرفه للتجريح، وكان الغدر

معرة يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليشهروا به،

وفي ذلك يقول الحادرة (قطبة بن محصن) ، إنهم لم يغدروا وإنهم لن يأتوا ما يشكك

حليفهم فيهم: [1]

أَسُمَيَّ ويحكِ هل سمعتِ بغَدْرةٍ ... رُفع اللواءُ لنا بها في مجمعِ

إنا نَعْفُّ فلا نُريبُ حليفَنا ... ونَكُفُّ شُحَّ نفوسِنا في المطمعِ

وبسبب اهتمام العرب بهذا الخلق نصروا الحلفاء، وذبّوا عن الجيران، وقد

كان هذا الخلق متعدد الأشكال والألوان، فوفاء لمن يجاورون، ووفاء لمن يعاهدون، ووفاء لمن يحبون، ووفاء لمن يصنع معهم معروفاً [2] .

ولم تكن أخلاق القوم نظرية صورية، وإنما كانت واقعاً ضربوا به الأمثال

وهى كثيرة نكتفي بنماذج منها.

وخير نموذج لذلك ما فعله عبد الله بن جُدعان في حرب الفِجَار التي دارت

بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح

هوازن، فقال له عبد الله: أبالغدر تأمرني يا حرب؟ ! والله لو أعلم أنه لا يبقي

منها إلا سيف، إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طُعنت به ما أمسكت منها شيئاً.

وكان من وفائه أن العرب إذا قَدِمت عكاظاً دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن

جدعان، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى

مضارب قومهم [3] .

ومن أنواع الوفاء: وفاء العربى لأهل عصبيته، فليس له أن يخالفهم مهما

كانت درجة الخلاف معهم لأنه واحد منهم وما يصيبهم يصيبه، وقد عاب الناس

الغادر وعيروا به، فإذا شتموا شخصاً، قالوا له: يا غُدَر [4] .

إن قصص الوفاء فريدة عند أهل الجاهلية، وممن ضُرب بوفائه المثل:

عمير بن سلمى الحنفي، إذ استجار به رجل من بني عامر بن كلاب، وكانت معه

امرأة جميلة، فرآها (قرين بن سلمى الحنفي) أخو عمير، وصار يتحدث إليها،

فنهاها زوجها بعد أن علم فانتهت فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله،

وعمير غائب، فأتى أخو المقتول قبر سلمى وعاذ به، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى

إلا قتله أو أن يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ الدية ولو ضوعفت، فأخذ

عندئذ عمير أخاه وقتله لغدره وفاءً لجاره [5] .

كان الجاهلي إذا قال كلمة وفى بها، ولو أدت به إلى القتل، أو إلى قتل

قريب عزيز عليه، فالرجل الحنفي قتل أخاه، كل ذلك وفاءً بالعهود والمواثيق،

وأين من هذا الوفاء ما يحصل من غدر في أيامنا هذه؟ وما بال الوفاء يئن جريحاً

عند كثير من الناس حتى الطيبين منهم؟ ! فكثرت الشكوى وعم البلاء؟ !

على أن هذا الخلق وإن اتصف به أكثر العرب إلا أن لكل قاعدة شواذ

والأمور نسبية، إذ كان الغدر (كذلك) منتشراً معروفاً، يقول امرؤ القيس ذاكراً

انتشار الغدر بين بعض القوم [6] :

إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرَّت به العينان بدلت آخرا

كذلك جدي ما أصاحب صاحباً ... من الناس إلا خانني وتغيرا

ويقول أوس بن حجر [7] :

وإنى رأيت الناس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التنقُّلا

الإسلام والوفاء:

إن الوفاء الذي كان في الجاهلية يتمثل في حفظ جوار - وعدم نقض حلف،

أو أداء أمانة - تحول في الإسلام إلى حفظ للعهود عامة، وأداء للذمم والأمانات

عامة، سواء اكانت للأصدقاء أم للأعداء، وذلك استجابة لأوامر ربهم وتأسياً بسيرة

نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» متفق

عليه.

وقد نوه القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء فقال في

سورة النجم: [وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى] [النجم: 37] ، وذلك أن إبراهيم - عليه

السلام - بذل غاية جهده في كل ما طُولب به من ربه، فبذل ماله في طاعة الله،

وقدم ولده إسماعيل قرباناً لله حتى فداه ربه، واحتمل الابتلاء في الاحتراق بالنار

في سبيل الله حتى جعلها الله برداً وسلاماً عليه، وأشار القرآن إلى وفاء إسماعيل -

عليه السلام - في قوله: [واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وكَانَ

رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 54] ، فقد كان إسماعيل مشهوراً بهذه الصفة، وحسبنا أنه

وعد بالصبر على الذبح وقال لأبيه: [افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ

الصَّابِرِينَ] [الصافات: 102] ؛ فوفى بعهده وصدق في وعده فكان من

المخلصين [8] .

ومن أمثلة وفائه (عليه الصلاة والسلام) - وهى كثيرة - موقفه يوم الفتح من

عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية، عندما طلب من علي - رضي الله

عنه - ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فقال -صلى

الله عليه وسلم-: «أين عثمان؟» فدُعي له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان،

اليوم يوم بر ووفاء» [9] .

وبعد صلح الحديبية عندما جاء أبو بصير هارباً من مكة، وجاء رجلان من

قومه يطلبان رده حسب الشروط، فأبى النبى إلا أن ينفذ شروط الصلح، ولما تألم

أبو بصير من ذلك حتى لا يرجع إلى المشركين فيفتن عن دينه - قال الرسول -

صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت من

العهد، ولا يصلح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين

فرجاً ومخرجاً» وقد حقق الله -تعالى - ظن رسوله؛ إذ وجد لهؤلاء المستضعفين

الفرج والمخرج كما هو معروف في كتب السيرة.

وصار موكب الصحبة الطاهر على هدي هذه الأخلاق الوفية، يضحون

بالغالي والرخيص، امتثالاً لأوامر ربهم، وأسوة بوفاء نبيه، واتبعتهم في ذلك

الأجيال المؤمنة على مر العصور.

والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون

هذه الثقة لا يقوم مجتمع ولا تقوم إنسانية، وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء

بالعهود فلم يتسامح فيها أبداً لأنها قاعدة الثقة، التى ينفرط بدونها عقد الجماعة

ويتهدم [10] . قال - تعالى -: [وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ

بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً] [النحل: 91] .

ولعل أجمع الآيات القرآنية لأنواع الوفاء قول الله - تبارك وتعالى - في

سورة المائدة: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ، ولذلك قال رشيد رضا: إن

أساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة: [أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ] ، لأنها تفيد أنه يجب على كل مسلم أن يفي بما عقده وارتبط به، فكل

قول أو فعل يعده الناس عقداً فهو عقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله - تعالى - ما

لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام " [11] .

الإسلام يحارب الغدر والخيانة:

عندما مجد الإسلام فضيلة الوفاء حمل أيضاً على الخيانة والغدر حتى مع

الأعداء، يقول - سبحانه وتعالى-: [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ

المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا] [المائدة: 2] وقال أيضاً: [إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ

كَفُورٍ] [الحج: 38] .

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم

القيامة، يرفع لكل غادر لواء يعرف به، فيقال هذه غدْرة فلان» رواه البخاري.

ولقد حرم الإسلام اتخاذ المصلحة سبباً في نقض العهد، وكان بعض

المشركين من العرب يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-

بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة بينما قريش كثرة قوية فنبههم إلى أن هذا ليس

مبرراً لأن يتخذوا قسمهم غشاءً وخديعة: [تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ

هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ] [النحل: 92] أي بسبب كون أمة أكثر عدداً وقوة من أمة،

وطلباً للمصلحة مع الأمة الأقوى.

ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهود تحقيقاً لما يسمى الآن مصلحة

الدولة.. فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ويجزم بالوفاء بالعهد.. وعلى هذا الأساس

قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية.

لقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين

بعهدهم ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في إيمانهم.. فكان الكسب أضخم

بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التى نشأت عن تمسكهم بعهودهم [12] . هكذا

كانت علاقة المسلمين حتى مع أعدائهم، وفاءً مرتبطاً بالعقيدة لا يتقيد بمنفعة زائلة، ففي الحروب الصليبية - في عهد صلاح الدين الأيوبي - كان المسلمون يفون

بعهودهم رغم كثرة الغدر من قبل الصليبيين امتثالاً لقوله - تعالى -: [وإمَّا تَخَافَنَّ

مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ] [الأنفال: 58] .

فالميثاق لا يُنقض غدراً حتى حين تخاف الخيانة وإنما يعلم العدو أن الميثاق

قد انتهى بسبب الخيانة من جانبه، وأن العلاقة هي علاقة الحرب [13] .

والغدر من شيم أخلاق أوربا الحديثة، ومعاهدات الحلفاء مع العرب في القرن

الماضي ونقضهم للعهود، وتقسيمهم للبلاد وتشريدهم للعباد خير شاهد على ما نقول.

وما تزال هذه المفاهيم المنحرفة هي السائدة في عالم السياسة شرقاً وغرباً مع

الأسف، ولكن حذر المؤمنين - الذين يعبدون الله على بصيرة - لا يفسح المجال

لألاعيب الساسة وخبث الماكرين.

وإذا كانت هذه أخلاقنا مع الأعداء، فما بالنا نفرط بهذا الخلق مع الأصدقاء،

وأصحاب الفضل والسابقة من أهل العلم والتربية والتوجيه؟ !

بل ولِمَ لا نكون أكثر وفاءً مع الأهل والإخوة ومع مَن نعول؟ ! ولم ننسى

الوفاء مع الجار الجنب وبقية الجيران والأصحاب؟ ! وبذلك تسود المحبة وتعم

الثقة بين المسلمين، ونعيد إلى مجتمعاتنا ما كان عليه سلف هذه الأمة من استقامة

وبر ووفاء!

إن الشكوى باتت مريرة في هذه الأيام بسبب انتشار ظاهرة الغدر، وما تجره

من فقدان الثقة في العلاقات الاجتماعية عامة، وقلما تنجو منها مؤسسة في عالم

التجارة والاقتصاد، حيث لا يراعي كثير من الشركاء في أموال من ائتمنوهم إلاًّ

ولا ذمة، فتمحق البركة وتكثر الخسائر.

حتى المؤسسات التربوية - تلك التي كان يُتوقع منها أن تغرس الفضيلة ونور

العلم والتوجيه - بات بعضها يضرب أمثلة سيئة من الغدر والكيد وانعدام الوفاء.

إن ترجمة أخلاق السلف إلى شباب هذه الأمة ليست نظريات تلقى في فراغ،

ولا محاضرات وادعاءات، إنها قدوة حسنة، وسلوك واقعي فذ في عالم الناس

والشباب خاصة.

إنها واجب ديني تفرضه علينا تعاليم ديننا ومصلحة أمتنا وأمانة البلاغ، إن

تصورات العقيدة إذا لم تتحول إلى سلوك عملي ينسجم مع هذه التصورات - سوف

يوقع الأجيال الناشئة في إحباط شديد، وتمزق مرير، وتساؤل عجيب بسبب

الانفصال بين النظرية والتطبيق.

إنها لأمانة ضخمة في أعناق دعاة هذا الدين، فليصدُقوا الله في أداء هذه

الأمانة، وليضربوا النماذج الحية من الوفاء ومكارم الأخلاق، والأمل كبير في

الأجيال المؤمنة الجادة لتعود بهذه الأمة إلى سابق مجدها ونظافة أخلاقها، وصفاء

عقيدتها، والله ولي التوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015