مجله البيان (صفحة 646)

شؤون العالم الإسلامي

ما لم يقل عن هجرة اليهود

إن هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين - كغيرها من الأزمات التي يتعرض

لها العرب - تكشف عن الضعف والتخبط الذي يعصف بهم، وتعطي الدليل على

فقدان الهدف الواحد، والمنهج السليم الذي تعالج به المشاكل.

إن أي أمة تضل عن الهدف؛ وتفتقد المنهج السليم تصبح غير قادرة على

الاستفادة من الماضي، كما تفقد الحساسية التي تنير لها المستقبل، وعندما نذكر

الأمة هنا لا نعني جميع أفرادها، بل نقصد من بيدهم الريادة واتخاذ القرارات التي

يتوقف عليها مصير أمتهم، وإلا فإن الأمة لن تعدم من يتمتع بالفكر السليم والقدرة

على استبطان الماضي واستشفاف المستقبل، ولكن هؤلاء إما صامتون أو مفروض

عليهم الصمت والانزواء في زوايا الإهمال والنسيان..

عندما أعلن عن فتح الاتحاد السوفييتي أبوابه لهجرة يهوده إلى فلسطين بدا كما

لو أن هذا الأمر كان دون مقدمات، وخارجاً عن منطق الأحداث، لذلك جاء التعبير

عن هذا الأمر في الإعلام العربي مصبوغاً بالمفاجأة وعدم التصديق أولاً، وتوجهت

التهم إلى أميركا، أوَ ليست هي الرديف الرئيسى للعدو؛ والممول لهم بكل ما

يحتاج من مال وسلاح وعتاد؟

وتوجيه إصبع الاتهام إلى أميركا لا غبار عليه، فهي التي كانت ومازالت

تجعل من قضية اليهود في الاتحاد السوفييتي قضيتها الرئيسية على صعيد العلاقات

الخارجية بينها وبين المعسكر الشرقي برمته. ولكن الغرابة تكمن في محاولات رفع

المسؤولية عن السوفييت في هذا الأمر الخطير، فكل العالم يعرف أن هذه الخطوة -

خطوة السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين - اتخذت في مؤتمر مالطة الأخير بين

بوش وغورباتشوف، وأنها عبارة عن دفعة على الحساب من أجل دعم الاقتصاد

السوفييتي المنهار.

وهذه الكلمة لم نكتبها لتوجيه اللوم إلى أميركا وإلى السوفييت، حيث لا نعتقد

أن العرب لو استمروا في اللوم والتقريع سوف يجنون شيئاً أو يؤثرون أميركا

الصريحة الواضحة للقضايا العربية والإسلامية عامة، وكذلك بعداوة الروس قبل

الشيوعية وبعدها لهذه القضايا، والعداوة عداوة، ونتائجها هى نتائجها سواء كانت

صريحة أو مستترة، مفضوحة أو مغلفة، بل إن العداوة الصريحة خطبها أهون من

المستترة، والكفر شأنه أيسر من النفاق، وبمقدار تنبه الرجل إلى الخطط المستترة

وإبطالها يكون حازماً وحكيماً، ويوصف بالعبقرية والدهاء.

ولكننا ننبه فقط إلى الحجج المهلهلة التي ساقها الإعلام العربي في مواجهة هذا

الحدث، هذه الحجج التي هي انعكاس للضعف الذي نعاني منه والفوضى التي

تضرب بجذورها في واقعنا على كل مستوى.

لنستعرض بعضاً من هذه الردود القولية والعملية:

* - هجرة اليهود نقطة تحول مفاجئة في العلاقات.

*- استنكار أن تحل مشاكل اليهود على حساب العرب.

*- نوافق على هجرة اليهود على أن يستوطنوا في إسرائيل ولا يستوطنوا

في الضفة وغزة.

* - نداء من الجامعة العربية لأميركا كي تعدل من الرقم الذي حددته كحد

أعلى لما يمكن أن تستقبله من اليهود المهاجرين.

* - وفد رسمي يذهب إلى موسكو لبحث قضية الهجرة ومطالبة الروس

والأميركان أن يضمنوا عدم توطين المهاجرين في الأراضي المحتلة بعد عام 67،

وبأن يسمح الاتحاد السوفييتي لمن يود الرجوع من المهاجرين أن يعود مرة أخرى.

*- طالبت بعض الدول العربية المهاجرين اليهود أن يهاجروا إليها لا إلى

فلسطين.

* - عقد مؤتمر قمة كرد على الهجرة واتخاذ قرارات تاريخية إلى غير ذلك

مما قيل في هذه المسألة..

إن الخطأ في هذا يتلخص في النقاط التالية:

*- الغفلة التامة عن السياسة الصهيونية وأهدافها الأساسية الاستراتيجية التي

لا تتغير ولا تتعدل، وهى: التوسع المتواصل على حساب العرب.

* - الغفلة أو التغافل عن دور كل من أميركا وروسيا في خلق الكيان

الصهيوني في دنيا العرب، وأن هاتين القوتين - وغيرهما من القوى الكبرى -

متضامنون متعاونون على حماية إسرائيل من أي خطر يهدد وجودها، وهذا

التضامن والتعاون والتعهد موثق بأوضح عبارة، ومؤكد بأقوى المواثيق، لأنهم

يعلمون جميعاً أنه كيان اصطناعي ولابد له من ذلك حتى يستمر على قيد الحياة.

* - غض النظر عن حقيقة أن السوفييت - كأميركا - لا يعترفون بالعرب

كأمة واحدة بينها روابط مشتركة، وأنهم منذ عهد القياصرة وحتى عهد غورباتشوف

لا يؤمنون بأن لهذه الأمة دوراً تلعبه، بل شأنها كشأن الأقاليم والمناطق الإسلامية

في أواسط آسيا إلا موارد للمواد الخام ومصادر يتزاحم عليها الاستعمار ويخلف

بعضهم بعضاً عليها.

* - اغترار كثير، من المسؤولين العرب بما يسمونه الصداقة التي تربطهم

بهذه القوى، وكل عاقل يعلم أن هذه الصداقة لا أساس لها، فكل صداقة لابد لها من

أساس تقوم عليه، فلا دين ولا لغة ولا جنس ولا حضارة تربط بين كل من روسيا

وأميركا من جهة وبين الشعوب العربية.

تبقى المصالح المشتركة! وحتى تكون هذه المصالح أساساً للصداقة فلابد من

التكافؤ بين طرفيها، فأين التكافؤ هنا؟ نعم هناك مصالح متبادلة ولكنها مصالح دول

استعمارية جشعة متحالفة مع مصالح فئات قليلة جداً مشابهة في جشعها وخراب

ذممها للاستعمار لأنها وليدة هذه العقلية التي ذاقت منها شعوب الأرض الأمرين.

*- إن بدعة مؤتمرات القمة بدأت منذ ما يقارب إعلان قيام إسرائيل على

أرض فلسطين العربية المسلمة، وبينما استغرق الإعداد العملي لقيام دولة إسرائيل

حوالى خمسين سنة تقريباً، فإننا أردنا مواجهة هذا الأمر الجلل بهذه الأفعال

الاستعراضية الجوفاء فكانت النتيجة كارثة 1948، وتوالت بعد ذلك الكوارث،

وكل كارثة تسبق أو تختم بمؤتمر قمة، خذ مثلاً: قضية تحويل روافد نهر الأردن، كارثة 1967، حرق المسجد الأقصى، حرب1973، صلح مصر مع اليهود،

الهجرة اليهودية الجديدة، وهكذا دواليك.

لو أن خبيراً في الإحصاء فكر في تأليف كتاب يضمنه إحصائيات عن

القرارات الرسمية وغير الرسمية، وبيانات وبرقيات الشجب والاستنكار،

والخسائر المادية والزمنية والصحية التي أنفقت في المؤتمرات الحاشدة، ثم أتى

بدراسة موثقة عن تكاليف بعض المؤتمرات الرسمية وما يسبقها ويعقبها من

استقبالات وتوديعات وسفريات وخدمات فندقية وترويحية، غير ناسٍ تكاليف النشر

الصامت والبث الحي في أجهزة الإعلام ... أقول: لو أن خبيراً فكر في هذا العمل

لأخرج للأجيال أثراً قيماً فيه العبرة والدلالة الواضحة على حياة البؤس والضياع

التي عاشتها وتعيشها الأجيال العربية في هذا القرن، لعل ذلك يكون منبهاً على عقم

هذه الأساليب التي نلجأ إليها، والتي تكلفنا ما لو أنفقنا جزءاً منه في الطريق

الصحيح لما كان واقعنا على ما هو عليه من الضلال وفقدان الوجهة؛ لأن الله لا

يهدي من هو مسرف كذاب.

هل نريد مثالاً على مثل هذه البيانات العجيبة في معناها، الغريبة في دلالتها

على نوعية شخصيات مصدريها، ومستوى التفكير الذي يتمتعون به؛ ثم جدارتهم

بما يتربعون عليه من مناصب؟

الأمين العام لجامعة الدول العربية خير من يمثل هذه النماذج من البيانات:

(صرح الشاذلي القليبي الأمين العام للجامعة العربية بأن حقوق الإنسان لليهود السوفييت قد انتهكت بإجبارهم على هذه الهجرة غير الشرعية إلى إسرائيل، ودعا أميركا والاتحاد السوفييتي ودول المجموعة الأوربية لإيقاف الهجرة) .

وتصريح آخر يتحسر على المساكين اليهود الذي أغلقت في وجوههم جميع

الأمكنة، ولم يبق لهم إلا إسرائيل يذهبون إليها!

قال بسام أبو شريف (من أبرز مساعدي عرفات) : (إن 50 إلى 100 ألف

يهودي سوفييتي يتوقع أن يصلوا هذا العام إلى إسرائيل ليس لهم مكان آخر يذهبون

إليه) [1] .

إن الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها مقتنعة بأن هذه الأساليب لا تعيد

حقاً مغتصباً، ولا تردع عادياً صائلاً. فلا الرأي العام العالمي، ولا هيئة الأمم،

ولا مجلس الأمن، ولا أصدقاؤنا الأميركان، ولا الروس يمكن أن يستجيبوا لدعوة

المظلوم. وحده الله سبحانه وتعالى فقط من يفعل ذلك:

[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ ويَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ

مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] [النمل: 62] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015