البيان الأدبي
المنهج العلمي عند طه حسين
بين الدعوى والتطبيق
د. عبد الله الخلف
يحاول طه حسين أن يشعر قراءه بأنه باحث محقق، لا يقبل بشيء، ولا
يسلم به إلا بعد بذل غاية الجهد في التحقيق والنقد والتحليل، فهو يقول بعد أن ينعي
على القدماء من الأدباء طريقهم [1] : (أما نحن فأشد من هؤلاء القدماء طمعاً،
وأكثر منهم تحفظاً، لا تكفينا أسماء الثقات من الرواة، ولا يكفينا جمال القصيدة
وجودة المقطوعة، وإنما نريد أن نتخذ كل شيء موضوعاً للبحث والنقد والتحقيق
والتحليل) .
ثم يقول [2] : (فأنا لم أفهم الأدب العربي كما كان يفهمه القدماء، وكما لا يزال يفهمه أنصار القديم من أدباء اليوم، وأنا لا أحكم على الظواهر الأدبية كما
كان يحكم عليها القدماء، وكما لا يزال يحكم عليها شيوخ الأدب في أيامنا، وإنما
أفهم الأدب العربي وأحكم على ظواهره كما ينبغي أن يفهمه ويحكم على ظواهره
رجلٌ يعيش في القرن العشرين، ويفهم كما يفهم أهل هذا القرن) .
ومن الواضح أنه يحيط نفسه بهالة علمية إبداعية، ويحاول أن يحيط قارئه
بمناخ يهيئه به لقبول ما يلقيه إليه، فهو يحاصره ويخيره بين أن يسلم بما يصل
إليه من نتائج بنيت على هذا المنهج العلمي الجديد الذي يبدو وكأنه ابتكره واحتكره، وبين أن يرضى بأن يوصم بالسذاجة، وعدم القدرة على مسايرة مناهج البحث
الحديثة.
وغني عن القول أنه ليس لباحث منصف أن يرفض البحث والنقد والتحقيق
والتحليل في قضايا الأدب والتاريخ؛ إذا كانت الغاية من ذلك الوصول إلى الحقيقة، ولكن طه حسين لم يطبق ما دعا إليه، ولم يف بالعهد الذي قطعه على نفسه،
على الرغم من أنه تمكن من إيهام كثير من القراء بذلك، مما أتاح لكثير من الآراء
التي طرحها، والنتائج التي وصل إليها أن تنتشر وتصبح كالمسلمات، لا عند عامة
المثقفين فحسب بل عند كثير من أساتذة الجامعات.
مما أغرى القراء بقبولها لجرأته، وقدرته العجيبة في طرح الأفكار، ومهارته
في صياغة آرائه صياغة توهم بأنها بنيت على أساس علمى متين.
ومن ذلك مثلاً: رأيه في تفسير ظاهرة غلبة الغزل على الشعر الحجازي في
العصر الأموي، فهو يرى أن بلاد العرب بعد أن جاهدت في الاحتفاظ بالسلطان
السياسي، وأخفقت في الجهاد إخفاقاً شنيعاً، وانتقل مركز الحكم منها إلى الشام،
كما انتقل مركز المعارضة إلى العراق، انصرفت أو كادت تنصرف عن الاشتراك
في الحياة العامة، وفرغت للحياة الخاصة، فانكبت على نفسها وأحست شيئاً من
اليأس والحزن غير قليل، وقد اجتمع إلى ذلك اليأس في حواضر الحجاز الثروة
والغنى، فنتج عنهما اللهو والإسراف فيه والعكوف عليه، ومن هنا نشأ الغزل
الإباحي [3] في مكة والمدينة، أما بادية الحجاز: فلم يظفر أهلها بما ظفر به أهل
الحاضرة من الثروة، وحيث سلمت من ألوان الفساد التي كانت تغمر مكة والمدينة، فقد أدى ذلك إلى الزهد الذي كان الغزل العذري أثراً من آثاره [4] .
وقد اشتهر هذا الرأي، وتلقاه كثير من الدارسين بالقبول، مع أننا لو طبقنا
عليه المنهج الذي يدعي طه حسين أنه يبني عليه دراساته لوجدناه بعيداً عن
الصواب.
فلكي نسلم بهذا الرأي لابد من إثبات أمرين أساسيين بني عليهما:
الأول: أن أهل الحجاز انصرفوا إلى اللهو وأسرفوا فيه، وأن الفساد غمر
مكة والمدينة.
والثاني: أن الغزل لم يظهر ولم يغلب على الشعر الحجازي إلا بعد أن أخفق
أهل الحجاز في الاحتفاظ بسلطانهم السياسي، وانتقل مركز المعارضة منهم إلى
العراق، ومركز الحكم إلى الشام.
فالأمر الأول لا يمكن التسليم به إلا بأدلة ثابتة، وبراهين قوية، لأنه لا يمكن
لعاقل أن يقبل القول بأن الفساد قد غمر ذلك المجتمع الذي ورث مجتمع الخلافة
الراشدة، وعاش فيه كثير من الصحابة وأبنائهم وأحفادهم، وشهد له الرسول -
صلى الله عليه وسلم- بالخيرية والفضل، ومع أن طه حسين يدعي أنه سوف يبني
آراءه على النقد والتحقيق والتحليل، إلا أنه لم يعرض الأدلة الصحيحة ليثبت بها
هذا الأمر، بل ألقى القول جزافاً، وكأنه حقيقة مسلمة لا يرقى إليها شك، صحيح
أن في كتاب (الأغاني) وغيره من كتب الأدب أخبار وحكايات تدل على وجود ذلك، ولكن مثل تلك الأخبار لا يعتمد عليها في إثبات مثل هذا الأمر.
وطه حسين نفسه يسلم بذلك، ويعترف بما حوته تلك الكتب من حكايات
باطلة [5] ، وبناء على ذلك أنكر أو شكك في وجود بعض الشخصيات التي ترجم لها صاحب (الأغاني) ، وأورد حولها كثيراً من الأخبار والأشعار [6] ، بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد مدىً من ذلك، عندما ادعى أن معظم الشعر الجاهلي منحول، على الرغم من أن كتب الأدب أطبقت على روايته والقبول به.
وإذا كان طه حسين هنا يرى أن أهل الحجاز أسرفوا في اللهو والفساد، فإنه
يرى في موضع آخر من الكتاب نفسه (حديث الأربعاء) ما يناقض ذلك، ويصرح
بأن حياة شباب الحجاز كانت بريئة من الإثم والفحش إلى حد ما، وأن شباب
الحجاز كان يلهو بمقدار، وكانت مكانته الدينية وخوفه من رقابة الخلفاء يعصمانه
من مجاوزة الحدود [7] .
ولعل في هذا دليلاً واضحاً على أن ما ذكره طه حسين من أن الفساد واللهو قد
غمر مكة والمدينة قولٌ ألقى جزافاً دون أي دليل معقول، على الرغم من أنه اتخذه
أساساً بنى عليه رأيه في تفسير غلبة الغزل على الشعر الحجازي.
أما الأمر الثانى الذي بنى عليه هذا الرأي فإن التاريخ يدل على خلافه، فمن
المعلوم أن أهل الحجاز قاموا بدور كبير وأساسي في تصريف شؤون الدولة
الإسلامية حتى انتهاء خلافة عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - سنة 73 هـ،
وقد كانوا العنصر الرئيسي في القيادة السياسية والعسكرية، إذ أن معظم الذين تولوا
الولايات أو قادوا الجيوش في عهد (معاوية) و (يزيد) كانوا من أهل الحجاز،
وانتقال الخلافة في عهد معاوية إلى الشام ليس مبرراً للقول بأن أهل الحجاز قد
انصرفوا عن المشاركة في شؤون الحكم يائسين، فقد كانوا يرون في خلافة معاوية
مرحلة مؤقتة يمكن أن تنتهى في أي وقت، ثم يستلم الخلافة قائدٌ آخر من قادة الأمة
الذين كان معظمهم في ذلك الوقت في الحجاز، لذلك أعلن بعضهم عن معارضة
إسناد ولاية العهد ليزيد، ولم يسلموا بها، ثم ثاروا عليه، ثم عادت الخلافة إلى
الحجاز مرة أخرى عندما بويع بها ابن الزبير -رضي الله عنه-، ونازعه في ذلك
رجل من أهل الحجاز أيضاً وهو مروان ثم ابنه عبد الملك.
ومن هذا يتبين أن القول بأن أهل الحجاز انصرفوا عن. المشاركة في الحكم
والسياسة لا يمكن القبول به، ولاسيما في الفترة التي سبقت، حيث يقول [8] : (ولقد جاهد هذا الشباب الحجازي جهاداً عنيفاً في سبيل الاحتفاظ بمنزلته التي تركها
له أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما كانت ثورة ابن الزبير، وما كانت
ثورة الحرة، وما كان خروج الحسين بن علي إلا مظاهر لهذا الجهاد، ولكن
الشباب الحجازي لم يوفق، وتمت الكلمة للاستبداد الأموي، واضطر أبناء الصحابة
والخلفاء الراشدين إلى هذه الحياة الفارغة يحيونها في الحجاز) [9] .
ولو بحثنا في حياة شعراء الغزل لوجدنا معظمهم قد بلغ الخمسين أو قاربها أو
جاوزها سنة 73 هـ، وعلى رأس هؤلاء عمر بن أبى ربيعة، ولاشك أنهم قد
نظموا معظم شعرهم الغزلي قبل هذا العام، وهذا يعني: أن ظاهرة الغزل كانت
أسبق في الظهور من الأحداث التي جزم طه حسين بأنها كانت سبباً ونتيجة لوقوعها، مما يسقط نظريته هذه جملة وتفصيلاً، لأنه لا يمكن للظاهرة أن تسبق أسبابها.
ومما مضى: يتبين أن دعوة طه حسين إلى اتباع منهج يقوم على النقد
والتحليل والتحقيق مجرد دعوى ادعاها ليوهم قراءه بأن آراءه مبنية على منهج
علمي محكم، وما عرضنا هنا ما هو إلا مثال واحد من أمثلة كثيرة لآرائه، مليئة
بالأخطاء والتناقضات، ولكنها سارت بين الناس، وأصبحت كالمسلمات التي يحتج
بها ويبنى عليها آراء ونظريات جديدة، وما ذلك إلا لأن صاحبها هو طه حسين.
وكثير من تلك الآراء يتضمن جوانب ذات تأثير فكري سيئ، وينطوي على
التشكيك بالقيم والمبادىء والحقائق الثابتة، كما يتضمن تشويهاً لبعض معالم التاريخ
الإسلامي بأساليب تبدو لغير المتمكن مقبولة ومقنعة، وقد يلقي في ثنايا كلامه
عبارات تنطوي على أمور خطيرة دون أن يشعر القارئ بأنه يتعمد ذلك، أو أن له
من ورائه مقاصد سيئة.
ففي كلامه عن حياة البادية العربية بعد الإسلام يشير إلى تعاليم الإسلام الجديدة
التي منعت ما كان شائعاً في الجاهلية من الغارات والسلب والنهب، ويعقب على
ذلك بقوله [10] : (وإذن فهذا نوعٌ آخرٌ من التضييق أحدثه الإسلام لهؤلاء الناس) ، وإذن لقد حانت الحياة المادية عند أهل البادية بعد الإسلام شراً مما كانت عليه قبل
الرسول، وهو بهذا يطعن في النظام الإسلامي ويرميه بالفشل في رفع المستوى
الاقتصادي لهؤلاء الناس، وفي موضع آخر يطعن في طريقة الصحابة في اختيار
الخليفة، فيقول [11] :
(أجمع المسلمون أو كادوا يجمعون على هذا المذهب الغريب المتناقض الذي
يجعل الخلافة وراثية لأنها في قريش، وغير وراثية لأنهم أبعدوا عنها بني هاشم) .
ويعلق على قبول الأنصار بخلافة أبي بكر -رضي الله عنه- بقوله [12] :
(ولم يمض منهم في الإباء والمشادة إلا رجل واحد هو سعد بن عبادة الذي قتلته الجن فيما تزعم الأساطير، والذي قتلته السياسة غيلة في حقيقة الأمر، لأن حياته كانت خطراً على النظام السياسي الجديد) .
وهو بهذا يتهم عمر وكبار الصحابة رضوان الله عليهم بقتله لأنهم هم قادة
الدولة وزعماء النظام السياسي.
ويصف المسلمين الأوائل الذين حملوا مبادئ الإسلام بالجهل عندما يوازن
بينهم وبين الأمة الفرنسية أيام الثورة الفرنسية، فيقول [13] :
(على أن تلاحظ الفرق بين الأمة الفرنسية التي كانت متحضرة مترفة عالمة
بارعة في الفن حينما أحدثت ثورتها، والأمة العربية التي كانت بادية ساذجة جاهلة
خشنة العيش عندما أحدثت ثورتها أيضاً) وهو لا يقصد عرب الجاهلية لأن كلامه
هذا جاء في سياق الموازنة بين حملة مبادى الثورة الفرنسية وحملة ما يسميه بالثورة
العربية.
مثل هذه العبارات التي تحمل هذه المضامين الخطيرة ترد في أثناء حديثه في
بعض الموضوعات الأدبية على أنها أمور مسلمة، مع أنه يعمل أنها تحمل من
المعاني ما يصطدم كثير من الحقائق التي يزعم أنه يبحث عنها، ويحاول الوصول
إليها.
أفلا يحق لنا بعد كل ذلك أن نقول إن طه حسين بدعوته إلى جعل كل شيء
موضوعاً للبحث والنقد، وعدم التسليم بما تضمنته كتب التراث من أخبار كان
يقصد إلى التشكيك في الحقائق، وإحقاق الأباطيل أكثر مما يقصد إلى إبطال الباطل
وإحقاق الحق.