منبر الشباب
هيثم حداد
إن التناصح بين المسلمين أمر مطلوب، حتى وإن كان الناصح مقصراً فيما
ينصح به مع بذله الجهد للامتثال، وفي هذه الوريقات أذكر نفسي وإخواني بسنة
هجرت، ففات بهجرانها أجر عظيم، وليت هجرها من عامة الناس، بل من
علمائهم وعبادهم ودعاتهم، فلا تكاد تر هنا إلا في النذر اليسير على أزمنة متفاوتة.
وهذه السنة هي: المكوث في المصلى بعد صلاة الغداة جماعةً، حتى تطلع
الشمس وترتفع، ثم أداء ركعتين.
فضلها:
قال الترمذي باب (ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح
حتى تطلع الشمس) ، ثم أورد بسنده عن أنس بن مالك-رحمه الله-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة) ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تامة، تامة، تامة) [1] .
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لأن أقعد أذكر الله تعالى وأُكبره، وأحمده وأسبحه، وأهلله، حتى تطلع الشمس، أحب إلى من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل، ومن بعد العصر حتى
تغرب الشمس: أحب إلى من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل) [2] .
فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة) ، وقال: (من صلى
الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة، كان بمنزلة عمرة وحجة
متقبلتين) [3] .
وفى (صحيح مسلم) عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أَكنت
تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من
مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام [4] .
وهذا الحديث يدل في أقل أحواله على كثرة فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- لها، إن لم يكن فيه دلالة على مداومة الرسول عليها. إذ أن لفظ (كان)
يفيد الاستمرار غالباً.
مسائل مختصرة تتعلق بهذه السنة:
الأولى: هل يختص المكوث بالمسجد أو المصلى أم لا؟
ظاهر الحديث يدل على أن السنة: المكوث في المصلى وعدم الانتقال منه
إلى بيت أو نحوه، وعلى هذا تراجم العلماء أيضا، وقد سبق قول الترمذي في
ترجمته لحديث الباب، ومثله ترجم النووي لحديث صحيح مسلم قال: (باب:
فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد) [5] ، وقال المناوي في
(فيض القدير) : (وفيه ندب القعود في المصلى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس
مع ذكر الله -عز وجل-) - ومثله قال المباركفوري.
الثانية: هل هاتان الركعتان هما سنة الضحى؟
ورد في حديث معاذ الجهني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قعد
في مصلاه حين ينصرف من مصلاه الصبح حتى يسبح الضحى، لا يقول إلا خيراً، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) . أخرجه أبو داود، والبهيقي في
السنن الكبرى 3/490، وترجم له بقوله: باب: من استحب أن لا يقوم من مصلاه
حتى تطلع الشمس، فيصلي صلاة الضحى، ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف [6] .
كما أن ظاهر الأحاديث الواردة في هذه السنة لا يدل على أنها صلاة الضحى، ويؤيده: أن وقت السنة لصلاة الضحى كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
(صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) أي: إذا وجد الفصيل - وهو ولد الإبل -
حر الشمس، ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها، وهذا الوقت لا يكون إلا بعد ارتفاع
الشمس بمقدار أكبر من رمح أو رمحين، كما هو وقت أداء هذه السنة.
ثالثاً: متى تؤدى؟
من المعلوم أن الوقت بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح
هو وقت نهي، فعن عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس
بازغة حتى ترتفع ... ) رواه مسلم رقم: 831..
وورد في أحاديث أخرى تحديد هذا الارتفاع ب: (قيد رمح أو رمحين) كما
في حديث عمرو بن عبسة، وهنا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي: (ندع الصلاة
حتى ترتفع قيد رمح ويذهب شعاعها) [7] .
فعلى هذا: يكون وقت أدائها بعد خروج وقت النهي وهو ارتفاع الشمس قيد
رمح، ولعل هذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر
المتقدم: (من صلى الصبح، ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة) ، وكذلك ما
ورد في حديث جابر ابن سمرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر،
تربَّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً) ، قال النووي: (هو بفتح السين وبالتنوين، أي: طلوعاً حسناً، أي: مرتفعة) .
وقت مشهود للذكر:
قال النووي في (الأذكار) (باب: الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة
الصبح) ، ثم قال: اعلم أن أشرف أوقات الذكر في النهار: الذكر بعد صلاة الصبح. اهـ. ثم أورد حديث أنس المتقدم [8] .
وفي هامش مختصر سنن أبي داود للمنذري: (قيل: وفي فعله فائدتان:
أحدهما: الجلوس للذكر، فإنه وقت شريف، وقد جاءت أحاديث في الذكر في ذلك الوقت.
والثانية: أنه لما تعبد الإنسان لله -عز وجل- قبل طلوع الشمس، لازم
مكان التعبد إلى أن تنتهي حركات الساجدين للشمس إذا طلعت) [9] .
وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله: هل من ساعة أقرب من
الله -عز وجل- من الأخرى؟ أو: أَهَل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال: (نعم، إن
أقرب ما يكون الرب -عز وجل- من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن
تكون ممن يذكر الله -عز وجل-في تلك الساعة فكن، فإن الصلاة محضورة
مشهودة إلى طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وهي ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها، ثم الصلاة محضورة مشهودة
حتى تعتدل الشمس اعتدال رمح ... ) الحديث. رواه أبو داود والنسائي، وهذه
رواية النسائي [10] .
قال الشوكاني: (أي: تشهدها الملائكة ويحضرونها، وذلك أقرب إلى القبول
والرحمة) [11] .
ولعل الإمام ابن تيمية فقه هذا حقَّ الفقه، يروي عنه تلميذه ابن القيم -رحمه
الله: (كان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النار جداً، يقول: هذه
غدوتي، لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي) [12] .
وما أعجب ما نقله البغوي وغيره عن علقمة بن قيس - وكان أشبه الناس
سمتاً وهدياً بعبد الله بن مسعود -[13] قال: بلغنا أن الأرض تعج إلى الله من
نومة العالم بعد صلاة الصبح [14] .
هل نسير على خُطاهم؟ :
وبعد أن رأينا الأجر العظيم لهذه السنة، وحرص سلفنا على فعلها، استطرد
هنا قائلاً:
إن كثيراً من الدعاة إلى الله فضلاً عن غيرهم في هذه الأيام يشكون كثيراً من
الإحساس بنقص الإيمان وقسوة القلب، فهم يبحثون دائماً عن علاج لهذا، وإذا
نظرنا نظرة متجردة لأنفسنا، فنجدنا تاركين لسنن كثيرة، مع أن لها أثراً كبيراً في
إحياء قلوبنا، في الوقت الذي نجدنا حريصين على سنن أخرى، لغرابتها بين
الناس، فهي تجلب الأنظار لفاعلها وتصف صاحبها بأنه متبع للسنة، مع سهولة
أداءها، متعلقين بقولنا: (نشر السنة وإظهارها واجب ... ) ، أما السنة التي تشق
علينا والتي لا تظهر غالباً للخلق والرقيب عليها هو الله فحسب، فنحن متهاونون
فيها تاركون لأكثرها.
فما هو مقدار حرصنا على صوم يومي الاثنين والخميس؟ ! ، وأكون
صريحاً أكثر إن قلت: كم صمنا فعلاً هذين اليومين؟ وما هو مقدار حرصنا على
التبكر إلى الصلاة وحضور الصف الأول؟ ! ، أم انشغال الدعاة بالأمور الهامة هو
سبب امتلاء الصفوف الأخيرة بهم؟ ، وما هو؟ .. وما هو؟ .. وغير هذا كثير.
وختاماً: وبعد هذه الذكرى، فهل سنرى الأمر تغير وأصبحت المساجد
تمتليء بعمَّارها في هذا الوقت؟ ، أم هل ستكون هذه الذكرى مجرد (علم) أضفناه
إلى (علمنا) أو موعظة جديدة نخاطب بها الآخرين وننسى أنفسنا؟ .