الفصاحة العلمية
العقاد
- اللغة الشاعرة-
للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق
البحث في بضعة سطور. فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرْسها [1] .
ومنها التى تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف
والأفعال، ومنها التى تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم
أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا
يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه
وتتقابل، ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله،
وحجتها الكبرى (أنانية) قومية تشبه (أنانية) الفرد في حبه لنفسه وإيثاره لصفاته
بغير حاجة إلى دليل، أو مع القناعة بأيسر دليل.
لكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها؛ لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به والتثبت منه على ناطق بلسان من
الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته،
وهذا هو (اللفظ العربي) بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على (أنانية) قومية
ولا على نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات
الحضارة. فلا لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التى تتميز
بغير التثقيل أو التخفيف. وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة
متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
والفصاحة هي امتناع اللبس كما تقدم، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت
في اللغة العربية لمخارج الأصوات كما تحققت للحروف. فليس في اللغة العربية
حرف يلتبس بين مخرجيْن، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان،
ليس في اللغة العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف (بسي) في اللغة اليونانية وهو
مختلط من الباء الثقيلة والسين، وليس فيها حرف يستخدم مخرجين كحرف (تشي)
في تلك اللغة وهو خليط من التاء والشين، وليس فيها حرف يعبر عنه بحرفين
كالذال أو الثاء اللذين يكتبان مما يقابل عندنا التاء والهاء (th) ويتغير النطق بهما
في مختلف الكلمات.
ولا تزدحم أصوات الحروف في اللغة العربية على مخرج واحد كما تزدحم
الفاء الثقيلة والباء والباء الثقيلة (p. b. v. f.) مع ترك مخارج الحلق مهملة،
وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف
والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس ولا
ازدواج في الأداء.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية كما يتجنب اللبس
في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت
الإمالة بين حركتين لم تكن وجوباً قاطعاً تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط
من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد أو بعض الجماعات في
أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب،
وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.
فإذا قال قائل إن فصاحة النطق مزية نادرة تمتاز بها اللغة العربية فليست هي
دعوى من دعاوى الفخر والأنانية، ولكنها حقيقة يقررها (علم وظائف الأعضاء) ؛
لأن جهاز النطق في الإنسان وظيفة معروفة، ولا خفاء بالفرق بين تقسيماته التي
تستوفي الأداء وتميز الحروف والمخارج وبين تقسيماته التي تعطل بعض الأداء
ويعرض فيها اللبس والتلفيق لما تؤديه. فإن الحكم في ذلك كالحكم على كل أداة
ناطقة أو عازفة من أدوات الأنغام والأصوات.
وبقي أن نعرف كيف انفردت اللغة العربية بهذه المزية النادرة؟ هل هي
مزية من مزايا المصادفة لا نعرف لها علة طبيعية؟ أو هي نتيجة من نتائج التطور
الطبيعي. أو نتائج الاختيار بين الأفصح من اللهجات وبين اللهجات التي دونها في
الفصاحة على ألسنة المتكلمين بلغة واحدة؟ .
اللغة الشاعرة