مجله البيان (صفحة 624)

البيان الأدبي

الأدب والثقافة علاقة مصيرية

د. مصطفى بكري السيد

تتجاوز هذه الدراسة الجدل القديم الحديث حول مصدر الفن، لتتناول جانباً

آخر من الموضوع وهو محاولة الكشف عن دور المقروء والجهد الثقافي في النسيج

الأدبي، فنحن عندما نستعرض الأدب والأدباء الذين نقشت أسماؤهم في ذاكرة

البشرية، وأنعشت أعمالهم مشاعر الجمال في النفوس، حتى غدت إبداعاتهم معالم

بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، عندما نغفل ذلك يلفت نظرنا أمران:

الأول: المُكْث والتُّؤَدَة في إنضاج العمل، وهناك أمثلة أدبية: الإلياذة كُتبت

في ثلاثين سنة، والقاص الفرنسي فلوبير ربما استغرق أكثر من أسبوع في كتابة

فقرة من قصته (مدام بوفاري) 1857 م [1] ، ويعلن جارثيا ماركيز - قاص أمريكا

الجنوبية الأول - أنه كتب قصته (مائة عام من العزلة) في ستة عشر عاماً،

ومدرسة التصويريين الشعرية تقول صراحة إن: (التركيز هو جوهر الشعر) [2]

.. ويرى الشاعر الإنجليزي المعاصر تيفن سبندر (أن كل شيء في الشعر جهد،

وقد يستمر الجهد في النظْم يوماً أو أسابيع أو سنين) [3] وأكد بعضهم على (أن

الإنشاء الأدبي يتطلب من الدقة والتحري ما تتطلبه الرياضيات نفسها من تفكير

منطقي ودقة وهندسة) [4] .

الثاني: الارتواء من مَعين الثقافة ومختلف ميادين المعرفة لتوظيف ذلك كله

في خدمة الصورة الشعرية، والمعمار الفني ورسم معالم الشخصية، وذلك حتى لا

تكون النصوص (وكل الأعمال الفنية نصوص) ثماراً موسمية؛ (لأن النص قائم

على التجددية بحكم مقروئيته، وقائم على التعددية بحكم خصوصية عطائيته تبعا

لكل حال يتعرض لها في مجهر القراءة، فالنص - من حيث هو ذو قابلية للعطاء

المتجدد المتعدد - يتحقق له ذلك بتعدد تعرضه للقراءة) [5] لأن هذا النص كما

يقول (بارت) : (لا يحظى بالخلود لأنه يفرض على القراء العديدين معنى واحداً فيه، وإنما هو يخلد ويستمر لأنه يقترح على القارئ الواحد معاني عدة في متجدد اللحظات) [6] ولم يكن (مارك توين) بعيداً عن هذا الفهم عندما قال إنه يقرأ (دون كيشوت) في كل سنة مرة.. رائعة سرفانتس. وهكذا يكون النص مرآة تجلوها القراءات المتعددة، (فهاملت شكسبير) أفرز مكتبة أدبية كاملة [7] . (في (هاملت) مواضيع كثيرة التقابل بين القوة والأخلاق، بحث التفاوت بين النظرية والممارسة، وغاية الحياة، فيها مأساة الحب، والدراما العائلية فيها كل ما تشاء بما في ذلك التحليل النفسي العميق، والقصة الدامية والمبارزة والمذبحة الشاملة، للمرء أن يختار وفق إرادته ولكن عليه أن يعرف كيف يختار ولماذا) [8] ، وهكذا فإن روايات (شكسبير) ترفض أن تصبح أبداً قديمة، يمكن تلخيص هاملت في عدد من الأشكال: كسجل تاريخي، كرواية بوليسية، أو كدراما فلسفية.

إن هذا المعرض الشكسبيري حدا بطالبة أمريكية أن تتشكك بهذه القدرة على

رسم كل هذه الصور وإبداع هذه المسرحيات، قرأت شكسبير بعناية فساورها الشك

بأن هذا الإنتاج الضخم الساحر لا يتأتى لشخص وأن النقاد ربما كانوا ضحية وهم

كبير في قبول هذا الإبداع من شخص واحد فشدت رحلها إلى بريطانيا وضحَّت

بشبابها لتُثبت عبثاً وهمية شخصية شكسبير! .

وفي العدوة العربية نجد (أبا الطيب المتنبي) غب الموهبة الشعرية ثمرة

ناضجة لقراءة الأدب الجاهلي والأموي والعباسي وما انتهى إلى يديه من الفلسفة

اليونانية، ثم أليس كتاب (الوساطة) للجرجاني بحثاً في عروق وعمق هذه

المقروءات (المتنبية) .

(إن كتاب الوساطة خير نموذج عملي لدراسة التناص الذي هو حدوث علاقة

تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لإنتاج نص لاحق) [9] والحقيقة أن كل شعر

لابد أن يذكر بشعر آخر فهذه خصوصية اللغة الشعرية وامتيازها.

كيف تأتَّى لشعر أبي الطيب أن يفجر في الأرض الأدبية ينابيع النقد لولا

الأسئلة التى تستدعيها قراءته والقراءة التي تغذي أسئلته؟

إن المتنبي (حين يعبر عن رؤياه فإنما يفصح عن إحساس شامل بالفجيعة أو

الفرح، أو البطولة ولا يعود وتراً منفرداً، بل يندرج في نبرته أنين عام هو أنين

البشر كلهم ونشوة شاملة هي نشوتهم جميعاً، ولا تنمو رؤيا الشاعر بمعنى آخر،

إلا عبر ارتباط حميم بالآخرين ولا تتجسد بشكل مؤثر إلا حين يصبح صوته، رغم

فرديته وسريته صوتاً إنسانياً ونشيداً شاملاً لمجد شعب ومكابدته) [10] .

لقد وجد المتنبي في (أصوات الآخرين تأكيداً لصوته من جهة، وتأكيداً لوحدة

التجربة الإنسانية من جهة أخرى، وأنه يدل بذلك على التفاعل الأكيد بين أجزاء

التاريخ الروحي والفكري للإنسان) [11] .

وهكذا نجد (أن قدامى الشعراء أو المترسمين خطاهم كانوا مثقفين ولعل أجمل

ما ننفعل به من الشعر القديم هو شعر أمثال هؤلاء) [12] ؛ (لأن القصيدة - في

النهاية - ليست إلا محصلة لجهد الشاعر، وتجسيداً جمالياً حسياً لمسلكه الثقافي

والذوقي والنفسي في لحظة حياتية ما) [13] .

(وإذا كان ابن خلدون يحكم باستحالة وجود شاعر لا يكون قد حفظ شعراً ثم

نسيه، فإننا نحكم باستحالة وجود مبدع يعتب أيضاً نصاً أدبياً دون سابق تعامل

معمق مكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو في عدة مجالات؛ لأن

المخزون من النصوص المقروءة من قبل هو الذي كثيراً ما يتحكم في صفة النص

المرقوم) [14] .

ويقول الدكتور محمد جابر عصفور:

(الأصل الذي يتوصل الشاعر به إلى استثارة المعاني الشعرية واستنباط تركيباتها هو: التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من ... أوصاف غيرها، وذلك يجعل من الشعر ممتعاً ومعلماً) [15] ، وهكذا يصبح للفكر الأدبي دوره المميز في حياة الأمة؛ حتى يغدو عنصراً من عناصر البناء الثقافي العام في هذا المجتمع.

وكلما كثر المحفوظ الشعري كثرت المواد بين يدي الشاعر ورحب المجال

أمامه في إعادة السبك فيكون كمن اغترف من وادٍ قد مدته سيول جارفة من شعاب

مختلفة كما يقول ابن طباطبا [16] .

وليست القراءة غذاء الشعر فحسب بل هي البنية المعنوية للنثر، قال خالد بن

عبد الله القسري:

(حفظني أبي ألف خطبة ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إلا سهل عليَّ) .

ولقد توقف العقاد في حديثه عن المتنبى ليلفت النظر إلى أهمية الفكر والثقافة

للشعراء فيقول:

(وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب، متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ ، إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية؛ فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفِّيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الأدب والفنون) [17] .

والترسانة الثقافية التي يستند إليها الأديب باتت أمراً ملحوظاً؛ يقول إليوت:

(إن ما يجب على الشعراء أن يعرفوه هو أن يكتبوا أقل ما يمكن) .

ولقد ذكر أن جوستاف فلوبير (1821-1880) هو الذي قرأ ألفي كتاب من

المكتبة الوطنية بباريس؛ لكى يدرس البيئة الاجتماعية والجغرافية لأحد أعماله

الروائية! [18] .

أرأيتم كيف يخدم الأديب نصوصه ويستشعر المسؤولية تجاه أدبه وقرائه،

لعل في ذلك بعثاً لهمم الناشئة من شعرائنا وكُتابنا حتى تأتي أعمالهم ناضجة تحمل

للقراء ما يؤملون فيها من أدب نضيج، وألا تكون علاقتهم بالتراث العربى العظيم

ما درسوه في كتب المحفوظات كما يقول أحد النقاد.

وأخاطب - بشكل أخص - الأديب المسلم كي يجعل من إبداعه إضافة حقيقية

لتجد قراءها، وألا تعتمد على النيات الطيبة والمشاعر الجميلة فقط لأنه إذا كان

الشعر ترجماناً مباشراً عن الذات فإن الفكر هو الإطار الموضوعي الذي يضم هذا

الشعور، والشاعر كلما ازداد نضجاً ازدادت قدرته على الخروج من إطار مشاعره

الذاتية إلى الإطار الموضوعي.

عبقرية الشاعر تكمن كلها في إبداعه اللغوي، أما الحساسية المفرطة فلا تكفي

لتكوين أي شاعر (وليس هناك ما هو أكثر سوءاً من أن يظن الإنسان أنه يمارس

صناعة التفكير في الواقع، وهو إنما يشغل نفسه، بطائفة من الأماني والمشاعر لا

أكثر) [19] .

(صحيح أن العمل الأدبي صناعة لغوية، لكنه ليس صناعة بسيطة بل هو

صناعة مركبة من عناصر كثيرة توجد أصولها في اللغة والفكر وفي التراث القديم

وفي التراث الحديث) [20] .

إن العالم يتلهف إلى الرؤية الإسلامية من قلم صناع وشغر يتسلل إلى مسارب

النفس ليطلق العقل المحتجن في إسار المادية ليتنسم أنسام العقيدة المتكاملة المتوازنة.

والكلمة التى نقلت حبر اليهود عبد الله بن سلاَّم - رضي الله عنه - إلى بحر

الإيمان هي عينها التي انتزعت بعض كبار الملحدين من براثن الملل والنحل إلى

شاطئ الأمان.

إن هذه الكلمة مدعوة اليوم لكى تؤدي دورها أن تتزين بالقراءة، وتتأثث

بالثقافة وتتدجج بالمعرفة لتفجر ينابيع الأمل في سهوب الإملاق الروحي والمحل

الفكري والقحط الوجداني.

إن هذه الكلمة (لابد لها كي تكون فاعلة، وفي سياقها السليم من أن ترتبط بنظرة إلى العصر ومستجداته من جهة، وإلى التراث وكوامنه التعبيرية القادرة على الاستمرار من جهة أخرى) [21] .

وإذا كان الأدباء كذلك (كانت أقوالهم كالرياح التى تفتح المصاريع المغلقة على الرؤى والتجارب والبطولات) [22] . والأديب المسلم ما لم يمتلك ناصية القول في المكان والزمان الذي يعيش فيه، وما لم ينتج أدبه وإبداعه المؤصل جمالياً وثقافياً؛ محكوم عليه في النهاية بالخروج من ساحة الفكر وميدان الحياة، لأن العقم الثقافي هو جسر الاعتزال الحياتي، ومنذ فقد المسلمون خطابهم العميق بدأت عمليات تدميرهم.

هل لي أن أذكر أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يكاد يمر عليه موقف

دون أن يستشهد بنص شعري، وأن الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما -

كانت تحفظ للَبيد بن ربيعة ألف بيت من الشعر.

إن القراءة بعد الموهبة تحدد للأديب المسلم النوع الأدبي الذي يجد نفسه من

خلاله أكثر عطاءً وفرادة، وتعصمه من الاتكاء على المعنى فقط (وبذلك يكون

المعوَّل ليس على المحتوى الخلقي فحسب، بل على الكيفية التى يقدَّم بها هذا

المحتوى للمتلقي) [23] وبذلك تتحقق العلاقة التفاعلية بين الباثّ والمتلقي لا بالاستناد إلى القيم الأخلاقية وحدها ولا بالاعتماد على الشكلانية بذاتها.

وختاماً: نريد لأدبنا أن يغترف من حافظة يقظة مثقفة، وأن تتفجر تجربته

الغنية من غنى حسي ووجداني وفكري، وألا تكون إبداعاته سطواً مكشوفاً على

متحف الذاكرة المترهل الكسول. أرجو أن يكون هذا الإسهام قد وفق لأن يضيف

دليلاً آخر يتأكد من خلاله أن الأدب ليس ترفاً فكرياً ولا صوتاً معزولاً عن مسيرة

الأمة، (ونحن أحوج الناس أن ندرس ما يمكن أن يسمى جماليات اللغة المثقفة) [24] نفعل ذلك كي لا يسقط أدبنا في مقبرة اليومية، وكي لا يستمد أصالته من المناسبة التي استدعته بل من الثقافة التى أبدعته؛ (لأن كل عمل فني عظيم يضيف إلى الوجه الإنساني روعة وغنى) [25] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015