مراجعات في عالم الكتب
أزمة الحوار الديني [*]
مراجعة: محمد سليمان
من الكتب التي أحدثت في الآونة الأخيرة ضجة وردوداً بين صفوف
الإسلاميين كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)
والجديد في كتاب الغزالي هو أنه خلاصة آراء له كان ينشرها هنا وهناك في كتبه
القديمة والحديثة، مع زيادة في حدة اللهجة وعصبية وتشنج ربما كان يكتمه سابقاً.
ولخطورة الآراء التى طُرحت، أو بالأصح لخطورة المنهج التى طرحت فيه، فقد رُد عليه ردوداً علمية من أبرزها ما كتبه الشيخ سلمان العودة في (حوار هادئ
مع الشيخ الغزالي) ونعرض في هذا المقال نقداً آخر يركز على ما وراء هذا الكتاب
والجو الذي أُحيط به.
قدم الكاتب للموضوع بمدخل مهم جداً، وهو أن (الهم الداخلي) أصبح في
السنوات الأخيرة أوْلى من (الوافد الخارجي) ؛ فالتيارات العلمانية والقومية شهدت
الهزائم التاريخية ولم يبقَ منهم إلا الفلول، وتحول بعضهم لمحاولة التلفيق بين
العلمانية والإسلام.
من هنا تبدأ الخطورة، ومن هنا نبدأ بتلمُّس طرف الخيط كما يقال: (فقد
أصبح الداخل الإسلامى خليطاً بفعل توافد جماعات من المفكرين والباحثين ممن
يحملون تراثاً شخصياً علمانياً أو قومياً أو شيوعياً توافدهم إلى الساحة الإسلامية،
واتجاههم إلى البحث ومخاطبة الجماهير تحت شعارات الإسلام) [1] .
(وهذه النماذج الفكرية التى دلفت إلى (الداخل) الإسلامي، قد نجحت في ... إحداث بعض التأثير في توجهات وهموم بعض المفكرين والدعاة الإسلاميين) [2] .
(وهذه النماذج لم تدخل عن إيمان راسخ أو إسلام صادق وإنما دخلوا على أساس أن الأرضية التي يمكن أن يكون لهم وجود على أساسها تحولت كلية نحو الإسلام) [3] .
هذه الفلول التى عاشت سابقاً في مناخ التكتيك السياسي رأت أن التحدي
الأكبر لهم هو (كيفية إزاحة علماء الأمة ودعاتها ورموزها لكى يتبوؤا هم ... ريادة العمل الإسلامى، ولأنهم هم الممثلون (للعقلانية) و (للاستنارة) الدينية، وهذا التيار يلقى ترحيباً ودعماً من أجهزة ذات سلطان نافذ ومن تأمل المساحات الإعلامية المتاحة لهم يعلم ذلك) [4] .
وأظن أن القارئ بدأ يدرك مَن هم المقصودون بهذا الكلام والذين تتاح لهم
المساحات الواسعة من الإعلام، ولكن لا يزال عند المؤلف أشياء مهمة عن هذه
الفلول، ففي سبيل تحقيق أهداف هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الإسلامى لابد من
(كاسحات ألغام) تنظف لهم الطريق، فستعترضهم حصون علمية لا قِبَل لهم بها
لضعف مقدرتهم العملية أو لافتقارهم إلى الرصيد الدعوي الجهادي. إذن ماذا
يعملون، لابد من إحداث (خرق) في جدران القلعة، ولابد لمن يُحدث هذا الخرق
أن يكون من الشخصيات ذات الاستقامة الدينية والتراث الدعوي الشخصي.
هذه الشخصيات هي التي يراد توريطها لتقوم بهذه المهمة، وهذا الصنيع يتم
عبْر صياغة القضايا الفقهية والفكرية الإسلامية وحصرها ضمن إطار معين، ومن
الأمثلة على ذلك (ما حدث في أوائل الثمانينات إذ قامت إحدى المجلات الثقافية الكويتية - ذات الطابع العلماني - بتنظيم ملف شهري عن (التطرف الديني) كان جل المشاركين فيه ممن يحملون عداوة للفكر الإسلامى، ثم فوجئ القراء المسلمون باسم أحد الدعاة الإسلاميين يتوسط المشاركين في الملف، لم يكن حديث الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الملف هُجراً، ولكن المنبر الذي عرض من خلاله والتوقيت الذي صدر به الملف كل ذلك جعل من المقال (ورطة) استدعت من فضيلة الدكتور أن يعتذر عنها فيما بعد) [5] .
إن صاحب فكرة كتاب (السنة النبوية) هو (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) في
واشنطن، الذي يصفه المؤلف بأنه أحد المؤسسات الإسلامية التي دلف إليها مؤخراً
نفر من هذه الفلول الفكرية، فلماذا يوجهون الشيخ الغزالي إلى هذا البحث وهم
يعلمون أن الشيخ لا يدخل - علمياً - تحت وصف (الفقيه) كما لا يدخل تحت
وصف (المحدث) .
إن مَن وجه الدعوة إلى الشيخ في هذه المواضيع إنما كان يبحث عن (كاسحة
ألغام) تمهد له الطريق أمام أطروحات أكثر خطورة، وقد صرح الغزالي بأن هذا
المنهج ليس منهجه الشخصى، بل شيء متفق عليه (وقد تدارست مع أُولي الألباب
هذا الجو الفكري السائد واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق واقتياده إلى
الطريق المستقيم بأناة) .
بعد هذا المدخل المهم، الذي نوافق فيه المؤلف على مجمل الصورة التي
عرضها وخطورتها، ونعتقد أن الشيخ الغزالي كان عنده الاستعداد لمثل هذه
الكتابات ولا يخلو الأمر من توريط.
بعد هذا ناقش المؤلف مضمون الكتاب وركز على منهج الغزالي في طرحه
للمواضيع التي أثارها:
1- الفقه: لم يعالج الغزالي القضايا الفقهية بمنطق العلم والدليل وعرض
أقوال العلماء واختيار أصحها وأقواها، بل ربما حسب ذوقه الشخصي، فعندما
بحث موضوع الفن من موسيقى وغناء ونحت ومسرح ... قال: (ما المنهج الذي
أقدمه لهذه الأوساط الأوربية، هل أطلب إليهم إلغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلاً)
ومعلوم أن الفتوى لا تتعلق بأهواء البشر وإنما بمستندها الشرعي، فهل نهدر قيمنا
لإرضاء الذوق الغربي! وعندما تكلم على تحريم كل ذي ناب من السباع - كما
ورد في الحديث - رد هذا الحديث بحجة أن الحديث لا ينسخ القرآن، وهذا تجاهل
منه لمقررات أصول الفقه، والحديث لم ينسخ آية وإنما نسخ دلالة الآية، وهكذا
عالج مسألة (الحجاب والنقاب) فعندما رجح بتقديره أن تغطية الوجه ليست واجبة،
لم يحترم الرأي الآخر بل أراد مصادرته وأن من يقول به يسىء للإسلام. هذا
الاستخفاف بالقضايا الفقهية و (الزي الإسلامي) شجع أمثال أحمد بهاء الدين على
توبيخ المسلمين؛ لأنهم يبحثون: هل الربا حرام أم حلال بينما الأمريكيون يتابعون
رحلات الفضاء! !
2 - ولعل أخطر ما في كتاب الغزالي هو تناوله للحديث النبوي بصورة تفتح
الباب لا على مصراعيه للتجرؤ على السنة، فقد استبعد أحاديث لمجرد أنه لا
يستسيغها، ودون أي قاعدة علمية، ولو كان الأمر إليه لحذف كثيراً من الأحاديث،
وهكذا رد حديث موسى - عليه السلام - مع ملك الموت، وحديث: أن الميت
يعذب ببكاء أهله عليه، وحديث: تحريم كل ذي ناب من السباع ... الخ، بل
وصل الأمر إلى الاستهزاء عندما قال: (كان أئمة الفقه الإسلامى يقررون الأحكام
وفق اجتهاد رحب يعتمد على القرآن أولاً فإذا وجدوا في ركام (!) المرويات ما
يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع) فانظر إلى تعبير (ركام المرويات)
وهل هذا مما يليق بالحديث عن أشرف المرسلين؟ ! .
3 - يلاحظ أن الغزالي حريص على إبراز الإسلام أمام الغرب والشرق،
وهذا الحرص سبّب له مزالق تهدر به القواعد العلمية.
ففي معرض تعليق الغزالي على منع شهادة المرأة في القصاص والحدود قال:
(ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند استناداً قوياً إلى
النصوص القاطعة) ، إن من الخطورة بمكان أن يُدخل عالم مسلم ما يسميه (القوانين العالمية) في موازناته الشرعية، وإلا فسيجرّ البحث عن ميراث المرأة، وشهادة المرأة.
4 - عَامَلَ الشيخ أبناء الصحوة الإسلامية الذين قال إنه سيقتادهم برفق!
عاملهم بقسوة واستخفاف، وهذا ليس من المنهج القرآني في شيء [أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
وأخيراً فإن كتاب (أزمة الحوار الديني) على صغر حجمه إلا أنه عالج بصدق
منهج الغزالي في التفكير وطريقة تناوله للموضوعات التي أثارها، والأهم من هذا
هو اكتشافه التيار الذي يكمن وراء هذه الأطروحات، وأما معالجة القضايا التي
طرحها الغزالي، فلا شك أنها تحتاج إلى كتابات مستقلة يوضح فيها منهج أهل
السنة في ذلك، وهو نفسه منهج الفقهاء والمحدثين، ولا نفرق بينهما كما فعل
الغزالي.