مجله البيان (صفحة 5961)

الليبراليون اليوم لهم في تاريخنا نظير

عبد الملك عبد الله آل ملفي

لعل مما ابتلي به المسلمون اليوم هو حرب المصطلحات، وهذه الحرب ليست بالبساطة التي يتوقعها بعضهم، ولتوضيح هذه المسألة فإن فكرة هذه الحرب تعتمد على استبدال مصطلحات شرعية بأخرى ذات دلالات مغايرة؛ بهدف التلبيس على الناس وتهوين شأن المعصية في نفوسهم، أو للهروب من الصفات المترتبة على انطباق بعض المصطلحات الشرعية في حق من يقترف ما يقتضي ذلك، ومن أمثلة ذلك: ما توصف به فاحشة الزنى في بعض البلدان بأنها (تجارب عاطفية) ، أو ما توصف به الخمر من أنها (مشروبات روحية) .

وقد ورد في بعض الأحاديث ما يفيد بوقوع مثل هذا الأمر في آخر الزمان كما في الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» (?) .

ومن المصطلحات الحادثة على مجتمعاتنا الإسلامية اليوم ما يعرف بمصطلح (الليبرالية Iرضي الله عنهصلى الله عليه وسلمRصلى الله عليه وسلمLISM) ، وهو في الأصل مصطلح غربي المنشأ، ويعرَّف بأنه: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي (?) .

ولها تعريفات مرتكزها الاستقلالية، ومعناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي؛ ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها.

وبالرغم من أن هذه الفلسفة تنادي بتقديس حرية الفرد حتى ولو على حساب الدين أو العرف بل حتى الفطرة! مما يعني تعارضاً صريحاً مع شريعة الإسلام، إلا أنك تجد وللأسف في بعض بلاد المسلمين اليوم من يُصرِّح بكونه (ليبرالياً) أو نحو ذلك، ويحاولون تجاوز حقيقة المصطلح المصادم للشرع، وذلك عن طريق كثرة التغنِّي بمفاهيم الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان، حتى يظن من يجهل حقيقة الدين أن هذه المفاهيم إنما هي وليدة هذه الفلسفة وأنها ليست موجودة في الإسلام، بل إن البعض ممن يتسمون بهذا اللقب يعتقدون أن مجرد التسمي به سوف يجعل الناس يقبلون كل ما يمارسه أو يدعو إليه، مستغلين ذلك البريق الزائف لهذا المصطلح.

ويأتي هذا المقال إسهاماً في تعرية هذا الزيف، وذلك عن طريق محاولة وزن تلك الممارسات والدعوات التي يمارسها هؤلاء (الليبراليون) بالميزان الشرعي، وكذلك بمحاولة إحلال المصطلح الشرعي بديلاً لمثل هذه المصطلحات الخادعة.

ولكن يبقى السؤال: ما هو البديل الشرعي الأمثل لهذا المصطلح؟

وللإجابة عن هذا التساؤل فإني أعتقد أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى أبرز صفات من يطلقون على أنفسهم هذا المصطلح وكذا أبرز ممارساتهم ودعواتهم، ثم ننظر هل وُجِد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يشابههم في شيء من ذلك؟ ثم ننظر إلى المصطلح الذي استخدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للدلالة عليهم فنستخدمه، وبناءً على ذلك فإني سوف أستعرض أبرز ممارسات ودعوات من يسمون أنفسهم بـ (الليبراليين) ، وسأحاول ـ قدر المستطاع ـ أن أكون دقيقاً فيما أنسبه إليهم مستشهداً على ذلك بجملة من مقالاتهم أو مواقفهم المعروفة والمشهورة، ثم أقارن بينها وبين ما وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يشابهها، ومن ثَمّ سيتبين لنا جميعاً المصطلح الشرعي المناسب للحكم على هذه الممارسات والدعوات وأصحابها، فمن ذلك:

1 ـ دعوة الشعوب المسلمة إلى إلغاء الجهاد وعدم تدريس أحكامه بما فيها الشعوب المحتلة:

من أبرز دعوات الليبراليين في هذا الزمن دعوة الشعوب الإسلامية المحتلة إلى «التخلي عن خيار المقاومة نهائياً والخروج من دوامة الحروب والقضية الفلسطينية، والجنوح إلى السلام وقبول الأمر الواقع وإغلاق كل ملفات القتال» والقبول بالسلام بدون شروط، بل بما يراه العدو مناسباً بحجة «أن المهزوم يقبل ولا يفرض» (?) ، بل ويوجهون أشد أنواع النقد لكل عمل من أعمال المقاومة والجهاد تقوم به تلك الشعوب (?) ، وكذلك يدعون إلى إلغاء تدريس أحكام الجهاد بزعم أنه هو «الأساس الذي يستغله المفجرون والمخربون ليجندوا أبناءنا الآن فيما يسمونه جهاداً» (?) .

وبقليل من النظر والتأمل فإننا نستطيع القول بأن هذه الدعوة قد وُجدت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان هنالك طائفة يقفون ضد مبدأ الجهاد ويرون أنه عمل لا مبرر له ويمتنعون عن المشاركة فيه، حتى ولو كان ذلك تحت راية أعظم إمام في التاريخ وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد في قصة غزوة أُحد أن عبد الله بن أُبيّ انسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً: ما ندري علامَ نقتل أنفسنا؟! (?) .

2 ـ النيل من رموز الأمة وعلمائها والتطاول عليهم بالسخرية والتنقص والتهم الكاذبة:

وهذا الأسلوب من أكثر ما يمارسه الليبراليون، وقصدهم بذلك تشويه صورة العلماء والدعاة لدى العامة، ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب أخذ في التنامي في الفترة الأخيرة في ظل السكوت المطبق عنهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يصف أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة بأنه (يعد نفسه من العلماء، ومحسوب على هيئة كبار العلماء في المملكة) ، وأنه (يميّع أصل المسألة) ، ويختتم مقالته بقوله: (ونطالبك أنت يا شيخ ... بالاعتذار عما بدر منك في حقنا جميعاً) (?) .

وهذا الأسلوب ـ أيضاً ـ ليس جديداً، فقد مارسه أشباههم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، ونكتفي بذكر مثال واحد وإلا فالشواهد عديدة في هذا الباب: روى محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة: «ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء» ، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} إلى قوله: {كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 - 69] ، وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بنسعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (?) .

3 ـ ممارسة أساليب التزلف للقادة وتصنّع الغيرة على الوطن:

ومن أمثلة ذلك المزايدات المكشوفة حيال بعض الموضوعات كـ (الوطنية) وإعطاء تصور أنها ـ أي: (الوطنية) ـ حكر على أصحاب الفكر الليبرالي، وأنهم أحرص الناس على مصالح هذا الوطن، ومحاولة اتهام كل من خالفهم بعدم حب الوطن، كما قال أحدهم معدداً مآثر القوم: «وتحدثوا عن الوطن والوطنية، وعَلَم البلاد وهيبتها؛ يوم كان بعضهم يحرم ذلك» (?) ، وهذا الأسلوب قد مارسه أشباههم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فقد كان عبد الله بن أُبيّ يقوم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل جمعة حين يجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخطبة، فيقول: «هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا» ، ثم يجلس، فيقوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخطب، وكان من أمره أن فعل ذلك في الجمعة التي أعقبت معركة أحد فقام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأجلسه المسلمون بثيابه وقالوا: اجلس يا عدو الله فلست لذلك بأهل وقد فعلت ما فعلت» (?) .

4 ـ الدعوة إلى الفساد تحت مسمى الإصلاح:

يرى الليبراليون اليوم في كثيرٍ مما لديهم من دعواتٍ إفسادية إصلاحاً، ويصفون من يخالفهم بالتشدد والتكفير، حتى قال قائلهم وهو يصف العلماء والدعاة الذين عارضوا ما وقعت فيه بعض الوزارات من خطأ بقوله: «حتى أوصلهم ما وصلوا إليه من تشدد وتكفير وجرأة وصلت إلى التكتل الهائل ضد قرارات الدولة وخططها التطويرية والإصلاحية. وما الموقف المتشنج من قرار وزارة العمل بتشغيل النساء في محلات الأدوات النسائية عنا ببعيد» (?) . وكذلك فهم يعتقدون بأن الإصلاح لا يتم إلا إذا تخلت الأمة عن ماضيها وانسلخت عن دينها و «أدارت ظهرها بالكامل نحو المستقبل» (?) .

وقد وُجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فئةٌ يرون فيما يمارسون ويدعون إليه إصلاحاً، {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ، ولكن لما كان ما يزعمونه إصلاحاً هو في الحقيقة عين الإفساد؛ فقد ردَّ الله عليهم بقوله: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] .

5 ـ استغلال الأخطاء التي يقع فيها بعض المنتسبين للدين لتشويه صورة جميع المتدينين، واتهامهم بأنهم يستغلون الدين لأهداف أخرى:

فكما لا يخفى؛ فإن الليبراليين يستغلون ذلك للنيل من الدعوة والدعاة والمتدينين جميعاً ووصفهم بأنهم تيار «الإسلام السياسي» ، وأن «هذا التيار بدأ تكوين نفسه بعد أحداث الحرم المكي مباشرة قبل أكثر من ربع قرن، عندما التقى الفكر التنظيمي للإخوان المسلمين مع التراث الفقهي المتشدد للمدرسة السلفية التقليدية السعودية» ، وأنه «لا يريد الإعلان عن نفسه تحت صفة سياسية فبحث عن دثار يغطيه فوجد تياراً انطلق بقوة الإعصار وانتشر انتشار النار في الهشيم، فمجتمع المملكة شعب مسلم بالفطرة، والدولة قامت أصلاً على الشريعة الإسلامية، فاستغلَّ التيار هاتين الحقيقتين واستثمرهما استثماراً منقطع النظير، حيث تغلغل تغلغلاً هائلاً في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها، واستخدم كل الوسائل المتاحة: وسائل الإعلام كلها، النشرات والمطويات، الأشرطة، المخيمات، المراكز ... » ، وأن «التيار السياسي ودُعاته لم يدعوا شيئاً إلا وأسلموه وحشروا الدين فيه حشراً أو حشروه في الدين؛ ابتداء من المرأة وشؤونها، وانتهاء بشكل الرجل ولباسه وحديثه» ، وأن «خطأ في الحسابات قد حدث فانفلت الشباب من عقال التنظير الكثيف، إلى ميدان التطبيق العنيف» (?) .

لكن المتأمل يجد ـ أيضاً ـ بأن هذا الأسلوب قد سلكه البعض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد لذلك ما أخرجه البخاري ومسلم (?) فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيماً على المريسيع، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أجير يقال (جهجاه الغفاري) فازدحم هو و (سنان ابن وبر الجهني) على الماء فاقتتلا، فصرخ (الجهني) يا معشر الأنصار وصرخ (جهجاه) يا معشر المهاجرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة» ، وبلغ عبد الله بن أُبيّ ذلك، فغضب، وعنده رهطٌ من قومه فيهم (زيد بن أرقم) غلام حدث، فقال: «أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، ووالله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؟! أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ... الحديث» (?) .

وهكذا؛ فإنك تستطيع أن توجد العديد من أوجه الشبه بين الموقفين، ومن ذلك:

1 ـ أن الفريقين قد استغلا ما وقع من أخطاء لاتّهام خصومهم باستغلال الدين من أجل أهداف أخرى (كالسيطرة على البلاد أو الوصول إلى السلطة) ، ولم يحاولا تحديد سبب الخطأ ومعالجته بما يستحق.

2 ـ أن الفريقين استخدما (عمداً) لغة التعميم، فكما أن الليبراليين قد وضعوا الدعوة والعلماء والدعاة في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها؛ في كفّة واحدة مع شرذمة من المخربين والمفسدين وعمّوهم بلفظ (تيار الإسلام السياسي) ، فقد وضع عبد الله بن أُبيّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة جميعاً مع من حدث منه الخطأ وعمّهم بلفظ (جلابيب قريش) .

6 ـ التحالف مع أعداء الإسلام في الداخل والخارج:

أما داخلياً؛ فلا يخفى على أحد ما يمارسه أصحاب الفكر الليبرالي من تعاونٍ مع بعض الطوائف والفرق المناوئة لمنهج أهل السنة والجماعة وحضورٍ لمنتدياتهم والمشاركة فيها، ويحتجون بأن ذلك هدفه تعزيز الوحدة الوطنية (?) ، ويصورون أن منع هذه الفئات من ممارسة طقوسهم وشعائرهم إنما هو نوع وصاية من طائفة معينة ذات مذهبٍ وفكرٍ معين وإقصاءٌ لا مبرر له.

وقد كان من أشباههم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يدافع حتى عن اليهود، فقد ورد في قصة غزوة بني قينقاع أنهم وبعد نقضهم العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصرهم فنزلوا على حكمه في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا، فعند ذلك قام عبد الله بن أُبيّ ابن سلول فألحَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدر عنهم العفو ولم يرَ مسوغاً لقتلهم وقال: يا محمد، أحسن في موالي ـ وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكرّر ابن أُبيّ مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلني» ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: «ويحك! أرسلني» . ولكنه مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! (?) .

وأما خارجياً؛ فإنك لن تجد عناءً كبيراً في إثبات مدى التعاون القائم بين هؤلاء الليبراليين وبين أعداء الأمة من الدول الكافرة، بل كل ما عليك هو الرجوع إلى بعض التقارير التابعة لبعض مراكز البحوث الغربية والتي تنادي بدعم هذه الفئة واستغلال أنشطتها ومنابرها لنشر الديمقراطية الغربية (?) .

وهم بذلك إنما يشابهون من نزل فيهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] ، فقد ذُكر أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجلٌ من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان له شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية، شرق بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحد، ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومنّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» ، فلما قفل ـ عليه السلام ـ راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخَبَر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أُسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد مَنْ هدمه قبل مقدمه المدينة (?) .

فكم يوجد اليوم من «جمعيات وأندية وملتقيات ضرارٍ» ينشئها الليبراليون ويسعون دائماًً إلى أن تحمل صفة الرسمية وأن يفتتحها بعض المسؤولين ليحتجوا بذلك على تقريرها وإثباتها، ولو سألتهم عن أهدافها: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107] ، بينما هي: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} [التوبة: 107] . وبعد هذا العرض الموجز لبعض ما يدعو إليه ويمارسه من يتسمون بـ (الليبراليين) في هذا العصر وما كانت تدعو إليه وتمارسه تلك الفئة المعروفة بمخالفة المسلمين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ نجد أن الطائفتين قد اتفقتا في مجمل تلك الدعوات والممارسات إلى حد التطابق، مما يؤكد لنا أن دوافع كلا الفريقين واحدة.

وعليه؛ فلا ينبغي أن تستوقفنا المصطلحات كثيراً، بل الواجب العودة إلى المصطلح الذي وصف الله ورسوله به من يقع في مثل هذه الأعمال وتحذير من وقع فيها (بعلم أو بدون علم) من أن يكون شريكاً لهم في العقوبة، وكذلك ينبغي علينا أن نكون على حذر ممن شابهوا من قال الله فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] .

والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015