حسن محمد إبراهيم
انهار نظام المحاكم الإسلامية في الصومال باجتياح القوات الأثيوبية المدعومة أمريكياً للمناطق الجنوبية والوسطى التي كانت تخضع لنفوذها بما في ذلك العاصمة مقديشو، وشمل هذا الانهيار أجهزة المحاكم الإدارية، وميليشياتها العسكرية.
وأياً كانت أسباب الانهيار الداخلية والخارجية فإن الاجتياح الأثيوبي الذي يسنده الغطاء الجوي الأمريكي هو الذي أزال بالفعل نظام المحاكم عن الحكم، وهذا الغزو الأثيوبي الكاسح مفهوم الأسباب والأبعاد كما أشار إلى ذلك أحد رؤساء الدول العربية؛ فأثيوبيا وهي العدو التقليدي للصومال كانت ترى أن عودة الصومال إلى الوجود ككيان موحد وعودة الاستقرار إلى ربوعه سيكون على حسابها، وسيؤدي إلى ظهور العرقيات والأغلبية المسلمة المهمشة في أثيوبيا إلى السطح، وهو مما يؤدي إلى تمزق كيانها المهزوز أصلاً، وما كان لها أن تنتظر حتى يستوي الصومال ـ بقيادة المحاكم ـ على سوقه، فكانت هذه الهجمة منها حرباً استباقية على غرار الحروب الأمريكية الاستباقية المعاصرة، وقبل ذلك وبعده تحمل أثيوبيا نوايا توسعية بالاستيلاء على الصومال أو جزء منه ليكون منفذاً بحرياً لأثيوبيا، وهو الهاجس الذي لم يفارق حكام أديس أبابا منذ أمد بعيد، وبذلك نطق حكام أثيوبيا السابقون (منليك) و (هيلاسي لاسي) و (منجيستو هيلا مريم) . ثم لما اشتد الخناق على أديس أبابا بعد انفصال أرتيريا وأصبحت دولة داخلية معزولة اشتد طمعها في السواحل الصومالية التي يزيد طولها عن 3000 كم، لا سيما في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها الصومال الذي مزقته الحروب الأهلية. وسبق لأثيوبيا أن عقدت اتفاقية مع نظام (أرض الصومال) في استخدام ميناء بربرة، كما أجرت مثل هذا العقد مع إدارة (بونت لاند) إلا أن ذلك كله لم يهدِّئ من روع أثيوبيا، بل أسال لعابها وزاد من حرصها على وضع يدها على مرافئ صومالية تكون بديلة عن أرتيريا المستعصية. ومع أن هذه الحرب الأثيوبية كانت تخدم المصالح الأثيوبية بالدرجة الأولى، غير أنها كانت في الحقيقة خدمة مدفوعة الأجر تنفذ لحساب أمريكا التي أزعجها نظام المحاكم الإسلامي.
أما الحكومة الانتقالية العميلة فما كان لها في الأمر ناقة ولا جمل، بل كانت (حصان طروادة) الذي امتطته أثيوبيا لاجتياح الصومال وحسب.
- السيناريوهات المحتملة في المستقبل:
ونوجز فيما يلي بعض (السيناريوهات) المحتملة بعد سيطرة أثيوبيا على المناطق التي كانت تحكمها المحاكم الشرعية ومنها:
أولاً: بقاء أثيوبيا قوةً محتلةً تكرس لبسط سيطرتها على الصومال كله بغية ضمه إلى أثيوبيا لتحقيق الحلم الذي طالما راود حكامها، وإلى مثل هذا أشار نائب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية (حسين عيديد) المقرب من أثيوبيا؛ حيث ذكر في حديث أدلى به إلى إذاعة الـ (بي بي سي) أنه ـ الحكومة الصومالية الانتقالية ـ ستسعى إلى إزالة الحدود بين البلدين وتوحيد العملة ونظام الجوازات والاقتصاد، وبناء جيش موحد للبلدين.
بيد أن تحقيق هذا الأمر صعب للغاية إن لم نقل باستحالته؛ وذلك لأسباب منها:
| يستحيل أن يرضى الشعب الصومالي بمختلف فئاته بهذا الاحتلال وهو الذي ناضل من قبلُ لنيل حريته من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وتمكَّن بعد جهد من هزيمة الاستعمار ونيل الاستقلال، وبقاء أثيوبيا لفترة أطول مدعاة لقيام منظمات تحريرية مختلفة المشارب والاتجاهات.
| تعاني أثيوبيا من وضع داخلي صعب لا تحسد عليه؛ وتورطُها في حرب طويلة الأمد في الصومال يفاقم من أزمتها الداخلية التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيارها دولةً، أو نشوب ثورات داخلية تنتهي بانهيار النظام الحاكم في أحسن الأحوال.
| تعاني أثيوبيا من وضع اقتصادي حرج؛ حيث ذكرت منظمة اليونيسيف قبل عامين تقريباً أن الاقتصاد الأثيوبي تراجع إلى ما كان عليه قبل عشرين عاماً، ويقوم النظام الأثيوبي على الإعانات والصدقات التي يتلقاها من الشرق أو من الغرب، وهو ما يجعل تمويل حرب طويلة الأجل أمراً مستحيلاً لا تطيقه دولة فقيرة كأثيوبيا.
ثانياً: انسحاب أثيوبيا بعد قضائها على ما كانت تعتبره عدوها الاستراتيجي وهو التيار الإسلامي وإعادة الفوضى إلى ما كانت عليه الصومال قبل المحاكم، وهذا الخيار مستبعد أثيوبياً؛ لأنه يفسح المجال لعودة الإسلاميين إلى الساحة أقوى من ذي قبل.
ثالثاً: الإبقاء على جزء غير يسير من القوات الأثيوبية لضمان مصالحها الاستراتيجية واستخدام القوة إذا لزم الأمر، مع نشر قوات إفريقية إلى جانب القوات الأثيوبية المحتلة لتشريع الاحتلال وذر الرماد في العيون؛ مع تحويل تكاليف الحرب المالية والبشرية إلى الاتحاد الإفريقي بدل انفراد أثيوبيا بكل هذه التبعات، ويبدو أن هذا الخيار هو المفضل لدى أثيوبيا إلا أنه صعب التحقيق، حيث إن اجتماع أديس أبابا الذي عقده الاتحاد الأفريقي في يناير/ كانون الثاني المنصرم في هذا الخصوص، قد باء بالفشل، وهو الأمر الذي يشير إلى أن أثيوبيا ستظل في كل الحالات هي التي تتولى كبر مشروع الاحتلال وتحمل تبعاته.
رابعاً: تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ وذلك بضم بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع إلى الحكومة الانتقالية، بالإضافة إلى من يسمون أمريكياً بالمعتدلين من عناصر المحاكم، لامتصاص الغضب الشعبي والتستر على الخلل الجوهري الذي تنطوى عليه هذه الحكومة العميلة، وإن كان هذا المنحى هو ما يبدو أن الخطاب الأمريكي يميل إليه، إلا أنه لا يضفي على الحكومة العميلة أي مصداقية، وانسحاب القوات الأثيوبية بعد هذه التشكيلة المرقعة يجعلها عرضة لسهام المقاومة المدعومة شعبياً، وستضطر أثيوبيا إلى البقاء ولو بشكل غير رسمي حتى بعد إعادة تشكيل الحكومة الانتقالية ما لم تجبرها ضربات المقاومة على الانسحاب.
- إمكانية عودة المحاكم لهذه الأسباب:
ولا يعني انهيار المحاكم بوصفها نظاماً سياسياً وانفراط عقدها التنظيمي أن الجو بات مهيأً للاحتلال، ولا يعكر صفوه أي منغص، بل إن هناك عقبات كثيرة ومقاومة شعبية صلدة تنتظر الاحتلال الأثيوبي، ويشير إلى ذلك ما يلي:
1 ـ البنية التحتية التي قامت عليها المحاكم من حيث القوة البشرية لم يصبها كبير أذى، وكان معظمها ينتمي قبل المحاكم إلى تنظيمات إسلامية معروفة، وتعبئتها وإعادة تنظيمها لا يستغرق وقت كبير، إذا عزمت تلك التنظيمات على مقاومة المحتل، وهذا ما تطابقت عليه جميع قناعات الفعاليات الإسلامية في الصومال، وإن لم يكن هناك إلى الآن آلية مشتركة للمقاومة بين هذه المنظمات. بَيْدَ أن بعض فصائل المقاومة قد بدأ فعلاً إعلان برنامجه، وقام بعمليات منظمة ضد القوات الأثيوبية مثل (الجبهة الإسلامية لمقاومة الاحتلال) المحسوبة على الوسط السلفي، و (حركة المقاومة الشعبية في بلاد الهجرتين) المحسوبة على التيار الإخواني المحلي، والأجواء مرشحة لظهور فصائل أخرى إسلامية ووطنية.
2 ـ العداء بين الصومال وأثيوبيا مستحكم وفصوله التاريخية مليئة بأحداث يصعب على الذاكرة الجماعية نسيانها أو تناسيها، والصومالي مهما كان اتجاهه أو مستواه الثقافي مَحْقُونٌ بكراهية أثيوبيا، بالإضافة إلى أن أثيوبيا تحتل أرضاً صومالية إلى الآن وهي منطقة الصومال الغربي (أوجادين) ، وتحمل في الوقت ذاته نوايا توسعية يدركها كل صومالي، وهو الأمر الذي يجعل الاطمئنان إلى الاحتلال الأثيوبي مستحيلاً.
3 ـ يدرك جميع الصوماليين أن الحكومة الانتقالية التي مهدت الطريق للاحتلال الأثيوبي لا تملك من الأمر شيئاً، وأن رئيسها ووزراءها ما هم إلا دمى تحركها أثيوبيا، بالإضافة إلى أنها لا تحظى في الأصل بشعبية تذكر، ووجودها وعدمه في المعادلة سيان، ولن يثني المقاومة عن مواصلة مسيرتها حتى دحر الاحتلال وإزالة توابعه.
4 ـ الوضع في الصومال عاد إلى ما كان عليه قبل المحاكم من فوضى وتناحر، وزال الأمن والاستقرار الذي جاءت به المحاكم الشرعية؛ حيث قتل في مقديشو وحدها خلال اليوم الأول للاحتلال 21 مدنياً، يضاف إلى ذلك أن زعماء الحرب الذين طردتهم المحاكم عادوا إلى مقديشو على ظهر الدبابات الأثيوبية، وهم مرفوضون شعبياً، وليس في حوزة أثيوبيا من يسمع لها أو يطيع غير هذه العينة البغيضة البائسة، وليس بإمكانها فرض نظام أمني يأمن فيه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن جنودها غير آمنين على أنفسهم؛ بحيث تنهال عليهم صباح مساء مدافع المقاومة ورشاشاتها، وقد فشلت بالفعل في نزع الأسلحة من سكان مقديشو بعد أن أصدرت في ذلك قرارات صارمة قوبلت بالاستهجان والسخرية من قِبَلِ سكان العاصمة، ولم يسلَّم لها قطعة سلاح أو طلقة رصاص، اللهم إلا ما كان من المسرحية الهزيلة التي سلم فيها بعض زعماء الحرب أسلحة نسبت إليهم وهم في الأصل محسوبون على الاحتلال، وقد بدأ سكان مقديشو الحنين إلى فترة المحاكم التي نعموا فيها بالأمن والاستقرار، وبدأ التململ من الاحتلال في زمن قياسي لم يكن متوقعاً وهو ما يدل على أن الجو مهيأ لاحتضان كل من يرفع راية المقاومة ولا سيما إذا كان من الإسلاميين الذين أثبتوا جدارتهم القيادية في فترة المحاكم.
5 ـ الصومال جزء لا يتجزأ من العالم الإسلامي والعربي، ويشكل عمقاً استراتيجياً لا يجوز التفريط فيه؛ فهو يطل على باب المندب والمحيط الهندي الذي تمر عبره تجارة النفط، كما هو حزام أمني متقدم للجزيرة العربية؛ إضافة إلى أنه بوابة الإسلام والعروبة إلى شرق أفريقيا، وسلخه من محيطه الطبيعي ـ العربي والإسلامي ـ يفت في عضد الدول الإسلامية والعربية، وتعد مصر من أكبر المتضررين بالاستيلاء الأثيوبي على الصومال؛ بحيث ستواجه بذلك تهديداً حقيقياً في مياه النيل التي تسعى أثيوبيا إلى إحكام السيطرة عليها منذ أمد غير يسير، علاوة على أن أثيوبيا عضو في المعسكر اليهودي الذي يناقض المصالح الإسلامية والعربية؛ وعليه فإن كثيراً من الدول الإسلامية والعربية ستضطر إلى الانحياز إلى مصالحها الحيوية والاستراتيجية؛ وذلك بدعم المقاومة الصومالية ضد المحتل سياسياً ولوجستياً، وإن لم يحدث هذا التأييد في النطاق الرسمي فسيحدث في النطاق الشعبي كما يجري الآن في العراق وأفغانستان وحتى فلسطين وغيرها من القضايا الإسلامية، وسيزيد ذلك من قدرة المقاومة وأدائها.
- هل ستدفع أثيوبية من فاتورة الاحتلال؟
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الصومال مُقْدِمٌ على مرحلة يكون القدح المعلَّى فيها للمقاومة، وأن الاحتلال الأثيوبي سيدفع فاتورة باهظة ستجبره في النهاية على الرحيل النهائي غير مأسوف عليه هو وما نتج عنه؛ لأن التابع تابع في كل الأحوال.
وهذا ما برهنت عليه الأحداث الدامية الأخيرة في مقديشو التي قلبت موازين القوى لصالح المقاومة الإسلامية في زمن قياسي لم يكن متصوراً لدى كثيرين؛ حيث استطاعت إجبار القوات الأثيوبية على التحول من مهاجمة تحاول السيطرة على كافة أحياء العاصمة إلى مدافعة تحاول تخليص جيشها المحاصر في ملعب كرة القدم.
ويرى المراقبون أن المقاومة الإسلامية اتخذت استراتيجية جديدة تقوم على أمرين مهمين:
1 ـ التنازل عن السيطرة على المدن والدفاع عنها ـ والذي ثبت بالتجربة أن النجاح فيها لمن يملك الآلة العسكرية الأكثر تطوراً ـ واللجوء إلى حرب المستضعفين وهو ما يعني الانتشار السريع في طول البلاد وعرضها، وتكثيف العمليات داخل العاصمة التي يملك الصوماليون خبرة كبيرة بالقتال فيها، ولا سيما في ظل التأييد الواسع الذي يلقاه الإسلاميون من أهالي مقديشو الذين لم يعطوا خياراً آخر سوى المقاومة. وقد نجحت المقاومة في الاختبار الأول بجدارة ـ رغم إجماع المحللين بصعوبته البالغة ـ وكبدوا الأثيوبيين خسائر فادحة، وسحلت جثث جنودهم في شوارع مقديشو، وهو الأمر الذي أعاد إلى الأذهان صور سحل جثث أسيادهم الأمريكان قبل 14 عاماً.
2 ـ عدم الانفصال عن باقي الشعب لتفويت الفرصة عن العدو لاصطياد الإسلاميين والنيل من عناصرهم بعد تمييزهم عن الشعب؛ وذلك عن طريق تعبئة كافة الشعب بمن فيهم القوميون ورؤساء العشائر وحضهم على المقاومة ضد المحتل الأثيوبي الأمريكي، وقد نجحوا فيها أيما نجاح؛ حيث اتخذت المقاومة منحىً شعبياً تشارك فيه كافة شرائح المجتمع، وهو الأمر الذي خفف عن كاهل الإسلاميين أعباءً كثيرة، حيث اقتصر دورهم الآن على قيادة المقاومة وتوجيه مساراتها.
وقد أنتجت تلك الجهود ثمارها حيث فجَّرت طاقات المجتمع الصومالي في المهجر، ونُظِّمت حملات إعلامية ومؤتمرات كبيرة في أوروبا وأمريكا أُعلن في بعضها عن حركات تحررية ضد المحتل الحبشي.
هذا التصعيد الإعلامي والعسكري هو الذي أجبر ـ في نظر المراقبين ـ قادة أديس أبابا على إعلان هدنة مع المقاومة والتفاوض معها ـ على الأقل لالتقاط الأنفاس والإعداد لمواجهة أصعب ـ وقد وافقت المقاومة على تلك الهدنة بدءاً من يوم الأحد الموافق 13/3/1428هـ بشروط أهمها: انسحاب القوات الأثيوبية من كافة الأماكن التي احتلتها من العاصمة، لإعادة السكان المدنيين الذين هُجِّروا منها عنوة، ومن ثم الترتيب لانسحابها من الصومال كله.
فهل ستُصغي أثيوبيا آذانها لهذه المطالب وتنسحب من الصومال بسرعة؛ مكتفيةً بأقل الخسائر، أم أنها مستعدة للبقاء في مستنقعه لإدارة وتمويل حرب طويلة الأمد قد تكون فصولها المقبلة أشد وأصعب؟ هذا ما ستجيب عنه أيام المستقبل القريب.