د. محمد يحيى
من الأفكار التي يدأب العلمانيون في العالم العربي على ترديدها على خلاف الدعاوى التي يعملون في إطارها من إقامة دولة مدنية ... إلى إعمال العقل؛ أنهم يريدون إحلال المساواة، وإقرار حقوق المواطنة، وفتح الباب واسعاً للحريات. وحسب هذه الدعاوى وعلى قوّتها يطالب العلمانيون بإقامة الدولة المدنية أو العلمانية بعد إقصاء الإسلام عن الدساتير والقوانين ومجالات الدولة ومؤسساتها.
لكن هؤلاء يمارسون هنا خدعة غريبة، ويعملون في إطار ازدواجية غير مسبوقة، اللهم إلا في ممارسات أعداء الإسلام من الصهاينة والغربيين، فهم إذ يدعون إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة والحكم والقوانين وشتى مؤسسات البلاد؛ لكي ينفتح الباب أمام إعمال المساواة والمواطنة والمدنية ـ كما يزعمون ـ لا يقطعون الشوط ـ الذي يدّعون ـ إلى آخره، ولا يطالبون في الوقت نفسه بفكِّ القيود والسدود المفروضة على كل النشاطات الدينية الإسلامية ـ بما في ذلك الدعوية ـ في معظم البلاد العربية تحت مسميات مكافحة التطرف والإرهاب والتشدد.
إن العلمانيين يروّجون لفكرة إقصاء الدين عن الحكم والسياسة والحياة تحت مسمى إتاحة الفرصة لإعمال مبادئ المساواة والمواطنة والدولة المدنية، لكنهم في الوقت نفسه لا ينسبون هذه المبادئ إلى الدين الذي أقصوه عن الحياة، ولا يعملون على مدِّ المساواة والحرية إليه؛ فيستمرون في الدعوة إلى إبقاء القيود الراهنة، بل والاضطهاد المحيط بهذا الدين، بحجة أنه لا يمكن السماح للإرهاب بالنمو والانتشار، أو بحجة أن إعطاء النشاطات الدينية الإسلامية الحقَّ في العمل بحرّية في ظل الدولة المدنية سوف يهدد أسس تلك الدولة ويعرّضها دائماً لخطر تسلُّط أعدائها الدينيين.
والأمر هنا لا يقتصر على مسألة ازدواجية المعايير، بل إن العلمانيين في هذا التصور يناقضون أسس العلمانية ذاتها كما تعرّفها أو تبشر بها بعض الدول الغربية التي يحذون حذوها؛ فالعلمانية إذا كانت هي فصل الدين عن الدولة ـ أياً كان مضمون هذا الفصل وأبعاده، وأياً كان الواقع الفعلي لممارسته ـ لا يعني ذلك المفهوم الاستمرارَ في هذا الإبعاد والملاحقة والإقصاء والفصل إلى أقاصي أركان الحياة الاجتماعية، ولا يعني الإيغال في هذه الأمور إلى مستوى الدين الأمريكاني! حيث الشعائر والعبادة والأفكار العقيدية وحق المؤمنين وحريتهم في المجتمع لممارسة شعائرهم والدعوة لها والتفكير في شؤون دينهم والعمل على دعم طائفتهم.. إلخ.
ولو نظرنا إلى فرنسا ـ مثلاً ـ حيث تدعي الدولة أنها علمانية، وتبالغ في إظهار ذلك كفكر مرجعي لها، لا يؤدي فصل الدين عن الدولة المرفوع كشعار لازم في كل المؤسسات إلى ملاحقة الناس والمذاهب النصرانية واليهودية أو التضييق عليها في أي مجال خارج مجال الحكم المباشر بأضيق معانيه. صحيح أن الوضع في فرنسا يختلف ـ كما هو معروف ـ بالنسبة للمسلمين حيث تفسر العلمانية على طول الخط بأنها تعني: حرمانهم من أبسط الحريات ـ وليست قضية الحجاب ببعيدة ـ، وأنها تعني أيضاً: تدخل الدولة في إدارة مساجدهم، وإملاء مضامين خطب الجمعة والدروس الدينية، ومراقبة كتاباتهم الدينية، والتدخل لمنع ما تراه الدولة مهدّداً لها. كل هذا صحيح لكنه ينطبق على المسلمين وليس على أي ملّة ونحلة أخرى؛ سواء الموصوفة بالسماوية أو الوضعية، مثل: الهندوسية والبوذية. لكنه لا ينطبق بكل تأكيد على النصرانية واليهودية.
وصحيح أن هذا يُعدّ نموذجاً مثالياً لحكاية ازدواجية المعايير، لكنه يدل على أن العلمانية في بلادها لها شروط للانطباق، وهي حتى في الحالة المتشددة ـ كما في فرنسا ـ لا تصل إلى الحدِّ الذي يقول به العلمانيون العرب ضد الإسلام الذي يحلو لبعضهم على سبيل الدعاية أن يقول: إنه يؤمن به، والمحصلة هي أن العلمانيين العرب لا يريدون ـ وهم يبشّرون بالعلمانية ويعلنون عن مزاياها في المساواة والحرية والمواطنة ـ أن يلتزموا بأبسط شروطها وأولها المعمول بها في البلاد التي قدمت منها، والتي يتطلّعون إليها للهداية والإرشاد والقدوة.
إن العلمانيين العرب يعملون وسط بيئة فكرية وسياسية بل وأمنية سِمَتها الأولى ـ وربما الوحيدة ـ ضربُ الحركات والتيارات الإسلامية وإقصائها عن شتى نواحي الحياة ومعها الدين نفسه؛ حيث تحفل الساحة بمفردات من طراز: تجفيف الينابيع، واستئصال التطرف، وفرض ما يسمى بالاعتدال ولو بالإفراط في استعمال القوة المسلحة، بل إن هؤلاء العلمانيين يعملون بالتحديد كجزء من هذه البيئة وكقوة لها دورها المحدد الذي تؤديه في عملية ضرب الحركات والأفكار الإسلامية ومعها أركان الإسلام نفسه. وهم من هذه الزاوية يؤدون واجبهم على النحو الأكمل وبمنطقية وتفانٍ يحسدون عليها جميعاً. ويذهب هذا بهم إلى حدِّ ارتكاب الازدواجية والنفاق الصريحين.
فوسط دعاوى الحرص على الحرية والمساواة والعدالة في المعاملة.. إلخ ـ والتي تصدر أساساً لأغراض الدعاية، ولأغراض استمالة الأقليات غير المسلمة إلى مشروع ضرب الإسلام والمسلمين ـ لا يجد العلمانيون أية غضاضة أو غرابة أو تناقض في أن يعلنوا في الوقت نفسه ـ وهذا هو دورهم الأصيل ومهمتهم المحددة ـ عن ضرورة أن تظل القيود والحصار بل والاستئصال على أبسط النشاطات الإسلامية، بل وأن تتضاعف عما هي عليه الآن تحت حجة الحفاظ على الدولة المدنية من أعدائها. ويقال هذا في الوقت نفسه الذي يطالب فيه العلمانيون بأوسع الحريات، بل وبإقامة كيانات مستقلة وشبه حكومية للطوائف المدنية والعرقية الواقعة داخل بعض الدول العربية. إن تجاهل دعاية العلمانيين العرب لأول شروط التطبيق العلماني ـ كما عرفها الفكر الغربي ـ والممارسة هناك في أحيان كثيرة؛ يشير إلى طبيعة الدور المناط بهم في عملية الهجوم على الإسلام الجارية الآن.