مجله البيان (صفحة 5882)

جدلية العقل والدين بين الفكر الغربي والدين الإسلامي

عبد الله بن نافع الدعجاني

لعلّ أهمَّ ما يميز الفكر الغربي الحديث والمعاصر من غيره هو اصطباغه بفلسفة التفكيك، تلك الفلسفة التي ترفض المرجعية الفكرية والأخلاقية، هادفةً من ذلك نسفَ أيّ أساس للحقيقة، وإلى تقويض ظاهرة الإنسان، فليس هناك ـ في فلسفة التفكيك ـ حقيقة واحدة، بل مجموعة من الحقائق المتناثرة النسبية، وليس في الإنسان إلا بُعْدٌ واحد، وهو البُعْدُ المادي المجرَّد من القيم الأخلاقية والجمالية والروحية، تسيطر عليه العقلانية المادية وتطبّق عليه معايير العلوم الطبيعية والرياضية الكمّية.

لم تولد تلك الفلسفة في عصرنا الحاضر، وإن كان يتزعمها اليوم الفيلسوف (جاك دريدا) ، بل كانت بذرة كامنة في بنية العقل الغربي بشقّيه الفلسفي والدِّيني، وما زالت تكبر وتزداد تضخُّماً حتى أوصلت المشروع الفكري الغربي إلى العدميّة المحضة.

فالفكر الغربي بعد أن فكَّك الإنسانَ وجعله كائناً آلياً تحرِّكه غرائزه الوحشية المظلمة القابعة داخله كما يصوّره (دارون) ، أو تدفعه القوانين الآلية التي لا يمكن تجاوزها كما تصوّره الفلسفة المادية، بعد أن فعل ما فعل بهذا المخلوق الكريم قوَّض علاقته بخالقه، وجعلها علاقةَ تناقضٍ لا علاقةَ انسجامٍ، وعلاقةَ صراعٍ لا علاقةَ عبوديةٍ.

بسبب هذه الثقافة التفكيكية استشكل الفكر الغربي الحديث والمعاصر علاقةَ العقل الإنساني بالدِّين الإلهي، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضادّ، بل والتناقض، لكنه انقسم في محاولة حلّه هذه المشكلة المفتعلة إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول: اتجاه متطرِّف غالٍ، يهدف إلى القضاء على الدِّين ومصدره جملةً وتفصيلاً، مع تأليهه العقل الإنساني. وهذا الاتجاه وإن كان قد ضعف تأثيره الفكري في فكر السواد الأعظم للشعوب الغربية، إلا أنه قد مثله لفيف من مشاهير الفلسفة الغربية باختلاف اتجاهاتهم الفلسفية من وضعية ومادية تقليدية وماركسية، فمنهم على سبيل المثال:

1 ـ (دولباخ) : وهو فيلسوف مادي من القرن الثامن عشر، رفض كل الأدلة على وجود الله، بناءً على أن الطبيعة في الكون كله ـ في نظره ـ كُلٌّ واحد بذاته لا يحتاج إلى غيره في تفسيره، ولهذا أنكر الإلهَ، حتى أنه (كان يتباهى بأنه العدو الشخصي للإله) (?) .

2 ـ (نيتشه) : صاحب فلسفة القوة، فقد تمادى في نزعته الإلحادية، وقرّر أن: (الإنسان في لحظة تعسه من حياته اخترع ـ والعياذ بالله ـ خرافةً أسماها (الله) ، وظلَّ منذ ذلك الحين مكبّلاً بقصة من خلقه هو، إلا أنه ليس من إله غير الإنسان لو واتته الشجاعة على أن يعرف قدره..) (?) ، ولذلك أعلن في كتابه (هكذا تكلَّم زرادشت) موتَ الإله، إذ يقول: (جميع الآلهة قد ماتت، أو بأن الله قد مات God is dead) (?) .

وقد مثل هذا الاتجاهَ فلاسفةٌ كُثر غير ما ذكرت، أمثال: (ماركس ولينين وكونت وغيرهم) ، إلا أن هذا الاتجاه أخفق إخفاقاً ذريعاً في محاولته حلَّ ذلك الإشكال الذي استشكله؛ لأنه هرب من المشكلة ولم يعترف بطرفها الآخر وهو الدِّين، وصادم الفطرة البشرية، ولذلك لم يكن مقنعاً لا فلسفياً ولا منطقياً، فلم يكن أثره الفكري بقدر أثر الاتجاه الثاني؛ لأنه اتجاه لا يملك إلا لغة الرفض والإقصاء والتطرُّف.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه التوفيقي الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، لكنه أقصى الطرف الثاني وهو الدِّين من ميدان المعرفة البشرية، وربطه بالوجدان القلبي المجرد من معنى العقل والتعقُّل.

وقد بلور هذا الاتجاه الموقف العام للفكر الغربي المعاصر من الدِّين والوحي، فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيين مثل مفهوم الأدب والفن القائم على معايير ذاتية ترفض إقامة البراهين العقلية على صِدْقها، ويستحيل الإقناع بصِدْقها إقناعاً عقلياً.

وقد ذهب إلى هذا الاتجاه كثير من الفلاسفة الغربيين على اختلاف اتجاهاتهم الفلسفية، فمنهم على سبيل المثال:

1 ـ (بسكال) : فقد كان يرى أن الإيمان الدِّيني لا يخضع للعقل، بل يتعلّق بالوجدان القلبي؛ إذ يقول: (إن القلب هو الذي يستشعر الله لا العقل، هذا هو الإيمان، الله محسوس للقلب لا للعقل) (?) .

2 ـ (إيمانويل كانت) : إذ تهدف فلسفته النقدية وتتمحور حول تأكيد عجز العقل عن إثبات الميتافيزيقيا ـ أي: الغيوب ـ وأعظم تلك الغيوب ـ في نظره ـ مسألة «وجود الله» و «حرية الإرادة» و «خلود النفس» ، لكن (كانت) يعود ويؤكد ثبوت هذه المسائل الميتافيزيقية، لكن من طريق آخر، وهو الأخلاق أي: الوجدان الداخلي، أو كما يسميه «العقل العملي» (?) .

3 ـ (برتراند رسل) : فعلى الرغم من كونه ملحداً لا يدين بدين إلا أنه كان يؤكد على أن «الدِّين» لا يأتي بحلول مقنعة عقلية للمشكلات، وإنما هو قائم على الإرغام لا الإقناع العقلي، ففي سياق وصفه الفلسفة يقول: ( ... لكنها ـ أي: الفلسفة ـ كذلك تشبه العلم في أنها تخاطب العقل أكثر مما تستند إلى الإرغام، سواءً كان ذلك الإرغام صادراً عن قوة التقاليد أو قوة الوحي ... ) (?) .

4 ـ (جورج سنتيانا) : الذي يقول عن الإيمان الدِّيني إنه (غلطة جميلة أكثر ملاءمة لنوازع النفس ومن الحياة نفسها) (?) ، فقد كان يميل إلى الدِّين شعورياً، لكن يكفر به عقلياً، هذه المشكلة أرَّقته فدفعته إلى تأليف كتابه الشهير (العقل في الدِّين) ، انتهى فيه إلى اللاأدرية المظلمة ممتزجة بميل عاطفي إلى الدِّين.

ولا ريب أن من أعظم أسباب تبنِّي الفكر الغربي الحديث معاداةَ الدِّين أو إقصاءه من ميدان المعرفة البشرية، هو التأثر السلبي بالدِّين الكنسي الذي أقام أصوله على الخصومة بين الدِّين والعقل، يشهد لذلك تاريخه الأسود في حربه الشعواء وظلمه الفادح للعلم والعلماء، فالمقالات التي تدعو إلى فصل الدِّين عن العقل كانت ردّة فعل لانحدار الفكر الكنسي الذي صادر العقل، واحتكر مجالات المعرفة، وأقام اعتقاده على تفكيك الوحي عن العقل، حتى أصبحت كلمة «الدِّين» ـ بسبب هذا الشؤم الكنسي ـ في عصور الغرب الحديثة تعني: عداوة كل تفكير. لكن فلاسفة الغرب المعادين والمهمّشين للدِّين وقعوا في خطأ منهجي فادح، ذلك بتعميمهم الموقف الكنسي على كل الأديان، وهم لم يَخبروا من الأديان إلا النصرانية، ولم يعرفوا الدِّين النصراني إلا من رجال الكنيسة، لكن أعجب منهم خطأ من يجترّ تلك المقالات الغربية ليغرسها في غير أرضها، ويطبِّقها على الدِّين الإسلامي، وهذا ما فعله بعض مفكِّري العرب، وعلى رأسهم الدكتور (زكي نجيب محمود) ؛ ففي سياق شرحه حقيقة الدِّين ـ عنده ـ يقول: ( ... ففي الدِّين، الإدراك إيماني وليس برهانياً، إذا قيل لك هنا: إن الله موجود ففي إمكانك أن تصدق وتؤمن من غير أن تطلب برهاناً على ذلك، هذا إيمان، هكذا أيضاً في الفن أو الأدب: تعطي لوحة أو قصيدة، ففي لمعة البرق تتعلّق بها أو تنفر منها ... ) (?) .

- موقف الإسلام ـ إجمالاً ـ من علاقةَ العقل بالدّين:

التصوُّر الإسلامي للكون قائم على ثنائية مترابطة مؤتلفة، ألا وهي ثنائية الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والعابد والمعبود، من هذه الثنائية العامة تتفرَّع ثنائيات متعددة كلها متّسقة بعضها مع بعض، مثل: ثنائية الروح والمادة، والعلم والدِّين، والعقل والنقل، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة.

فالتصوّر الإسلامي ليس تصوّراً تحليلياً صِرْفاً، بحيث يفكِّك أجزاء الكون إلى جزئيات مبعثرة لا ائتلاف بينها ـ كما يفعله العقل الغربي ـ بل إن التصوّر الإسلامي يجمع إلى منهجه التحليلي منهجاً تركيبياً يربط أجزاء الكون في وحدة تصوّرية متكاملة، فيها من جمال التركيب والصورة ما يبهر العقول ويحيِّرها.

في هذا السياق تأتي العلاقة التكاملية المترابطة بين العقل والدِّين الصحيح؛ إذ لا يمكن أن تكون تلك العلاقة علاقةَ تنافر وتناقض؛ لأن مصدرهما واحد وهو «الله» سبحانه، فالعقل وما اكتسبه مخلوقٌ لله، والدِّين الصحيح وما شرعه من الله، والعقل يمثِّل إرادة الله الكونية ـ في هذا الباب ـ، والدِّين الصحيح يمثِّل إرادة الله الشرعية، ويستحيل أن تتناقض الإرادتان؛ لأن مصدرهما واحد، قال ـ تعالى ـ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .

وبناءً عليه؛ فإنه يستحيل أن يتعارض قطعيٌّ من الدِّين بقطعيٍّ من العقل، لكن إن قُدِّر أن يتعارض ظنيٌّ من الدِّين بقطعيٍّ من العقل أو بالعكس، قُدِّر القطعيُّ سواءً كان عقلياً أو دينياً.

أما تقديم العقل مطلقاً على الدِّين فمنهج باطل؛ لأنه يتضمن القدح في العقل نفسه، إذ إن العقل شاهد على صحة الدِّين، ورفضُ المشهود له ـ وهو الدِّين ـ يستلزم القدح في صدق شهادة العقل، وهذا قدح في العقل (?) .

والمقصود أن «الإسلام» لا يجعل علاقةَ العقل بالدِّين موضعَ إشكال أصلاً؛ لأنهما في نظره متكاملان ومتّسقان ومؤتلفان، وذلك من وجهين:

الأول: أنَّ تكليف الإنسان الإيمانَ بأصول الدِّين ـ من وجهة نظر الإسلام ـ قائمٌ على إعمالٍ عقليٍّ؛ فمن لا عقل له لا تكليف عليه، بل إن قيام الحجّة الدِّينية لا يكفي فيه مجرّد بلوغها، بل لا بد مع ذلك من فهم تلك الحجّة ـ والفهم إعمالٌ عقليٌّ ـ لا سيما لمن عرضت له شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجّة، وإلا كان معذوراً في تأوّل مخالفة الحجّة الدِّينية، ولذلك جعل الله مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومخالفة سبيل المؤمنين بعد العلم بالحجّة الدِّينية وتبيّنها، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وهذا يبيّن أن الدِّين لم يقم على مجرد التسليم بلا براهين وفهم عقلي، بل إن مدار حجّة أدلة الدِّين قائمة على بلوغها وفهمها وإعمال العقل لإدراكها، فإذا كانت الغريزة العقلية والإعمال العقلي شرطاً في التكليف الدِّيني وبلوغ الحجّة الدِّينية امتنع أن تنافيَ وتناقضَ الدِّين؛ لأن ما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له.

الثاني: أن «الدِّين» أو «الوحي» ملازم للدلائل والبراهين العقلية، ومتضمِّن لها، ولذلك كان الدليل والبرهان العقلي قسماً من منظومة الأدلة الشرعية القائمة على الوحي الدِّيني، وليس قسيماً لها، وفي ذلك يقول ابن تيميّة: (الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهما مستلزم صحة الآخر، فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرُّسل ـ عليهم السلام ـ فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه ... ) (?) .

ولذلك فقد تضمَّن «الوحي الدِّيني» أنواعاً كثيرة من الأدلة والبراهين العقلية التي تقتضي بيانَ الحق وترسيخ اليقين في القلوب، وهذه الأدلة العقلية هي البينات والتبيان الذي تضمّنه الوحي الدِّيني، قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، فإذا كانت الأدلة العقلية ملازمة للدِّين ومتضمنة فيه، فإنه يستحيل أن تناقض الدِّين أو تعارضه.

والمقصود ـ في هذا السياق ـ بيان العلاقة المنسجمة بين العقل والدِّين بياناً مُجْملاً؛ إذ يضيق المقام عن بسط تلك العلاقة، غير أني أؤكِّد على نتيجتين ضروريتين لفَهْمنا تلك العلاقة:

الأولى: أن الصراع بين العقل والوحي صراع مفتعل لا حقيقة له، وأن كل تصوّر قام على فكرة هذا الصراع تصوّر قائم على وَهْم، ومما يُؤسفُ له أن الفكر الغربي المعاصر لم يكن وحيداً في بناء تصوّراته الفكرية على فكرة هذا الصراع ـ وإن كان قد بالغ فيها شططاً بعيداً ـ إذ شاركه في هذا المنهج مناهج ومدارس فكرية قديمة داخل إطار الفكر الإسلامي؛ كالمعتزلة والأشاعرة، إلا أن مواقفهم ـ وإن لم تبلغ من الإلحاد ما بلغه الفكر الغربي المعاصر المكذب للوحي والمنكر حقيقته ـ كانت أشدَّ تناقضاً؛ لأنهم أقرّوا بصدق الوحي عقلاً، ومع ذلك ردّوا بعض ما جاء به بناءً على مناقضته العقل (?) .

الثانية: أن الصدق الدِّيني ليس قائماً على الإرغام والتسليم بلا برهان عقلي، بل هو قائم على وجدان باطني وأدلة وبراهين عقلية تفيد العلم واليقين؛ فمن خالف الوحي الدِّيني فقد خالف الضرورة العقلية، ولذلك يقول الله ـ سبحانه ـ عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015