د. آدم بامبا
سوف يظلُّ إقلاعي المفاجئ عن داء الهَوَس بكرة القدم لغزاً محيِّراً لجميع من عرفوا سيرتي الأولى؛ فلست أدري متى نشأ هذا الحبُّ العارم للكرة، ومتى سرى في جسمي وجرى مجرى الدَّم في عروقي. كان العالم كلُّه في عيني يتقلَّص في الكرة وفي الملعب الوطني. كان جزءٌ كبيرٌ من مرتبي الشهري الزَّهيد يتبخَّر في المساهمة الشَّهرية التطوعيَّة لمساندة فريقي، وفي شراء صور اللاعبين، والميداليات، وخاصةً التذكرة الأسبوعيَّة مساء كل سبت لمشاهدة تدريبات فريقي.
حين كنت أخوض الحوارات الحامية تأييداً للفِرَق الوطنية والعالميَّة التي أشجِّعها، كنت أبدو خطيباً مُفْلِقاً لا يُشقُّ له غبار. كنت أسرد المباريات التي خاضها فريقي والأهداف التاريخيَّة التي سجَّلها نجومه، و ... ، وكل ذلك بإيراد التواريخ الدقيقة، والأسماء، والأرقام، والإحالة إلى أقوال الصحفيين والإذاعات. وكنت أشعر بزهوٍ عظيم بسماع إطراءات زملائي لي، ورجوعهم إليَّ في خلافاتهم الرياضية، لم يكن يُفتى في أمر الكرة وأنا حيٌّ أُرزق.
أما زواجي بتلك البنت التي لا تمتُّ إلى دنيا الكرة والرياضة بصلة، فخروج على طبعي لا يقاس عليه. كم حاولت زوجتي المستحيل في بداية زواجنا للتقليل من بعض غرائزي الكروية، ولكن كيد حواء - للمرة الأولى في تاريخ الانتصارات الإنسانية - مُنِيَ بهزيمة نكراء. أخيراً؛ شدَّتها أقوال المنجمين في زوجها المسحور. وعملاً بنصيحة أهل الذِّكر: فيما لا يُدرَك كله، لا يُترك جُلُّه، فقد حاولت التقليل من سهراتي خارج المنزل مع ثلّتي حول إبريق الشاي الصيني الأخضر.. استضافتْ ثلَّتنا الصاخبة عدَّة مرات، أغرتنا ببعض المشويات الخفيفة، وبالفول السوداني المحمَّر، وغدت خادمة طائعة لنا، لكن ذلك لم يطل؛ إذ كاد الأمر ينتهي بتحرير الجيران - عفا الله عنهم - دعوى قضائيَّة ضدَّ ثلّتنا.
ويوم بشَّرتني زوجتي بحملها الأول، هتفتُ قائلاً:
- آه! أرجو أن يكون غلاماً فنسميه «بيليه الصَّغير» ، لا شك أنه سيصبح لاعباً مشهوراً.
نظرة خيبة أمل واستياء تصادمت بنظرة زهوٍ وإعجاب. لزمت زوجتي الصمت. يتردد في نفسي تضرُّعها المتأوِّه إلى الله: «اللهم لا تفجعني في والد وما ولد!» .
* * *
عدت تلك اللَّيلة كعادتي إلى منزلي في الثانية صباحاً، وأنا مهموم، متعب، غضبان، يُرثى لحالي، بعد مشاهدة صاخبة لمباراة عالمية خسر فيها فريقي خسارة فادحة، ولم يعدل فيها الحَكَم في حقِّ فريقي حين رفض له ضربتَيْ جزاء لا تنتطح في صحَّتهما عنزان!
وعلى مرِّ الأيام؛ فإن زوجتي كانت قد تعلَّمت قواعد حسن السيرة والسلوك، والتأقلم مع مثل هذه الأجواء المتأزمة، والتقلُّبات المفاجئة في زوجها والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الغليان والاحتراق.
فتحتُ الباب، وبحركة ميكانيكية ضغطتُ على زر الكهرباء، وارتميتُ على الأريكة مادّاًً رجليَّ على الطاولة الصغيرة وسط الأرائك. يا إلهي! إنها لم تضع على الطاولة كعادتها شُرْبة «المديدة» التي أدمنت شربها قبل النوم، وكان ذلك موبقة عظيمة لا تكفَّر إلا بالقيام وإعداد هذه الشُّرْبة حتى تهدأ ثائرة الطفل الكبير، وتخفّ درجة حرارته وينام.
هُرِعتُ إلى داخل غرفة النوم، ضغطت على زرِّ المصباح، كانت الغرفة خالية، وفي تلك اللحظة فقط.. يا إلهي! تذكَّرت أن زوجتي حامل، وأنها كانت طلبت مني في الصباح قبل خروجي شراء بعض الحاجيَّات وإخبار خالتها بالمجيء في اليوم نفسه لدنوِّ وقت وضعها. خرجت من الغرفة مسرعاً، وعند الباب، كدت أصطدم بصاحبة الدَّار العجوز الحاجة (زَينبو) رغم ضوء القمر المنير. بادرتني قائلة:
- ابني خِطْ لي فمي قبل أن أملأ آذان أعدائك وحسّادك بخبرك الجديد!
- خالة (زينبو) ! لك عليَّ ألف فرنك حمراء.
زغردت العجوز (زينبو) ، لعلَّ ذلك للمرة المائة في ذلك اليوم دون مبالاة بالوقت المتأخر من الليل، وبالوصايا الرَّشيدة في حقوق الجيران النائمين. أتبعَتْ زغردتها بحركة خفيفة راقصة تنبئ عن علم ودراية قديمة، وإن خانها جسمها النَّحيل.
- ابني! لقد وضعته ابنتي مكتملاً مثل ثور، فارعاً مثل شجرة (باوْباب) كان ذلك وقت أذان العصر.
توقَّفتْ برهة، وبصوت حزين متصنَّع تابعتْ:
- آه! غير أنَّ الطفل - مع الأسف - لم يشبه أباه، ولا جدَّه، ولا أحداً من أسلافه السابقين.. إنَّه قمرٌ من نجوم!
رفعتْ بصرها إلى القمر المنير.. تابعتْ أيضاً:
- كذا حال الرجال السُّعداء؛ لا يأتون إلا في ليلة التَّمام، انظر إلى وجهه في دائرة البدر المنير! «زوجي» الجديد ما أبهاه، ما أجمله!
- الحمدُ لله ربِّ العالمين.. خالتي (زينبو) ! زدتك ألفاً أخرى، وسبحة، وجلباباً، وخماراً للجمعة القادمة.
زغردة أخرى مطوَّلة.. بدأت تتغنَّى بأنشودة شعبية قديمة قيل إنَّ عروس البحر (بافارُو) غنَّتها على شاطئ نهر النيجر لمحبوبها الفارس الأسطوري في ضوء البدر المنير. انفتحت أبواب مجاورة، تجاوبت زغردات النِّساء.
بعينٍ مرحة كنت واقفاً أتفرَّج على الخالة الحاجة (زينبو) والنساء حولها، وهنَّ في حركات سعيدة في ضوء القمر، يمازحنها «بعريسها» الجديد، وهي تهدِّد أية امرأة عديمة الحياء تحاول اختلاس الفارس الجميل منها. وعدتْها إحداهن بإهدائها زجاجة عطر «مِسْكُو مكة» ، تتعطر به يوم زفافها، ووعدتْها أخرى بإعطائها عقداً، وأخرى مازحتها بإعطائها عبوة صبغة «يُومبو» تصبغ بها شعرها.. ضحكات وقهقهات، تردُّ الحاجة (زينبو) بحدَّة:
- يا حاسدة! «الشاة تولد ببياضها، أما العنز فتهرم وتموت، وهيهات أن تشيب» ! وكأنها تريد أن تقول: البياض جمال وليس علامة شيخوخة.
ورغم سعادتي في تلك اللَّحظة، فقد اجتاحتني حالة اكتئاب وتأنيب ضمير عارمة. تُرى من الذي تكفَّل بمصاريف سيارة الأجرة إلى المستشفى، ورسوم العناية الطبية، ورشاوى الأطباء والقابلات؟ إنَّ كل شيء هنا في إفريقية لا بدَّ له من رسوم ورشاوى: الولادة، والعلاج، وحتى الموت براحة وسلام لا بدَّ له من دفع رشاوى للأطباء، والممرِّضين، والصيدليين، وحرّاس المشارح، وحفّار القبور..
كنت أعلم أنَّ أحداً من الجيران قد تكفَّل بالمصاريف، طبعاً ليس من أجلي، ولكن من أجل زوجتي الطَّيبة، فعلاقاتي بالجيران - يشهد الله - سيئة منذ حادثة محاولتي وثلَّتي تحويل الدار إلى منتدى مصغَّر لمنظمة الفيفا. خجلٌ شديد، وحزن عميق كانا يصطرعان في داخلي، وكدت أسيخ في الأرض، لا بدَّ أنني حديث الحي في إهمال زوجتي في فترة حرجة وخطرة. لكن يعلم الله أنني لم أكن أتوقَّع أن تضع زوجتي في هذا الأسبوع، كان عليها أن تفصح لي، لكن النساء يجعلن الرجال دائماً خارج الدائرة في مثل تلك الأمور التي تخصُّهن. أمن الإنصاف أن نبعد النحلة عن الخليّة؟
كانت تلك صدمة عنيفة في نفسي، فماذا جنيت من الكرة؟ من أجل الكرة كنت آخر من يعلم بولادة ابني الأول. ويغفر الله لي في هذا الموقف، فقد كرهت (بيليه) و (روجيه ميلا) ، وقرأت على صنم (كأس العالم) آية النسف، وعلى ثلّتي سورة براءة.
بصوت عالٍ أوقفت النسوة الثرثارات.
- حاجَّة (زينبو) ! لِمَ لا تخبرينهن أن «عروسك» يحمل اسم المرحوم زوجك؟
زغردة أخرى من «العروسة» السَّعيدة خالتنا الحاجة (زينبو) وجوقتها كادت توقظ الحيَّ كلَّه، ما برحت أن انقلبت إلى بكاء ونحيب، ثم ضحكات عالية، وأغانٍ متفرقة. تنازلت الخالة عن الألفي فرنك التي وعدتها إياها. بل أقسمت أن تذبح كبشاً أملح يوم عقيقة الطفل، وأن تهدي كيس أرز مائة كيلو لإمام الحي الذي سيُشهد الله وملائكته وجميع المسلمين أن هذا المولود (قد أمرنا أبوه أن يسمى الحاج براهيما جابي) .
* * *
في الصَّباح الباكر، أيقظتني الخالة الحاجة (زينبو) للذهاب إلى مستشفى الولادة، وهناك علمت أن ابنها هو الذي دفع المصاريف كلها، واشترى اللَّوازم.
حين علمت زوجتي باسم الطفل، سألت: وماذا عن اسم (بيليه الصَّغير) ؟!
نظرة استياء تصادمت بنظرة استغراب ودهشة.. ابتسمت، يرنُّ في أذني شكرها لله ودعاؤها إياه: «اللهم لا تفتنّا بعده!» .