أ. د. نزار عبد القادر ريان
كان سيدنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقف يوم بدر على رأس ثلاث مئة وستين مجاهداً من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ: قليل عددهم، ضئيل زادهم، لم يكن فيهم فارس يومها غير المقداد، وأكثرهم حفاة، لا يجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، أو يكسوهم به، وكان كفن الشهداء ساعتئذٍ نبات الإذخر.
يومها كانت فارس تمتد في المشرق من أطراف الجزيرة العربية حتى تتجاوز أسوار الصين، وتسيطر روما على مغارب الأرض من أطراف أوروبا الشرقية حتى ساحل الشام وبعض بلاد أفريقيا الشمالية، وكنا نحن القليل عددهم، الضئيل زادهم، لا نرى غير راية الحق التي نحمل للعالمين، ننقذ البشرية مما هي فيه من ضلال وتيه، فاستعصى الطغاة على الدعوة، ولم يبق غير الحراب المؤمنة تنفي العناد والشرك عن الأمم والشعوب التي تضطهدها أنظمة الجاهلية والكفر؛ لذلك كان سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأس المجاهدين؛ حربته الأولى في الحراب، وسيفه ذو الفَقَار الأقطع، ورمحه البتار يسبق الريح، ينشر الخير والنور والعدل والإيمان.
ومضت تلك السُّنَّة مضيئة الآفاق، خالدة المعالم، تكتب التاريخ بسطور من دموع ودماء وإباء؛ فهذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يُخرج جيش أسامة بن زيد نحو الشام، ويتبعه بعد ذلك عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في فتح بلاد بيت المقدس، يكتب له أبو عبيدة بن الجراح، ويذكر جموع الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: «أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسرٌ يُسرين، وإن الله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .
ثم يمضي على السُّنَّة ذاتها عثمان ـ رضي الله عنه ـ، ويتواصل خروج الصحابة القُرَّاء حتى يستحرَّ القتل فيهم، فيجمع القرآنَ من الأفواه في المصحف العثماني، ولا يمنع القراء من مواصلة الخروج على رؤوس البعوث، يتقدمهم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فاتحاً في ثلوج أذربيجان، ويتبعه تلميذه سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ على رأس آلاف القراء من طلبة العلم مع ابن الأشعث شرقاً، بعد أن صار ركوبُ البحر، نحو قبرص ومطالع أوروبا، دأبَ الفاتحين ونهجهم.
ويُسْلِمُ العراق والشام، وتمتد أعناق المطي برايتنا وارفة الظلال في البقاع الطاهرة، يحرس ثغورها العلماء جيلاً بعد جيل؛ فهذا الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، يحرس الثغر الشمالي في أطراف الشام العليا، فيرابط في ثغر طرسوس وحلب، ويصير طريق الشام مألوفاً له كما هو الأمر في طرائق المشرق ودروبها، شعاره حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «طوبَى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه» فيخرج محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة من الشام قِبَل الحرم، فيملي عبد الله بن المبارك عليه هذه الأبيات بطَرَطُوس قرب عكا من بلادنا فلسطين، إلى الفضيل بن عياض، ويودِّعه للخروج، وينشد معه:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضبُ خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يُتْعِبُ خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
رِيحُ العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيبُ
قال محمد بن إبراهيم: «فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام؛ فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني» .
ويروي تلامذته صور جهاده وبلائه، فيقول عبدة بن سليمان المروزي: «كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدوَّ، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه ابن المبارك، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثّم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمروٍ ممن يشنِّع علينا؟!» .
ويقول عبد الله بن سنان: «كنت مع ابن المبارك ومعمر ابن سليمان بطَرَطُوس فصاح الناس: النفيرَ، النفيرَ! فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج عِلْجٌ رومي فطلب البِرَاز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله ... حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلى ابن المبارك، فقال: يا فلان! إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج، فعالج معه ساعة، فَقَتَلَ العلجَ، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج، وطلب المبارزة، فكأنهم كاعوا ـ أي جبنوا ـ عنه، فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء؛ فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله! لئن حدَّثت بهذا أحداً وأنا حيٌّ ... فذكر كلمة» .
كذلك كان علماؤنا، وكذلك كان أهل الحديث خاصة؛ فالإمام ابن المبارك إمام في الحديث والجهاد، يمضي على طريقته الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل؛ حيث يقول: «خرجت إلى الثغر على قدميَّ، فالتقطت» يعني: كان يلتقط التمر من الأرض من الجوع، يصاحب المجاهدين في مواقع النبال، يفتي المرابطين في الثغور ويعلمهم دينهم، ويروي لهم الحديث في مظانِّ الموت تماماً كما كان أبو موسى الأشعري حين يروي أحاديث الجهاد والرباط التي تلقاها عن سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرابط الخيل ووجه العدو، فيؤديها كما علمها.
نعم! فقد كان هذا دأب الصالحين من قبلُ؛ فأبو أيوب الأنصاري يشخص مرابطاً في سبيل الله، حتى يُدْفَن تحت أسوار القسطنطينية، ينتظر وعد رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، بفتح القسطنطينية أولاً، وها هي شواهد الحق تروي للناس من بعدُ حكاية أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهنا قبر أبي عبيدة، وهنا قبر معاذ بن جبل، وهنا قبر عكرمة، وهناك في الأرض تتبعثر قبور الصالحين من الفاتحين والمجاهدين، ليلتئم شمل أمة الجهاد والفتح المبين.
وهذا إمامنا البخاري ـ رحمه الله ـ إمام الحديث والفقه الجهادي، يرى حراسة الثغور دِيناً كما هو الأمر في رواية الحديث وطلبه، فيلزم الثغر الذي يخاف منه هجوم العدو، فيرابط في بلادنا فلسطين في قيسارية جنوب حيفا، ويرابط في أيلة، وبيت المقدس، ويتعب في رواية الحديث يوماً فيستلقي على قفاه، فيقول له تلميذه: ما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حَدَث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبة؛ فإن غافصنا العدو كان بنا حَراك. وكان يركب إلى الرمي كثيراً؛ فما أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، وكان لا يسبق؛ يهتف بالحديث: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» .
وكان حذيفة بن اليمان يغزو في أذربيجان وأرمينيا، ويعقب عمر الجيوش في كل عام، فشُغِل عنهم عمر، فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليهم وتواعدهم وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتركهم الثغر في الموعد المحدد؛ فكيف بمن سيَّب الثغور كلها؟
هؤلاء أئمة الدين والجهاد؛ قد عرفت فَالْزَمْ!