د. أحمد حسن محمد
يعتبر الاتصال الإنساني فطرة فطر الله عليها البشرية منذ نشأتها الأولى، فقد كان التكليف الأول الذي أمر الله به آدم ـ عليه السلام ـ بعد خلقه هو مهمة البلاغ والتوضيح والإفهام، وذلك في أول اتصال بملائكة الله، حيث يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] .
ومضت سيرة الحياة الإنسانية ضمن سلسلة علاقات متعددة تقوم على اتصال الإنسان بالإنسان أفراداً وجماعات وأمماً، حتى أمكن تنظير هذه الفطرة ضمن سلسلة من العلوم والمعارف كان منها الإعلام.
والإعلام بدأ ينقل المعلومة من شخص أو أشخاص إلى آخرين، وذلك عن طريق الكلمة المنطوقة لتصل مباشرة من الفم إلى الأذن دون وسيط أو وسيلة، بجانب نقل هذه الكلمة أيضاً عن طريق البصر مباشرة كما هو الحال في الصور أو الرسم، وظلت حاسّتا السمع والبصر (الأذن والعين) هما المداخل الأساسية لإدراك الكلمة والتي تمثل رسالة مقصودة من جانب مرسلها إلى آخر مستهدف بها، أي: أداة للتفاهم وزيادة المعرفة. حتى كان التطور السريع الذي صاحب العمليات الاتصالية عامة والإعلام بصفة خاصة، حيث أصبحت هذه الكلمة أو المعلومة ـ والتي اُصطلح عليها باسم الرسالة الإعلامية ـ تنقل من شخص أو أشخاص إلى عالم متّسع من المتلقّين عن طريق الأذن، ولكن بوسيلة جديدة وجهاز جديد عُرف بالراديو ... وتنتقل ـ أيضاً ـ على أنظار الملايين وعيونهم عن طريق التلفاز أو السينما أو غيرهما من الوسائل المرئية الحديثة، مما جعل العملية الإعلامية تتحول شكلاً ومضموناً وهدفاً، حيث لم تعد مجرد خبر ينقل أو تسلية في وقت فراغ، بل أصبحت تمثّل نشاطاً هادفاً يسعى إلى العديد من الأهداف والتي تتركز في معظمها على التأثير والإقناع بهدف إحداث التغيير والتحويل نحو أهداف ومبادئ وقيم يسعى إليها صاحب الرسالة ومرسلها، سواء كان ذلك في عالم القيم والمثل أو الاتجاهات والمبادئ والمذاهب، وبهدف استمالة المتلقّي (السامع أو الرائي) واعتناقه قيمَ صاحب الرسالة واتجاهاته ومبادئه.
- الإعلام والصراع العالمي:
ومع تطور الحياة السياسية والاجتماعية تعدَّدت الدول وقامت معظمها على مبادئ وأفكار وقيم مختلفة، وكل دولة تسعى لسيادة مبادئها وانتشار أفكارها وإخضاع الآخرين لما يرونه من مبادئ واتجاهات، فكان هذا الصراع العالمي الذي اتخذ شكل الحروب والقتال والغزو العسكري.
وظهر الإعلام سلاحاً خطيراً في هذا الصراع الدولي، ولا سيما بعد أن توفرت له وسائل متطورة، لها قدرة الوصول إلى أيِّ مجتمع ـ أفراده وجماعاته ـ وبسهولة وبساطة..، فحظيَ الإعلام ـ بذلك ـ باهتمام كبير من جانب الدول والمجتمعات والهيئات في عالمنا المعاصر، وأصبحت الرسالة الإعلامية تحمل فكر مرسلها، وتعمل في كافة مجالات النشاط الإنساني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً، فكان الإعلام بذلك قوة فاعلة تربط المجتمع الإنساني بمضامين واتجاهات متعددة بغرض التحول والإقناع، ومن ثم الاتِّباع والولاء.
وما نشاهده اليوم من هذا الفيض الهائل من البرامج المسموعة والمقروءة والمرئية والتي تحملها أجهزة متطورة يوماً بعد يوم لدليلٌ واضح على خطورة الإعلام وأهميته بالنسبة لأي جماعة أو دولة تتطلّع للسيادة والانتشار.
وعلى الرغم من إيجابيات هذه الثورة الإعلامية والوسائل المتطورة في مجال التثقيف والإخبار، وربط المجتمع البشري بما يحدث في أنحاء العالم لحظة بلحظة، وما تحقق من وعي ويقظة فكرية بين الأجيال الجديدة في هذا العالم ... فإنها لم تخلُ من سلبيات خطيرة ومظاهر سالبة انجرفت إليها الكثير من محطات الإرسال والبث ودور النشر والطباعة، سواء كان ذلك بغرض الهدم المقصود لما تعارف عليه الناس من قيم ومُثُل أو الكسب المادي والانتشار، وكلها ـ ولا شك ـ قادت نحو آثار سالبة ظهرت في العديد من الدول، وخصوصاً في مجال الفكر والثقافة والآداب العامة، مما أوجد صراعاً رهيباً في عقول الناشئة ومعارضات سالبة من جانب المفكرين والمربِّين، فوقع العالم في حيرة نتيجة هذا الصراع بين ثقافات متعارضة ودول مختلفة ليضع الأجيال الحالية في حيرة، بل وأحياناً في ضياع وتِيْهٍ ... ولعلَّ من مساوئ هذه الهجمات والأفكار ما كان منها بغرض الاستهداف والاعتداء والافتراء على نظم بعينها أو مبادئ سائدة بغرض تحقيق انصراف الناس عن هذه المبادئ أو الثورة على هذه النّظم بما يحقق سيطرة أفكار ونظم الجهات التي تقف خلف هذه الرسائل والبرامج الإعلامية الغازية.
- العالم الإسلامي والثورة الإعلامية:
لما كان العالم الإسلامي جزءاً لا يتجزَّأ عن غيره من الدول والمجتمعات التي تعرض لما يبثّ من برامج إعلامية مختلفة؛ فقد كان طبيعياً أن تتأثّر كثير من هذه المجتمعات المسلمة بمضامين وأهداف الرسائل الإعلامية الصادرة من أجهزة الإعلام المختلفة، ولا سيما بعد سيطرة الشبكات الإذاعية والأقمار الصناعية. ولما كانت المصادر الإعلامية في معظمها بعيدة عن هدي الإسلام ومبادئه، أو على الأقل غير حريصة على تقديم مفاهيم الإسلام وتوجيهاته ضمن مضامين برامجها، فقد أتاح ذلك سيطرة ملموسة على ما يصل العقل المسلم من برامج منحرفة عن هدي الله، حتى أصبحت مثل هذه البرامج قضايا مسلّماً بها لدى بعض الناشئة، حيث لا بديل عنها تقدّمه الدول والمؤسسات الإسلامية، والتي كانت ـ بل وما زالت ـ لا تمتلك تقنيات الاتصال الحديثة أوالتنظير والتأصيل الإسلامي للرسالة الإعلامية.
ولعلَّ من أهمِّ الأسباب التي حالت دون تقدّم المجتمعات الإسلامية في مجال الإعلام الحديث ووسائله ما يلي:
أولاً: تركيز علماء المسلمين وطلاب العلم وجامعاتهم على العناية بالعلوم الشرعية والأصول الإسلامية ودراسة اللغة العربية. وهذا أمر طبيعي ومطلوب دائماً ولا شك، ولكن الأمر كان يتطلَّب بذل الجهد والعناية بالعلوم الحديثة، والفنون الإنسانية الجديدة ـ ومنها الإعلام ـ دراسة وتأصيلاً، ونقداً وتحليلاً؛ بما يوفر طاقات علمية قادرة على الإسهام بالجديد الملتزم بهدي الله، سواء في مجال البرامج أو التقنيات أو القوى البشرية المدرّبة.
ثانياً: لما كان الإعلام الموجَّه لدول المسلمين صادراً عن مصادر أقل ما يقال عنها: إنها بعيدة عن الإسلام أو غير متحمِّسة لنشر مبادئه إن لم تكن معادية تماماً؛ فإن هذه الرسائل جاءت متأثرة بعادات وتقاليد أصحابها التي كانت في معظمها مخالفة لشرع الله، سواء في المضمون أو الشكل أو الإخراج، مما أوجد معارضة من المسلمين عامة وعلمائهم خاصة، حتى اعتبر بعض طلبة العلم أن ما تقدِّمه وسائل الإعلام في حكم المحرّم شرعاً، بل وصل الأمر عند بعضهم بتحريم الأجهزة التي تحمل مثل هذه البرامج، وظلَّ ذلك الأمر لفترة طويلة أتاحت سيادة البرامج الغربية المنحرفة.
ثالثاً: عندما أدرك المسلمون خطورة الإعلام، واستحالة صدِّ ما تبثّه الوسائل المختلفة ومنع تأثيرها على الناشئة خاصة والمجتمع عامة؛ لم يكن أمام المتحمّسين والحريصين سوى النموذج الغربي في البرامج تصويراً وإخراجاً.
رابعاً: أن محاولة تأهيل جيل إعلامي متخصص في فنون الإعلام وتقنياته كان عن طريق توجيه هذا الجيل نحو المؤسسات الإعلامية في بلاد الغرب، فعادوا يحملون تقنية الغرب بل وفكر الغرب، فنشأ جيل إعلامي يحمل عامته اسم الإسلام ويفكر بعقل الغرب الذي ينكر الإسلام ومبادئه.
من أجل هذه الأسباب وغيرها أصبح العالم الإسلامي في معظمه عالة على الإعلام الغربي، مستورداً لبرامجه وفنونه بل وأفكاره ونظرياته مما يجعلنا نطرح السؤال التالي:
- ما ضرورة الإعلام الإسلامي؟
إن الواقع الذي تعيشه معظم المجتمعات الإسلامية في صراعها مع التيارات الوافدة والأفكار المادية والتي تحملها أجهزة إعلام لها قدرة التأثير والتجديد والإقناع، لا شك أنه لا يتفق تماماً مع ما يجب أن تكون عليه هذه الأمة المسلمة من مكانةٍ وريادةٍ، والتي أشار إليها كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
وليس هذا أمر خيار أن تكون كذلك أو لا تكون، بل هو فرض على أمة الإسلام أن تتولى الدعوة والإبلاغ بأحكام الله الداعية للفضيلة والصلاح، بل ومحاربة المنكرات وكل ما يفسد عقائد الناس أو ينحرف بسلوكهم. يقول الحق ـ سبحانه ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
ويؤكد على ذلك رسول الله # في قوله: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه؛ فلا يُستجاب لكم» (1) ويستحيل على أمةٍ أن تكون كذلك بغير وسائل فاعلة قادرة على التحدي والصمود، والتفوق على وسائل غيرهم من غير المسلمين، مما يتطلب ضرورة الاهتمام بالإعلام ووسائله، وتجنّد له الطاقات والأخذ بأفضل الأساليب والوسائل وأفضلها سواءً في مجال البرمجة أو التقنية (2) .
ومن نعمة الخالق على هذه الأمة أن شرع لها ديناً هادياً وأرسل إليها رسولاً مرشداً، دين يتعامل مع كافة مظاهر الحياة ومواقف الإنسانية على اختلافها، فإذا ما ضعفت الشخصية الإسلامية أمام هذا الفيض والكمّ الهائل من التيارات المعادية والمبادئ المستحدثة فليس ذلك مطلقاً لعجز في القدرة على الاستجابة لمحدثات ولمستجدات العصر؛ ولكن لأن الكثير من المسلمين فقدوا روح المبادرة على التغيير، ومن ثم فقدوا حركة الاجتهاد والتطوير الباني، فعاشوا عالة على غيرهم في كثير من مجالات المعرفة والتقنية، وكان الإعلام من أبرزها.
ومع مستحدثات القرن التاسع عشر وما بعده امتدَّ الغزو الغربي على نطاقه الواسع، فاستيقظ العقل المسلم ليجد هذا التحدي الصارخ لحضارته وأفكاره ومبادئه، مما جعل المواجهة أمراً حتمياً (3) .
إن هذه المواجهة أصبحت ضرورة لا خياراً، فالإسلام يرفض مواقف السلبية بين الإنسان ومجتمعه، كما يرفض الضغط والإجبار لصالح مبادئ وأفكار واتجاهات تتعارض مع هدي الله، وذلك بعد أن حرّر الإسلام الإنسان من قيود القهر، وكلّفه أعباء المسؤولية عن إرادة واختيار، ومن هنا تبرز ضرورة الإعلام الإسلامي الذي يحمل هدي الله، ليس لمجرد المواجهة وردّ الفعل فقط؛ بل لإعزاز كلمة الله من خلال أجهزة ووسائل يقوم عليها متخصصون مدرّبون مؤمنون برسالة الإسلام: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
ويسعى الإعلام المهتدي بهدي الله إلى تحقيق أمور هامة، نذكر منها:
أولاً: مواجهة حالة الضياع التي يعيشها المجتمع المعاصر عامة، ومجتمع المسلمين خاصة، بما يعيد التوازن السليم بين فطرة الإنسان ومستحدثات العصر الفكرية منها والمادية.
ثانياً: تحقيق مواجهة إيجابية فاعلة أمام حملات غير المسلمين ممن يعادون الإسلام إما جهلاً به أو حقداً عليه، وذلك من خلال أجهزة ووسائل متطورة تواكب مطلوبات العصر؛ بما يحقق إعلاماً قادراً ومتميزاً يقوم على المنهج العلمي الصحيح.
ثالثاً: تقديم الإسلام ومبادئه وفق أصوله التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ونقد ما لصق به من شبهات وافتراءات، من خلال برامج تجمع بين قوة الحجة وفنّ الإقناع والتأثير، بجانب الجاذبية وحسن العرض.
إن عالمنا المعاصر في أشدِّ الحاجة إلى هذا النوع من الإعلام والذي بدأ ـ بفضل من الله ـ يظهر من خلال جهود بدأت متواضعة، ولكنها تنمو يوماً بعد يوم بما يبشِّر بنجاحها، وخصوصاً بعدما ظهر واضحاً إقبال الكثيرين من أهل الصلاح على التعامل معها والاستجابة لمضامينها.
ومن هنا ولهذه الأسباب وغيرها؛ تظهر أهمية الإعلام القائم على هدي الله وفق منهج إسلامي يقوم على التأهيل العلمي المعاصر، ويجمع بين المضمون الهادف والعرض الجذّاب.