ناصر بن عبد الله الجربوع
يعيش المسلمون هذه الأيام في أماكن شتى أياماً عصيبة، ومصائب كبيرة، فما أن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق. ولعلَّ ما حلَّ بأهلنا في فلسطين ولبنان أظهر شاهد على ذلك. ولنا مع هذه الأزمات والأحداث العظيمة بعض المعالم والوقفات، لعلّها تكون عوناً لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة. وهذه المعالم هي:
المَعْلم الأول:
أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حوادث وصراعات فهو بقضاء الله وقدره وبعلمه وإرادته ومشيئته لا يخرج شيء من ذلك، كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وأنه ـ سبحانه ـ قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلن تموت نفسٌ قبل أجلها المحدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» (?) ، فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشرحت نفسه ولم يجزع أو يتسخط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشغل بعبادة ربه وتحصيل معاشه بنفسٍ مطمئنة، عكس من لم يؤمن بذلك فتجد الهلع والخوف قد استولى على قلبه فلا يجد للحياة طعماً، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
المَعْلم الثاني:
أن الصراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية. وهذا الصراع قد يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو صراع دائم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسلام دينهم كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} [البقرة: 217] . وقد يكون الصراع ـ أيضاً ـ بين أهل الحق أنفسهم، أو بين أهل الباطل أنفسهم؛ نتيجة الاختلاف في المواقف أو الأطماع. والشواهد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله ـ سبحانه ـ قد يولِّي بعض الظالمين بعضاً، ويكون في ذلك الخير والفرج للمؤمنين كما قال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] .
ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
المَعْلم الثالث:
أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيوتهم وتهجيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .
وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة فأنزل الله ـ سبحانه ـ قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخالفة الرُّماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزولهم من الجبل.. فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي، وغيَّرنا من حالنا، وأقبلنا على طاعة ربنا: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
المَعْلم الرابع:
من أعظم ما يجب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهو الناصر والمعين: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، والثقة بنصره وعدم الخوف من كثرة العدو وقوته: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174] .
ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير برهان، فهو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته. ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
المَعْلم الخامس:
إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله ـ سبحانه ـ الأعمالُ الصالحة؛ من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب، ومادة قوته، كما أن الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة (?) ، وقد أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالاستعانة بالصلاة في سائر الأحوال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] .
وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
المَعْلم السادس:
أن النفس البشرية جُبلت على حب الحياة وكراهية الموت والقتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعترض على قضاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخيرُ والفرج وبداية النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخير؛ لقصورنا البشري كما قال ـ سبحانه ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 216]
ولما عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلا يدخلوا مكة؛ أصاب أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أصبح خيراً بعد ذلك وصار سبباً لفتح مكة (?) .
المَعْلم السابع:
أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحلياً ووقتياً، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونية قدرية، يجب أن نؤمن بها، ونثق بوعد الله ـ عز وجل ـ، وأن يدعونا ذلك للتفاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريباً ما تنقشع، فهو ـ سبحانه ـ لا يخلف الميعاد: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . [الصافات: 171 - 173]
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى إليه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر، وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله فكان يقول: «ليبلغنّ هذا الأم ر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين» (?) . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (?) .
إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ، وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله ـ تعالى ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . [محمد: 38]
المَعْلم الثامن:
إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله ـ تعالى ـ وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئد أقرب ما تكون إلى الخير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربِّي بربط ما يقع ويحدث بالسنن الإلهية الكونية. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام، وهي قرب مفارقته -صلى الله عليه وسلم- للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله، حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» (?) .
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية.
إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة، والخوف من المستقبل إلى الثقة به.
وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
المَعْلم التاسع:
أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسلمين ... ينبغي أن لا يكون مانعاً للمؤمن من السعي في عمارة الكون وتحصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقاً بالدنيا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- وجّه بعمارة الأرض حتى آخر لحظة من عمر الدنيا، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» (?) .
إن الواجب على أهل الإيمان خصوصاً وقت الأحداث المبادرةُ والسعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحياناً من عدوه.
المَعْلم العاشر:
أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتصر الروم فرح الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
المَعْلم الحادي عشر:
في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخبارياً عبر قناة إعلامية والتي أصبحت أكبر مصدر لها؛ لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ويكفي لبيان أثر ذلك مثال واحد حدث زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أُشيع خبر مقتله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عن القتال (?) .
والإسلام جعل منهجاً واضحاً عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبّت والتبيّن منها، بل جعل من يحدّث بكل ما سمع كذّاباً، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» (?) .
وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظاً على أمن المجتمع وسلامته.
وفي الختام نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.