صالح عبد الله الجيتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال الله ـ تعالى ـ: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] ، وهذا ما يعنيه الله ـ جل وعلا ـ وهو يحذِّر أهل الكتاب مما فعله رجال دينهم من تحريف الكتب الإلهية المنزلة على أنبيائهم. فقد رأينا وقرأنا التحريف في كتبهم المقدسة في مختلف طبعاتها لا سيما وقد فضحهم العلماء والباحثون والمتخصصون في مقارنة الأديان. وبالاطلاع على كتاب العلاّمة (موريس بوكاي) المعنون بـ (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) يتضح للقارئ الكريم مصداق ذلك؛ حيث يرى التناقض والكذب وما لا يليق في حق الرسل والأنبياء.
والمحافظون الجدد هم أصلاً من المهاجرين الأوائل إلى أمريكا؛ إذ ينحدرون من (الأنجلو ـ ساكسون) القادمين من الجزيرة البريطانية (ويدينون) بالبروتستانتية، وتتالت بعدهم الهجرات الأوروبية الأخرى القادمة من ألمانيا وإيرلندا وإيطاليا وبولونيا، وسُموا بـ (التحالف العظيم) . وجاءت بعدهم الهجرات اليهودية التي استطاع اليهود بتنظيمهم الداخلي وعصبيتهم، التي يصعب معها اندماجهم في المجتمع الجديد، وظلوا عنصراً متميزاً داخل هذا التحالف، وأبَوْا إلا أن يكون لهم فيها حصة.
والمحافظون الجدد ليسو جدداً إلا في إعادة ممارسة دورهم؛ فالفكر المحافظ هو لب القيم الأمريكية منذ تأسيس دولتهم؛ ولكن خلاياهم النائمة عادت للظهور المتطرف في برامجهم ومبادئهم (?) . ويُعَدُّ المحافظون الجدد أول جماعة صغيرة شكَّلها اليهود الليبراليون خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، وقد لعبت عوامل كثيرة في تكوين الثقافة الأمريكية المؤثرة حقاً في سلوكهم؛ ومن هذه العوامل: التراث اليهودي والنصراني اللذان حملا الثقافة الغربية، ويعتبر اليمين النصراني المتطرف أساسها في أمريكا بمعظم فئاته؛ حيث يسود الأوساط البروتستانتية بصورة خاصة.
ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية التي يؤمنون بها على النحو التالي:
1 ـ دعواهم عصمة الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد!
2 ـ اعتقادهم أن كل حرف كتبه مؤلفو (الكتاب المقدس) بجميع أسفاره هو وحي من الله أو من الروح القُدُس الذي حل فيهم كما يزعمون!
3 ـ القراءة الحرفية للكتاب المقدس واعتقادهم دقة نبوءاته بكل تفاصيلها.
4 ـ زعمهم تحقُّق جميع النبوءات على الأرض!
5 ـ قولهم بحتمية الصراع بين قوى الخير (جيش المسيح) والمنتمين إليه! وقوى الشر وهم (جيش الشيطان) والمنتمون إليه، وانتصار قوى الخير في معركة هرمجدُّون كما يزعمون.
6 ـ ربطهم المباشر بين يهود اليوم والدولة العبرية؛ ولذلك سُمي اليمين المتطرف بـ (النصارى المتصهينين) (?) .
وانتشر فكر المحافظين الجدد في أمريكا بشكل خاص، وفي أوروبا كذلك، فلا يكاد يوجد بلد دون أن يكون فيه حزب للمحافظين، وهم الذين ناصروا الإدارة الأمريكية اليمينية في حروبها المجنونة ضد الإسلام والمسلمين فيما يسمى بـ (الحرب على الإرهاب) فانتكست أحزابهم بفشلها لمناصرتها تلك الحرب الغاشمة، وتساقُطِ رؤسائها سواء في أسبانيا أو إيطاليا؛ وبريطانيا ربما على الطريق.
ومن أبرز ما يتسم به أولئك المحافظون هو دعوة كل النصارى، وخاصة (البروتستانت) إلى دعم الدولة الصهيونية ليكونوا مهمين ـ بزعمهم ـ في ميزان الله، وليس ذلك حباً في اليهود؛ بل للاعتقاد بأن اليهود ستقوم دولتهم في أرض الميعاد (أي فلسطين) فهي مكان دولتهم الذي يعتقدونه محطة نزول المسيح ـ عليه السلام ـ في عودته الثانية (?) . وهذه هي عقيدة (بوش) الذي جاء لأبوين متدينين (بوش الأب) و (باربارا بوش الأم) عام 1936م، وانتقل به أبوه وهو صبي إلى (تكساس) التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي؛ فهو في البداية لم يسر على خطى والديه المتدينين؛ بل كان مدمناً على الخمر ومتسبباً في إزعاج زوجته (لورا) التي كانت صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب والأخذ بيده إلى الكنيسة، ولكن الرجل الذي انتقل به نقلة جذرية من حياة الإدمان واللهو إلى حياة الأصولية هو القس (بيلي جراهام) الذي هو بمثابة شيخه، ويعتبر أبرز وجوه اليمين النصراني المتصهينين في أمريكا، وكان ابنه (فرانكلين) هو الذي قام بالصلوات في تدشين (رئاسة) بوش الابن لأمريكا.
فهل سُعار (بوش الابن) الديني هو مصدر قوته وطاقته؟ أم هو مصدر ضعفه وسوء تقديره للأمور؟ والأخير فيما نحسب هو الصحيح؛ وليس هذا رأي أعدائه ومنتقديه فقط؛ بل هو قول مساعديه ومقربيه. فقد ذكرت صحيفة (النيوزويك) أن مستشاري الرئيس يدركون ذلك، وكثير من المحافظين والدارسين يعتبرونه قد أعمته معتقداته المتطرفة وأفقدته بصيرته عن رؤية الآثار السلبية في غزوه للعراق في20 مارس 2003م، والتي سقط فيها آلاف المدنيين والعسكرين الأمريكيين، و (خطابات فخامته!) تذكِّر بخطابات المستعمرين في القرن الـ 19 وأوائل القرن العشرين عند حديثهم فيما يزعمونه عن مسؤولية (الرجل الأبيض) والهمّ الذي يحمله بين جنبيه، والعبء الملقى على عاتقه لنشر الحضارة وتمدين الشعوب المتوحشة!!
ويأخذ بعضهم على فخامته! نظرته التي تتسم بها رؤيته الشخصية والسياسية؛ فالكاتبة الأمريكية (دانا مليابانك) تشير إلى أن الحرب على العراق اعتبرها بوش سياحة؛ بينما سماها الكثيرون مغامرة كارثية، لكن بوش يعتبرها من واقع عقيدته (حتمية تاريخية) . وقبل ذلك غزوه لأفغانستان وما لاقاه الجيش الأمريكي من قتل وإبادة؛ إلا أن إسقاطهم لإمارة طالبان لم يسقط معها تأثيرها في المجتمع الأفغاني، بل عادت للمقاومة من جديد وسامت الأمريكيين سوء العذاب، وبالرغم من ذلك فـ (الرئيس بوش) يعتبر قيادته لرئاسة أمريكا، بزعمه، أمراً إلهياً واختياراً ربانياً؛ كما جاء في (الواشنطن بوست) في 29/2/2002م، وتكرر ذلك كثيراً في غمرة حربه الإعلامية على الإرهاب، وهذا ما أسمته الكاتبة السابقة الذكر: «روح السذاجة التي تتسم بها خطاباته وقراراته» فضلاً عن اتهامه بالغباء وهو ما أطلقه عليه الرئيس الجنوب أفريقي السابق (نيلسون مانديلا) ، والكاتب الأمريكي الساخر (مايكل مور) في كتابه (رجال بيض أغبياء) .
وثمة مآخذ على الرئيس بوش ومَنْ وراءه من مدرسته الأصولية النصرانية الذين يمثلون اتجاهات أصولية أساسها العنف والكراهية والتكبر في وقت تحتاج فيه البشرية إلى التواضع والإنصاف، واعتماد النسبية في تقويم الأفراد والأمم؛ فلا يوجد من البشر المعاصرين من هو شرير بشكل مطلق ولا خيِّر بشكل مطلق كما يريد بوش أن يوهمنا في كثير من خطاباته ورؤاه؛ فهو ليس إنساناً ذا بعد واحد؛ مما يفسر شخصيته تفسيراً أحادياً، فشخصيته مركبة من الحماس الديني والنفعية السياسية (?) .
\ مظاهر الإخفاق في الإدارة الأمريكية:
منذ بدايات الرؤى المتغطرسة والسياسات المتهورة التي تبنتها الإدارة الأمريكية في سياساتها المخالفة للعقل الرشيد والفكر السديد، والتي أصبحت ظاهرة للعيان، أصبحت محل النقد والرفض من قِبَل كل المنصفين من الكُتَّاب والساسة والمفكرين، لما تحمله من اتجاهات منحرفة ومنها:
ـ الرؤى العنصرية للمحافظين الجدد:
وبخاصة محاباتهم الدولة العبرية على حساب الحق الفلسطيني ووقوفهم مع الصهاينة بشكل واضح، والسكوت عن سياسات (اليهود) الخرقاء وتصرفاتهم العدوانية؛ بل والدفاع عن الصهاينة ضد القرارات الأممية التي أدانتهم وإفشالها باستخدام حق الرفض (الفيتو) لمصلحة العدو الصهيوني، مما كانت معه محل النقد والتذمر لا سيما من دولة لها وزنها العالمي، وهذا بلا شك عدوان على الحق واستهتار بالحقيقة لا يقره عاقل. وإذا عرفنا سياسات الحزب الجمهوري المتطرفة ومنها مناصرتهم للباطل، فمندوبهم في هيئة الأمم (جون بولتون) الذي عُيِّنَ بأمر رئاسي رغم أنف الكونجرس؛ حين عرف فشل حكومته وانهزام حزبه استقال مؤخراً وهو أحد رموز اليمين المتطرف، بعدما علم كذلك أنه على كف عفريت.
ـ الفشل في الحروب الاستباقية:
وهي الحروب التي نادى المحافظون بها ضد غيرهم، وخاصة من يرون فيهم تهديداً لهم. فالدعاوى التي قدموها تسويغاً لغزو العراق، بزعم وجود أسلحة الدمار الشامل لدى الحكومة العراقية السابقة قبل الغزو، قد عرف الجميع كذب هذه الدعاوى، ومنذ تم الغزو إلى الآن لم يعثروا على تلك الأسلحة المزعومة، وقد حرثوا العراق طولاً وعرضاً ولم يجدوها.
ـ النقد الموضوعي الذي يقوم به المنصفون في أمريكا ضد المحافظين الجدد:
أصبح نقد القوم محل الإعجاب من الرأي العام الأمريكي. فمثلاً كتابات ومؤلفات المفكر المعروف (نعوم تشومسكي) حيث هاجم في كتاباته العلمية الناقدة سياسات الإدارة الأمريكية؛ مما هو معروف للجميع، وكتب الاقتصادي الأمريكي الشهير (جورج سورس) في كتابه (فقاعة التفوق الأمريكي) ما سلط به الأضواء على اقتصادهم؛ ففي الجزء الأول الذي عنونه بـ (رؤية ناقدة) فكَّك وانتقد وهاجم واتهم، وفي الجزء الثاني المعنون بـ (رؤية بنَّاءة) قدم البدائل؛ فصاغ ما رآه حلولاً ومقترحات تُخرج أمريكا من الوحل الذي ورطها فيه الرئيس بوش، وانتقد إدارته المحافظة؛ حيث رأى أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض في يد من يرى أنهم مجموعة من المتطرفين الذين سماهم بـ (الدارونية الاجتماعية) ويعني بهم اليمين المحافظ الحاكم؛ حيث دعوا إلى انتقال أمريكا إلى الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفُّظ؛ ليضمنوا بقاءهم على موقعهم القيادي لهم في القرن الحادي والعشرين، وبحسب هذا المشروع يجب على أمريكا أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة بأحد، وأنها لن تتعاون مع الدول أو مع الأمم المتحدة إذا ما رأت أن مصالحها ممكن تحقيقها من دون ذلك؛ لأن عليها مواجهتهم بالقوة العسكرية والحسم، وأنها يمكن أن تقوم بذلك من دون تردد. ووضح الكاتب فشل مشروعهم (القرن الأمريكي الجديد!) وختم حديثه عن أنه لن يمر وقت على أمريكا، حتى يتدهور وضعها في العالم في وقت قياسي (?) .
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى فشل الحزب الجمهوري الحاكم بعد الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي بعد سقوط بعض أعضائه وانتقال بعضهم للحزب الديمقراطي الذي نال الأغلبية، وهناك دعوات أمريكية لإنقاذ الرئيس من المحافظين الجدد الذين اختطفوه وارتهنوه في سياساته المتهورة، وفي حروبه الفاشلة التي سبق الإشارة إلى بعضها يوم خدعوا الشعب الأمريكي بمنطلقاتهم. ونتيجة لهذا الفشل تساقط أعضاء الإدارة الأمريكية؛ فاستقال وزير الدفاع (رامسفيلد) وكذلك مندوبهم في هيئة الأمم (جون بولتون) ، والحبل على الجرّار، وفوز الحزب الديمقراطي ـ فيما نحسب ـ بسبب غضب الشعب الأمريكي من بوش وحكومته في سياساتها المتطرفة التي هي محل النقد والسخط من المواطن الأمريكي الذي يرى أهمية محاكمة الرئيس على جرائمه، وكذلك محاكمة رموز حزبه اليميني المتطرف على ما اقترفوه في حق شعبهم والشعوب الأخرى التي نالها الظلم والدمار بسبب سياسات الحزب الجمهوري الحاكم المتهورة. فمن يردُّ للآباء والأمهات فلذات أكبادهم؟ ومن يرد للمظلومين حقوقهم المنتهكة؟ ومن يرد لأمريكا سمعتها التي وصلت إلى الحضيض في انتهاكها حقوق الإنسان؟ بينما هي تتبنى بكذب مكشوف اتهامات كثيرة من الدول لحقوق الإنسان، وهي أول من انتهكها وداسها منذ تأسيسها بإبادة الهنود الحمر! فإلى متى تبقى أمريكا أسيرة للصوت الصهيوني؟ حيث وصلت الإدارة الأمريكية إلى حال لا تحسد عليها من الضعف.
ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى ما ذكره مؤلفا كتاب (أمريكا لوحدها: المحافظون الجدد والنظام العالمي) أن الأحداث الأخيرة التي مرت بأمريكا أثبتت ما يلي:
1 ـ خطأ المنهج الذي سار عليه المحافظون الجدد.
2 ـ خطأ نظرية نشر الديمقراطية الأمريكية بالقوة.
3 ـ استيقاظ الرأي العام الأمريكي، وعدم تصديقه لما يحدث من نكبات تبنتها حكومتهم.
وهذه بداية النهاية للمحافظين الجدد. وقد توقع المؤلفان ردود فعل داخلية وعدائيه ضدهم (?) ؛ فقد مل الشعب الأمريكي مبادئ القوم وفشلهم في تحقيق أهدافهم المتطرفة مع الخسائر الكبرى التي تكبدوها. وصدق الله العظيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} .