أ. د. جعفر شيخ إدريس
قبل أيام أرسل إليّ أحد الإخوان بالبريد الإلكتروني مقالاً لم أرَ مثله مصوراً لحال المتيَّمين بحبِّ الغرب حبّاً يُعمي ويصم، لذلك رأيت أن أجعل التعليق على بعض ما جاء فيه موضوعاً لمقالي هذا الشهر؛ لما قد جمع فيه صاحبه ـ وبكثير من الجُرْأة والاعتداد والتعالم ـ جملة مما تفرّق في كتابات أمثاله من الحُجج الواهية والدعايات الكاذبة والعبارات المتناقضة التي تُساق للترويج لحضارة الغرب وثقافته، والتنقّص من كل ما هو عربي أو إسلامي. الهدف الواضح من مقاله ـ وهو مقال في ظاهره عن الحوار ـ أن نعترف بأن الآخر ـ ويعني به الغرب ـ خير منا في كل شيء، فعلينا أن لا ننتقده أو نعترض عليه أو نحاربه، بل علينا أن نخضع له ونستسلم. وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية المرذولة فإنه يحشد جملة من الحُجج الواهية والأفكار المتناقضة ما لو قرأه مثقف غربي لسخر منه وأنهضه دليلاً على انحطاط الفكر العربي.
1 ـ بدأ صاحبنا المفتون هذا مقالَه بالحوار مع الآخر بمبادئ وشروط ما أنزل الله بها من سلطان، منها: أن الهدف من الحوار هو تفهّم المواقف وليس تغيير المواقف.
أقول:
مع أن الحقيقة هي أن فهم موقف الآخر شرط سابق للحوار معه؛ لأنني إذا لم أكن على علم بموقفه ففِيْمَ أحاوره؟ وفهم موقف الآخر لا يحتاج إلى حوار بل قد يكون في صيغة سؤال وجواب، فإذا عرفت موقفه فإما أن ترضى عنه فلا يكون بينك وبينه حوار لأنك صرت مثله وفي مكانه، أو تخالفه وتطمع في أن تغيّر موقفه فيكون هنالك داعٍ لحوارك معه.
2 ـ ثم يحذرنا بقوله:
من لديه قناعة تامة بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة لا يمكنه الدخول في حوار مثمر مع أي طرف آخر؛ لأن الطرف الآخر ـ أيضاً ـ له مواقفه التي تخدم مصالحه وقناعاته التي تتماشى مع طريقته في التفكير.
والله إنني لأعجب كيف يفكر هذا الرجل! ما الذي يمنع مدّعي الحقيقة المطلقة (إن كان في الوجود شخص كهذا) من الحوار المثمر مع غيره؟! لماذا لا يكون هدفه إقناع كل من خالفه في أيِّ شيء كان أنه جاهل وأن مخالفته له مخالفة للحقيقة المطلقة؟!
يعلّل الكاتب عدم الإمكان هذا بقوله: «لأن الطرف الآخر ... » إذا كان هذا هو السبب الذي يمنعه من الحوار مع مدّعي الحقيقة المطلقة فليمنعه من الحوار مع أيّ أحد كان؛ سواء ادّعى ملكية الحقيقة المطلقة أم لم يدّعها.
ثم ما المقصود بملكية الحقيقة المطلقة وهي عبارةٌ كثيراً ما أراها تُردّد في نقد الإسلاميين؟ أيقصد بها الادّعاء بالعلم المحيط بكل شيء؟ لكن المسلم العارف بدينه هو أبعد الناس عن مثل هذا الادّعاء؛ لأنه يعتقد أن الله ـ تعالى ـ هو وحده الذي أحاط بكل شيء علماً، ولأن ربّه قد بيّن له أن الناس لم يُؤتوا من العلم إلا قليلاً. وأما إذا كان المقصود بها العلم اليقيني ببعض الحقائق؛ فهذا أمر مشترك بين الناس جميعاً، إذ ما منهم إلا وهو على علم يقيني ببعض الحقائق، وإن اختلفوا في نوع ما هم موقنون به.
3 ـ ويحذرنا ـ أيضاً ـ بقوله:
الذهنية التي ترى أن قناعاتها فقط هي الصحيحة وما خالفها من القناعات خاطئة هي أقرب إلى الذهنية البدائية التي تؤمن بالمطلق وترفض التعددية.
أقول:
إذاً؛ ذهنيتك أيها الكاتب هي من هذا النوع البدائي؛ لأن مقالك كله في تخطئة مخالفيك ودعوتهم إلى الأخذ برأيك. وهل الإيمان بالمطلق قاصر على أصحاب الذهنية البدائية؟ إذاً؛ فإن عدداً من مفكّري (العالم المتحضّر) هم من هذا النوع. والتعددية لا توضع في مقابل المطلق إلا إذا كان المؤمنون بها يعتقدون أن كل ما يرونه هو حقيقة مطلقة، وما أظن أن في الوجود أناساً كهؤلاء، ولا سيما أناساً يؤمنون بمبدأ الاجتهاد وتعرّض المجتهد فيه للخطأ والصواب.
4 ـ ويؤكد لنا شيئاً هو من أبطل الباطل فيقول:
لقد أدرك العالم المتحضّر بعد صراع طويل مع المطلق أن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه وظروفه التاريخية والبيئية، وأن الأمور في نهاية المطاف كلها نسبية، من النسبية الرياضية التي نادى بها (أينشتاين) إلى النسبية الثقافية التي نادى بها (الأنثروبولوجيون) .
أقول:
أولاً: إذا كنت ممن يرون رأي العالم المتحضّر هذا فكان عليك أن لا تكتب شيئاً ولا تناقش أحداً، بل تقول لنفسك: إن كل من خالفني في رأي أو موقف، بل كل من شتمني، فإنه إنما يقول ما أملاه عليه زمانه ومكانه، ولو كنت أنا في زمانه ومكانه لقلت ما قال ورأيت ما رأى.
ثانياً: إن القول بالنسبية ليس شيئاً جديداً على الفكر الغربي، ولم يأت بعد أيّ نوع من الصراع مع المطلق، وإنما هو شيء قديم، ويقولون أن أول من عُرف بالقول به السوفسطائي اليوناني (بروتاجوراس) في عبارة له مشهورة: «الإنسان معيار كل شيء» .
ثالثاً: ينسب الكاتب القول بنسبية الحقائق إلى العالم المتحضر، فكأن الناس في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول (العالم المتحضر) قد أجمعوا كلهم على هذا الرأي، أو كأنه قد أصبح الرأي الغالب عندهم، هذا مع أن القول بنسبية الحقيقة إنما هو قول لقلّة من الفلاسفة، أما جماهير الناس عندهم ـ كما الناس في كل بلاد الله ـ فلا تقول بها، خذْ مثلاً على ذلك: تقول الإحصاءات الغربية: إن معظم الناس عندهم يؤمنون بوجود الخالق، فهل تراهم يؤمنون بأن وجوده حقيقة نسبية تصح في مكان دون مكان وفي زمان دون زمان؟ والقلّة الملحدة منهم هل تقول: إن عدم وجوده أمر نسبي يصح في مكان دون مكان وزمان دون زمان؟ والنصارى المؤمنون بأن المسيح ابن الله، هل يعتقدون أن هذه حقيقة نسبية؟ وعلماء الطبيعة هل يقولون: إن كل ما اكتشف من حقائق الطبيعة هو أمر نسبي، وأنه سيأتي زمان يصح فيه القول بأن الأرض ليست كروية، وأنها أكبر حجماً من الشمس، وأنها ثابتة لا تدور؟
القول بالنسبية ليس ـ إذاً ـ أمراً مجمعاً عليه بين الغربيين، بل ولا هو رأي أغلبيتهم، بل إن القائلين بها يختلفون في معناها ومداها اختلافاً كبيراً، ولعل من غلاة القائلين بها الفيلسوف الأمريكي المعاصر (رورتي) الذي ذهب إلى حدِّ القول بأن كلام العلماء الطبيعيين عن الواقع هو وجهة نظرٍ شأنها في ذلك شأن كلام الشعراء!
رابعاً: الدعوة إلى النسبية دعوة تحمل نقضها في أحشائها؛ لأنك إذا قلت: إن الحقيقة نسبية، فإن هذا يصدق على كلامك هذا فهو ـ أيضاً ـ نسبي، أي: إن القول بأن الحقيقة نسبية هو نفسه حقيقة نسبية.
خامساً: ولذلك فإنه يتعذر على القائلين بها أن يلتزموا بنتائجها فيما يقولون، بل إنهم يفترضون كما يفترض كاتبنا هذا أن قاعدة كل شيء نسبي لا تنطبق على ما يقول هو أو يراه.
سادساً: نسبية (أينشتاين) (لست أدري لماذا وصفها الكاتب بالرياضية مع أنها فيزيائية) وإن رأى فيها بعض عوام المثقفين في الغرب ما رأى الكاتب إلا أن كبار علمائهم وفلاسفتهم يقولون: إنه لا علاقة لها بالقول بنسبية الحقائق أو القيم إلا لفظ النسبية، ولذلك قال بعضهم: إن تسميتها بالنسبية لم تكن تسمية موفقة، وأنها لو سميت بالمطلقية لكان اسماً أقرب إلى حقيقتها. وملخص دليلهم على ذلك أنها نظرية تستند إلى حقيقتين تجريبيتين ليستا بنسبيتين، هما: عدم تغير القوانين الفيزيائة، وثبات سرعة الضوء مهما كان حال المراقب.
سابعاً: نعم؛ إن من علماء الأنثروبولوجيا من قال بهذا، لكنَّ كثيرين منهم ردّوا على زملائهم، بل إن منهم من أثبت أن هنالك قيماً مشتركة بين كل الثقافات بغضِّ النظر عن أزمانها وأماكنها، واستنتجوا من هذا أن في الثقافة ما هو إنساني يكون مع الإنسان حيث كان.
5 ـ يقول الكاتب:
أضف إلى ذلك نظرية التطور التي تقول: إن التغير سنّة من سنن الكون الذي لا يمكن الوقوف في وجهه.
أقول:
أضيفُ ماذا إلى ماذا؟ أأضيف القول بأن هنالك سنّة ثابتة لا يمكن الوقوف في وجهها إلى القول بأن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه؟ ماذا يتحصل عندي إذاً؟ هذا نوع من إلقاء الأقوال على عواهنها من غير تصوّر لحقائقها أو للعلاقات بينها.
6 ـ بعد هذه العمومات الباطلة يصل الكاتب إلى بيت قصيده ليقول لنا: إنه لا جدوى من حواركم مع الغرب؛ لأنكم تريدون منه شيئاً لا يمكن أن يفعله؛ لأن من يعيش في مجتمع يحكمه القانون وتسوده العدالة وتتحقق فيه كرامة الفرد وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير لا يمكن أن يتراجع عن كل هذه المكتسبات ويعود القهقرى لينفض الغبار عن قناعات خَبرَها وكافح ليتخلّى عنها ويودّعها إلى غير رجعة.
لكن الواقع وأنفُ أمثال هؤلاء راغم أن كثيراً من الغربيين يحاوروننا ويقرؤون كتاب ربنا فيدخلون في دين الله أفواجاً، حتى إن إحصاءاتهم تقول: إن الإسلام أكثر الأديان (أقول وسائر الأيدلوجيات) سرعةً في الانتشار حتى في عواصم الدول الغربية. إنهم يقبلون عليه مثل هذا الإقبال لأنهم لا يرون فيه ما يرى المرتدون عنه دعوة إلى التخلّي عن خير مادي أو معنوي توصّلوا إليه، وإنما يرون فيه خير هادٍ لهم إلى معرفة ربهم والسعادة بعبادته واتّباع شرعه، بعد أن دلّتهم خبرتهم على أنه ليس بالتقدُّم المادي وحده يسعد الإنسان.
7 ـ لكن أمثال هذا الكاتب يرددون أباطيل قال بها منكرو الرسالات النبوية قبلهم. فإذا كان كاتبنا يقول:
إننا بينما نسمح لأنفسنا أن نستمتع وبشراهة منقطعة النظير بكل ما تنتجه مصانعه من أجهزة ومعدات فإننا في الوقت نفسه نرفض وننكر ما يقف وراء هذه المنجزات التقنية من علم وفكر.. بدلاً من تعمير هذا الكون الذي هو أعظم مسؤولية ألقاها الخالق على عاتق الإنسان وأعظم كرامة كرّمه الله بها.
فإنه إنما يردد من حيث لا يشعر حجة لجأ إليها الكفار في إنكارهم للرسالة المحمدية: {وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا} [مريم: 73 - 74] .
وكاتبنا هذا وأمثاله يرون في تفوّق الغرب المادي وتعميره الأرض دليلاً على تفوّق معتقداته وقيمه وأفكاره.
بماذا ينصحنا الكاتب إذاً؟ أن لا نكتفي بشراء بضائعهم بل نشتري معها شرْكهم وإلحادهم وتدهور خُلقهم وظلمهم للشعوب واحتلالهم لها وفرض ثقافتهم وقيمهم الفاسدة عليها؟! إنه مما لا ريب فيه أن التقدّم المادي الذي نشاهده في الغرب بُني على حقائق من العلوم الطبيعية، وأننا قصرنا في هذا الجانب تقصيراً كبيراً كان سبباً في إذلالنا، لكننا نعلم أنه تقصير مهما كانت أسبابه فلا علاقة له بديننا الذي كنا بسببه أئمة العالم في مجال هذه العلوم، وأنه ليس منا الآن من يرفض الحقائق الرياضية أو التجريبية، لكننا نعلم أنه ليس في معرفة هذه العلوم والاستفادة منها في المنجزات المادية ما ينهض وحده دليلاً على صحة معتقدات العالمين بها، أو حسن خُلقهم، أو صواب فكرهم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. لو كان هذا صحيحاً لكانت عقائد بناة الأهرامات صحيحة، ولكانت الكنفوشية والشيوعية التي تدين بها الصين صحيحة، ولكانت البوذية والهندوسية أيضاً صحيحة؛ لأن أصحاب كل هذه المعتقدات هم الآن متقدّمون في مجال المنجزات المادية تقدّماً يذهل له الغرب ويخشاه أشدّ خشية، لكن صاحبنا وأمثاله يريدون لنا أن نضيف إلى تخلّفنا المادي تخلّفاً روحياً فنخسر الدنيا والآخرة.
أما تعمير الكون فما هو والله بأعظم مسؤولية ولا أعظم كرامة كرّم الله بها الإنسان. أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ لو كان هذا صحيحاً لكان ساكنو القصور العالية وراكبو السيارات الفارهة ومرتدو الملابس الفاخرة في أوروبا وأمريكا أقربَ إلى الله من عباده الذاكرين له وهم محبوسون معذَّبون في سجون (غوانتنامو) . إن عمارة الأرض ليست غاية في ذاتها لكنها وسيلة إلى خير أو شر. إن الخالق العظيم هو الذي قال:
{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} [الروم: 9 - 10] .
8 ـ ينصحنا الكاتب قائلاً:
ولا ننسَ أن الآخر مؤهل للحوار معنا أكثر مما نحن مؤهلون للحوار معه. لماذا؟ لأننا لا نعرف عنه شيئاً بينما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. علينا أن نعترف أن اكتشافنا لكنوز حضارتنا جاء عن طريق مدارس الاستشراق التي نبّهتنا لهذه الكنوز ونحن عنها غافلون.
أصحيح هذا؟ ألم أقل لكم: إن الرجل في حالة من الهيام الذي يعمي ويصم؟ أصحيح أننا لا نعرف عن الغرب شيئاً، نحن الذين تتكلم الآلاف منا لغات الغرب وتقرأ كتبه وصحفه وتستمع إلى إذاعاته وتتعلم في جامعاته وتزور بلاده وتساكنه فيها، بينما الذين يعرفون شيئاً من لغاتنا وثقافتنا وتاريخنا إنما هم أهل الاختصاص منهم؟
نبّهنا المستشرقون إلى كنوز لنا؟ الحمد لله، فنحن ـ إذاً ـ أمة لها كنوز يعترف بقيمتها حتى عدد من أبناء العالم المتحضر. وإذا كنا نشكر أولئك المستشرقين على اكتشاف شيء من كنوزنا فإننا نحمد الله أن جعل لنا فضل السبق إلى دين هدتهم تلك الكنوز إليه فآمن كثيرون منهم، بل يقال: آمن أكثرهم به بعد أن كانوا تائهين في ظلمات الشرك والأديان الباطلة. لقد أعطيناهم ـ إذاً ـ أحسن مما أعطونا ولله الحمد والمنّة.
9 ـ يقول كاذباً:
... بينما نحرّم نحن على من يقيم منهم بين ظهرانينا أن يحتفل بمناسباته الدينية في بيته خلف الجدران والأبواب المغلقة.
لولا أن الكاتب يقول إنه من موريتانيا لقلت: هذا رجل لا يعيش في العالم العربي. كيف يجرؤ إنسان فيه مسكة من عقل على مثل هذا القول بينما كنائس النصارى بالنسبة لأعدادهم في بلادنا أكبر من نسبة المساجد في بلادهم بالنسبة لأعداد المسلمين فيها؟ كيف يقال هذا والنصارى يحتفلون بأعيادهم في بعض البلاد العربية حتى على شاشات القنوات الرسمية؟
10 ـ يقول آسفاً:
وها نحن نلعنهم في صلواتنا ونفرٌ منا يمتشقون السيوف والعبوات الناسفة ليجبروا الناس على الدخول في حظيرة الدِّين بينما هم يبنون المستشفيات ويقدمون المساعدات الإنسانية ويصلون للمنكوبين.
يا للعجب! أيقال مثل هذا الكلام عن الغرب الذي احتلَّ واسترق وانتهك الحرمات؟! أيقال هذا والأخبار تترى عن استمرار قوات الناتو في قصف القرى الأفغانية قصفاً لا يفرق بين محارب ومسالم، وصغير وكبير ورجل وامرأة؟! أيقال مثل هذا عن الغرب وقواته مستمرة في عدوانها على شعب العراق، وإسرائيل تدمّر البلاد وتقتل الأبرياء في فلسطين بمباركة منه؟! أيقال هذا في زمان (أبو غريب وغوانتنامو) ؟! ولكن لا عجب فإن التَّتيّم يعمي ويصم.
ثم إن الذين امتشقوا السيوف صرحوا بأنهم لم يمتشقوها لدعوة إنسان إلى الإسلام، وإنما فعلوا ما فعلوا بدعوى الانتقام لإخوانهم الذين عانوا من ظلم أمريكا في فلسطين. كيف يكون قصدهم أن يجبروا على الدخول في الإسلام من هم عازمون على قتله؟ أيسلم بعد أن تفارق روحه جسده؟!
11 ـ واستمع إلى ما يقوله عن التبشير النصراني:
لا يمكننا فصل الدين عن الحضارة، فالمجتمعات المتحضرة تمارس دينها، أيّاً كان ذلك الدين، وتدعو إليه وفق أساليب متحضرة، وتقدّمه كخيار حرٍّ لمن يجد فيه ما يروي ظمأ الروح ويقود إلى طمأنينة النفس ويلبِّي حاجة الوجدان ونوازع الضمير.
قارن هذه الصورة الخيالية الدعائية بالواقع الذي يرويه لنا أصحاب تلك الدول المتحضّرة. فهذا (هنتجتون) يقول ـ كما نقلت عنه في مقال سابق ـ: إن الثقافة الغربية فُرضت على الناس باستعمال العنف، وهؤلاء أئمة النصارى في أمريكا يتحدثون عن أطهر رجل عرفته البشرية بكلام بذيء لا يقال حتى عن عامة المفسدين، وهذا أحدهم يحث حكومته على دكِّ الخرطوم بالطائرات، وذاك وذاك. لكن ماذا يحدي بيان الحقائق لقوم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون؟
12 ـ يقول الكاتب في نهاية هذره هذا مادحاً نفسه:
هذا الحديث عن الحوار مع الآخر ليس مجرد شطحات نظرية فأنا لا أتحدث من فراغ وإنما ... ليت الحديث كان شطحات نظرية إذاً فلربما كان أقل سوءاً.