عبد العزيز بن ناصر الجليل (*)
الحمد الله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً.
فالإسلام دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ، فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
وحكم ـ سبحانه ـ بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلاً، فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأعصار وفي القرى والأمصار والأمم الخالية، وضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح ابن البشر.
رضي المسلمون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ورضي المخذولون بالصليب والوثن إلهاً، وبالتثليث والكفر ديناً، وبسبيل الضلال والغضب سبيلاً؛ أما بعد:
فإن من بعض حقوق الله على عبده: رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان (?) .
وإن ما تفوَّه به عابد الصليب وإمام الكفر ورئيسه في (الفاتيكان) من الشتم والنقائض في حق رسولنا الكريم وديننا الحنيف لم يكن هو الأول من نوعه، وليس غريباً أن يخرج من أفواههم النجسة مثل هذا الكلام؛ لأنه وأمثاله قد مُلِئوا كفراً وحقداً؛ وكل إناء بما فيه ينضح. ومثل هذا الكفر المتجدد إنما هو زيادة في الكفر على كفرهم وإملاء من الله ـ عز وجل ـ لهم حتى يسرعوا إلى الأجل الذي قدره الله لهم ليقصمهم فيه ويمحقهم. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
وليس الغرض من هذه الكتابة الرد على ما تفوَّه به إمام الكفر ومرجع النصرانية الوثنية في العالم اليوم؛ فقد كفانا الرد على شبهاتهم أئمة الإسلام في القديم والحديث كشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العظيم (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وتلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه النفيس (هداية الحيارى) . هذا لو كان ما قاله رئيس الكفر ناشئاً عن جهل بالإسلام ورسول الإسلام، أما وإنه يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يعرف أبناءه وما صده عن ذلك وجعله يقول ما قاله من تخرصاته إلا العناد والاستكبار؛ فإن مثل هذا لا يستحق الرد ولا الالتفات وإنما الله ـ عز وجل ـ هو الذي يتولى الرد على هذا وأمثاله بما يشاء: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍٍ} [الحج: 38]
ü المقصود من هذه المقالة:
وإنما المقصود من هذه الكتابة مخاطبة إخواني المسلمين الموحدين بتوظيف هذا الحدث في التركيز والتأكيد على بعض المسائل والأصول المهمة التي يسعى أعداء هذا الدين من الكفرة والمنافقين في توهينها والتشويش عليها لعلمهم بأنها هي التي تحفظ للمسلمين كيانهم وعقيدتهم وأخلاقهم.
ويمكن الحديث عن هذه المسائل المهمة في ظل هذه الهجمة الشرسة من أئمة الكفر على ديننا حسب الوقفات التالية:
ü الوقفة الأولى: النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية:
يقول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
ويقول ـ سبحانه ـ: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
والآيات من كتاب الله ـ عز وجل ـ في الحث على النظر في السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم. إنه من الواجب على دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله ـ عز وجل ـ وما تضمن من الهدى والنور؛ ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الآخرون من تخبط وشقاء، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وحرمان التوفيق في النظر الصحيح للأحداث والمواقف. وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله عز وجل؛ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها اليوم في حرب الإسلام وأهله.
وأكتفي بذكر سُنَّة واحدة من سنن الله ـ تعالى ـ تتناسب وهذا الحدث الذي نحن بصدده. وبفهم هذه السُنَّة يزول الاستغراب مما يحدث ونتمكن من الفهم الصحيح لحقيقة هذه الهجمات المتتالية من أعداء الإسلام ودوافعها وحكمة الله ـ عز وجل ـ في إيجادها؛ لأن من أسمائه ـ سبحانه ـ: العليم الحكيم. ومن آثار هذين الاسمين الكريمين اليقين بأن أي شيء يحدث في خلقه ـ سبحانه ـ فإنما هو بعلم الله ـ تعالى ـ وإرادته وحكمته البالغة. وهذه السنَّة التي أعنيها هنا والتي هي مقتضى حكمته ـ سبحانه ـ وعلمه هي سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل:
يقول الله ـ عزَّ وجل ـ: {فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
ويقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحج: 40] .
في هاتين الآيتين أبلغ دليل على أن الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سنة إلهية لا تتخلف؛ ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك. وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إنْ هو إلا مقتضى علمه ـ سبحانه ـ وحكمته ورحمته ولطفه، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين، ولذلك ختم الله ـ عز وجل ـ آية المدافعة في سورة البقرة، بقوله ـ سبحانه ـ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ، حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس، بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنَّة ـ أعني سُنَّة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكَّبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ عزَّ وجل ـ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يُؤْثِرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة:
فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللَّبْس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ على رأس وذروة هذه المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة؛ وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير. وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.
وقد تقرر عند أهل العلم أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن؛ فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كلٌّ بحسبه.
وحينما نربط هذه السُنَّة ومقتضى اسمائه الحسنى بهذه الأحداث التي تزامنت وتتالت وتشابهت قلوب أصحابها في الهجوم على دين الإسلام وأهله وبلدانه تتضح لنا هذه السُنَّة بجلاء؛ وحينئذ يرتفع الاستغراب مما يقوم به الكفار من هجوم وافتراء على دين الإسلام، ويشمِّر المسلم للدخول في الصراع ضد أعداء الله ـ تعالى ـ بما يستطيع من نفسه وماله ولسانه وقلمه. قال -صلى الله عليه وسلم-: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (رواه النسائي (3045) وصححه الألباني) .
ü الوقفة الثانية: ذكر بعض الحِكَم والألطاف الإلهية المتجلية في هذه الأحداث
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «أسماؤه الحسنى تقتضي آثارها، وتستلزمها استلزام المقتضي المُوجب لمُوجبه ومُقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه: الخلاَّق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحكم العدل، إلى سائر الأسماء، ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره؛ فمصدر الخَلْق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين، ولهذا يقرن ـ سبحانه ـ بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر) . (الصواعق المرسلة: 4/1564)
اذا تبين لنا هذا الأصل العظيم أيقنا أن ما يجري اليوم من كيد وافتراء وهجوم شرس من الكفار على دين الإسلام فإنما هو بعلم الله ـ تعالى ـ وإرادته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] ، وأن له ـ سبحانه ـ الحِكَم البالغة في ذلك.
والمؤمنون يحسنون الظن بربهم ـ سبحانه ـ ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله ـ عز وجل ـ هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين إن شاء الله ـ تعالى ـ.
ومع أن المعركة مع الكفار لا زالت في بدايتها، ومع أنها موجعة وكريهة إلا أننا نلمس لطف الله ـ عز وجل ـ ورحمته في أعطافها.
وأقتصر على ثلاث من أهم هذه الألطاف والثمار العظيمة:
ü اللطيفة الأولى:
تلك اليقظة الشاملة بين المسلمين والوعي بحقيقة أعدائهم وما يكيدون به للإسلام وأهله. ومع أن هذا العداء والكيد من الكفار قد حذرنا الله ـ عز وجل ـ منه في كتابه الكريم إلا أن كثيراً من المسلمين وبحكم غفلتهم عن كتاب ربهم ـ سبحانه ـ تلاوة أو تدبراً لم يتعظوا بكلام ربهم ـ سبحانه ـ فنسوا حظاً مما ذُكِّروا به وغفلوا عن عدوهم. ولذا فمن رحمته ـ سبحانه ـ أن يقدر أحداثاً مؤلمة للمسلمين لكنها تحمل في طياتها خيراً، ومن ذلك ـ كما أسلفت ـ يقظة المسلمين ورجوعهم إلى دينهم وتقوية عقيدة الولاء والبراء، وشحذ هممهم وعزائمهم لنصرة الدين والبراءة من أعدائهم وجهادهم باللسان والسنان. وهذا مكسب عظيم إذا قارناه بأحوال الأمة قبل ذلك وما كانت تعيشه من الغفلة والانخداع بما يزعمه الكفرة والمنافقون أنهم دعاة سلام وأمن وحرية.
والمتدبرون لكتاب الله ـ تعالى ـ وتاريخ الصراع بين الحق والباطل لم يكونوا بحاجة إلى إقناعهم بعداوة الكفار وكيدهم من خلال هذه الهجمات الأخيرة، بل إن هذه الهجمات زادتهم إيماناً ويقيناً لما حذرهم الله ـ عزَّ وجل ـ منه في كتابه الكريم. ومن هذه التحذيرات قوله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، وقوله ـ عز وجل ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] .
وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] .
إذن فلا غرابة إذا هاجموا دين الإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا شأنهم وشنشنتهم في قديم الزمان وحديثه، وأعظم من ذلك وأشنع سبهم لله ـ عز وجل ـ وطعنهم في ربوبيته وألوهيته بنسبة الولد إليه وجعله شريكاً مع الله ـ عز وجل ـ في ربوبيته وألوهيته؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ولكن الملفت في هذه الهجمات المتأخرة تزامنها وتتابعها وتوزيع الأدوار بين رموز الكفر عندهم بمختلف توجهاتهم، السياسية، والدينية، والثقافية، والعسكرية.
والتصريح الذي صدر من رئيس الفاتيكان يأتي في سياق حملة عالمية وراءها اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين على الإسلام والمسلمين بدأت في دوائر الثقافة والفكر والإعلام فيما سمي بصراع الحضارات، وما سمي بنهاية التاريخ، وعبر عنه المحافظون الجدد في أمريكا والأحزاب والأنظمة والشخصيات المتناغمة معهم في أوروبا وأستراليا، وأيضاً عبر عنه الإنجيليون وعبرت عنه التجمعات الماسونية المختلفة في العالم، ثم تحولت هذه الحملة المحمومة المسمومة الحاقدة إلى فعل سياسي واحتلال عسكري يمارس من خلال الجيوش الغربية، حين أعلن الطاغوت الأول «بوش» أنها حرب صليبية، واحتلت العراق وأفغانستان، وتهدد وتحاصر البلدان الإسلامية الأخرى وتمارس عليها الضغوط، ومن ذلك كلام بوش الأخير ووصفه للمسلمين بالفاشيين، وقبله كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة والإسلام، وبعده الرسوم المسيئة في الصحف الدانماركية؛ ثم ها نحن نرى الآن رئيس الفاتيكان يبارك هذه الجهود، ويعلن من كرسي البابوية انسياقه في هذه الحملة، وهذا يذكِّرنا بدور الباباوات في الحروب الصليبية السيئة الذكر، التي حفل بها تاريخ الغربيين.
إذن فإن يقظة المسلمين ووقوفهم على حقيقة أعدائهم وما يخططون من حروب صليبية بدأت طلائعها في بعض بلدان المسلمين. إن هذا من فوائد هذه الأحداث المرة والتي يجب على دعاة هذه الأمة وعلمائها توظيفها في شحن الهمم وتقوية عقيدة الولاء والبراء ودعوة كل قادر في هذه الأمة إلى مواجهة هذا الغزو الخطير على بلدان المسلمين عقدياً وعسكرياً، واستنفار المسلمين في جهاد الأعداء الغزاة باللسان والبيان والسنان.
ü اللطيفة الثانية:
فضح الدعوات التي يرفعها رموز المنافقين وبعض المهزومين من المسلمين التي تدعو إلى التعايش مع الآخر وترك تسميته بالكافر والقضاء على مشاعر الكراهية نحوه، بل الدعوة إلى محبته وموالاته!!
فها هو حقد الآخر وكيده وحربه؛ فماذا يقول دعاة (نحن والآخر) ؟ وماذا يقوله رموز السلام الذين يريدون نزع الكراهية والبراءة من الكفار من صدور المسلمين؟ يقول كلينتون ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ في تصريحات لشبكة (سي. إن. إن) الإخبارية: إن البابا ساهم من خلال هذه التصريحات في إضعاف تأثير رجال الدين الإسلامي المعتدلين الذين يحاولون «استعادة» راية دينهم من الإسلاميين المتعصبين، وقال أيضاً في برنامج (لاري كينج لايف) الحواري الشهير على الشبكة الأمريكية: «إن كل شخص منا يدلي بهذه التصريحات وخاصة إذا كان في منصب مرموق مثل البابا، يزيد من صعوبة مهمة المعتدلين في العالم الإسلامي» .
إنهم يفتضحون وتتهاوى دعواتهم وبرامجهم، هذا عن المنافقين منهم. أما من انخدع بهذه الدعوات من جهلة المسلمين ومهزوميهم فأحسب أن الغفلة والتلبيس قد زالت عنهم وحل مكانهما الشعور بكراهية الكافر والبراءة منه ومن كفره، والاستعداد لجهاده ورد كيده وكفره. وهذه ثمرة عظيمة أفرزها هذا الهجوم السافر الظالم من رموز الكفار المحاربين لله ولرسوله: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . [النساء: 19]
ü اللطيفة الثالثة:
السقوط الذريع لما يسمى بالدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها. ومع أن هذه الدعوة الخطيرة متهافتة وباطلة من أصلها بما تعرفه من استحالة اجتماع التوحيد مع الشرك حيث علَّمنا الله ـ عز وجل ـ أن لا وحدة ولا تقارب ولا تفاهم بين الإيمان والكفر وذلك في كتابه ـ سبحانه ـ حيث قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32] ويبين لنا ـ سبحانه ـ موقف الكفار مع انبيائهم الذين يدعونهم إلى التوحيد بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13] .
وقال ـ سبحانه ـ عن نبيه هود عليه ـ السلام ـ وهو يتحدى قومه الكفار: {إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ} [هود: 54 - 55] .
ومع وضوح هذه الأدلة الدامغة إلا أنه وجد من المسلمين من انخدع بمثل هذه الدعوات، فراح يضيع عمره في اللهث وراءها. ولكن من رحمة الله ـ تعالى ـ ولطفه أن يقدر مثل هذه الأحداث التي تبين خبث القوم وكيدهم وغطرستهم مما كان له الأثر الكبير في استيقاظ المخدوعين من المسلمين على استحالة هذا التقارب وبطلانه من أصله.
ومن باب الفائدة في هذا المقام أحيل القارئ الكريم إلى فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية في حكم الدعوة إلي وحدة الأديان وتقاربها وتحمل هذه الفتوى رقم (19042) :
ü الوقفة الثالثة: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وفيها بيان أسباب تلك الحملة:
يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة، ويتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن؛ فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيين، إلى كلام بابا الفاتيكان بندكت السادس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقبلها كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة الإسلامية، وبعده الرسوم المسيئة، وغير ذلك من حملات التشويه. ويتساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ ولا شك أن هناك أسباباً لهذه الحملات في هذا الوقت بالذات من أهمها ما يلي:
السبب الأول: الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية:
والذي أقض مضاجعهم وملأ قلوبهم غيظاً وحقداً وحسداً على أهل الاسلام والتوحيد، ويمثل هذا الانتشار الواسع لدين الإسلام وكثرة المعتنقين له في المظاهر التالية:
أـ زيادة أعداد المساجد في دول الغرب والشرق:
ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوت الأذان الذي يُرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً جدداً. فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك. وعند نيويورك ومساجدها نتوقف؛ ففي أوقات الأذان الخمسة ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد، وبلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب (2000) مسجد والحمد الله، وترتفع في بريطانيا مآذن نحو (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مآذن (1554) مسجداً ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ (2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصليات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مآذن (130) مسجداً، أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76) مسجداً. هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية، عدا عن أوروبا الشرقية، والإقبال يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام وينطلق.
ب ـ تحذير الصحف الغربية من انتشار الإسلام:
فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من انتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى، ومن ذلك ما جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأمريكية «وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب» .
مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: «إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة» .
ج ـ انتشار بيع نسخ القرآن الكريم والكتب الإسلامية:
وذلك بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام، إلا أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحد (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية. كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق.
د ـ تزايد أعداد الداخلين في الإسلام:
ففي عام 2001م نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد تلك الواقعة قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: «إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام؛ وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام» .
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: «على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخراً، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يومياً من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد» .
وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية.
وهذا الانتشار الواسع لدين الإسلام يحصل مع التضييق الشديد على الأنشطة الإسلامية والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول، ومع وجود الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في نشر الديانة النصرانية والصد عن الإسلام على كافة الأصعدة حتى بلغت ميزانيات بعض الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة. ا. هـ. (باختصار عن مقال في موقع أنا المسلم) .
وصدق الله العظيم فـ {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] .
كل هذا مما أغاظ الكفار ونفسوا عن هذا الغيظ والحقد بهذة الهجمات المخذولة. وهنا نقول ما قال الله ـ عز وجل ـ لسلفهم {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
[آل عمران: 119]
السبب الثاني لهذه الحملات: ما حققه الله ـ عز وجل ـ على أيدي المجاهدين في هذه الأمة ـ جزآهم الله خيراً ـ من نكاية وإثخان في الغزاة:
حيث نسمع ونرى من انتصارات المجاهدين في أفغانستان والعراق وفلسطين ما يثلج الصدور ويغم الكفار؛ حيث أصبح الكفرة الغزاة في متناول المجاهدين الأسود تنالهم أيديهم ورماحهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب ورد الله كيدهم في نحورهم، وصاروا يفكرون في الخروج من مأزقهم بعد أن ظنوا أن ديار المسلمين لقمة سائغة لهم. ولما رأى رموز الكفر في الغرب السياسيون منهم؛ والدينيون تصاعد العمل الجهادي أمامهم وتصاعد الكراهية والبغض والبراءة منهم كل هذا زادهم غيظاً وحنقاً فلجؤوا إلى هذه الحملات الفجة الحاقدة على الإسلام لينفسوا عن غيظهم. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يزيدهم حسرة وأن يموتوا بغيظهم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
السبب الثالث: التغطية على جرائمهم البشعة:
بنشر التشويه لسمعة المسلمين في العالم وتبرير حملاتهم البربرية على بلدان المسلمين بحجة الحرب على الإرهاب ونشر السلام؛ حيث إن هذه الحملات تأتي بمباركة رئيس الفاتيكان كما كان ذلك في الحروب الصليبية القديمة التي حفل بها تاريخ الغرب الصليبي حيث سبقها مباركة الباباوات وتشجيعهم للنصارى على حرب المسلمين، وتصويرهم لأنفسهم بأنهم رسل حضارة وتقدم، وإظهار إبادتهم للمسلمين بأنها دعوة للسلام والحرية والديموقراطية.
ü الوقفة الرابعة: رمتني بدائها وانسلَّت:
هذا المثل يضرب لمن يعيِّر غيره بعيب هو فيه (انظر مجمع الأمثال 2/23) وإنه لمن العجائب والمضحكات أن يتهم عابد الصليب دين الإسلام بأنه مخالف للعقل والمنطق أو أنه متعطش للدماء، وأنه ما قام إلا على العنف والحقد والإكراه.
إن عابد الصليب حينما تفوَّه بهذا الكلام من فمه النجس ليعلم في قرارة نفسه أنه كذاب وأن دين النصرانية الذي هو رئيسه اليوم غارق في أوحال الشرك والهمجية وإلغاء العقل والتفكير، كما يعلم في الوقت نفسه أن دين الإسلام بريء من كل ما قال، وأنه ما من دين أكرم العقل ووضعه في مكانه اللائق به كالإسلام.
إن رئيس الفاتيكان يعلم ذلك علم اليقين، ولكنه الاستكبار والحسد والغيظ، فقد قال الله ـ عز وجل ـ عن سلفه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] .
وقال عمن آمن منهم وانقاد للتوحيد والإسلام: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] .
فسبحان من وفق من شاء من عباده إلى هدايته، وحرم من حرم منهم حكمة منه وعدلاً.
وأكتفي بمثال واحد ساقه الإمام أبن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من دين النصارى المحرف يدل على همجية عقولهم وانتكاسها. قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل ولإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار، أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدة من الزمان بين دم الطمث وظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويأكل ويشرب ويبول وينام، ويتقلب مع الصبيان.
ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان.
ثم قبضوا عليه، وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه مع الرجلين، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللُّحمان (?) ، وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان.
هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان» (2) .
ولكن العجيب المضحك ـ كما أسلفت ـ هو أن يرمي هذا المخذول خصمه بما هو غارق فيه وفي أوحاله ولكنها الغطرسة والاستخفاف بعقول الناس؛ إذ كيف يرمي غيرَه بحجر مَنْ بيته من زجاج؟!
أما الأشد عجباً وسخفاً فهو رميه لدين الإسلام بأنه متعطش للدماء والعنف، وأنه انتشر على جماجم الناس وأشلائهم!! ألا يستحي هذا الظالم المخذول من نفسه؟ إنه والله يعلم أنه كاذب، وأن الناس يعلمون أنه كاذب؛ ولكنه الاستخفاف بعقول الناس والكبر والغطرسة. وإلا فماذا يقول عُبَّاد الصليب عن حروبهم الدينية المخزية عبر مئات السنين التي شنوها قديماً في حروبهم الصليبية؟! ومَنِ الذين وراءها؟ وماذا يقولون عن محاكم التفتيش؟ وماذا يقولون عن الحربين العالميتين التين قتل فيهما الملايين من بني جلدتهم ومن غيرهم؟ ومن الذين غزوا بلاد المسلمين واحتلوها في القرن الماضي؟ ومن الذين قتلوا عشرات الآلاف بالقنبلة الذرية التي تحرق الأخضر واليابس؟
ومن الذين قتلوا وشردوا مئات الآلاف في أفغانستان والعراق؟
ومن الذين قتلوا المسلمين ودفنوهم في مقابر جماعية في حرب البوسنة والهرسك؟!!
ومن الذين ساهموا في المذابح المروعة في أفريقية بمباركة قسيسي ورهبان الهوتو التي حدثت لقبائل التوتسي؟ ومن ... ومن؟
إن كل هذه الجرائم والدماء والأشلاء إنما تمت على يد النصارى بمباركة قساوستهم؛ فكيف لا يستحي هذا المتغطرس النجس من هذه الجرائم؟ لكنهم استخفوا بعقول الناس، وبدلاً من الاعتراف بهذه الجرائم والانكفاء على أنفسهم راحوا يزيدون جرائمهم ويشعلونها حرباً على الإسلام، ثم يسمون جميع ضحاياهم إرهابيين أو أنهم دعاة للإسلام بالعنف، ويسمون إبادتهم دعوة للسلام والحرية والديمقراطية!! إنهم هم فقط لهم حق القتل والإبادة، ويجب أن يقبل المسلمون بالموت وأن يعتبروه حرية وتقدماً وسلاماً مسيحياً.
ü الوقفة الخامسة: بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان:
إنه لمن المؤسف أن يضع بعض الدعاة والمفكرين من المسلمين أنفسهم موضع المتهم المنهزم الذي يريد أن يبرئ نفسه من تهمة ويحسِّن وضعه عند خصمه. إن هذا المنهج الأعوج هو ما يتبناه اليوم بعض من قام بالرد على عابد الصليب المخذول عندما قال: إن الإسلام أنتشر بالسيف، فبادر هؤلاء بالرد عليه بقولهم: إن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما بالدعوة والبيان، وإنما كان السيف للدفاع عن النفس وعن الديار فقط. ولا يخفى ما في هذا الكلام من مخالفة لما ذكره الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم عن غاية الجهاد، وما فيه أيضاً من مخالفة لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء وأمراء المسلمين من بعده في تسيير الجيوش لفتح الدنيا وإزالة الطواغيت الذين يصدون عن الدين الحق وحتى لا تكون فتنة أي شرك. ويكون الدين كله لله. يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (والسيف إنما جاء منفذاً للحجة مقوماً للمعاند، وحداً للِّجاح. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
دين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي. شعر:
فما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهفٍ
يقيم ضباه أَخْدَعَيْ كل مائلِ
فهذا شفاء الداء من كل عاقل،
وهذا دواء الداء من كل جاهلِ (3)
ويقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة؛ لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة؛ ومن ثَمَّ يقوم المنافحون ـ المهزومون ـ عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام، فيلجؤون إلى تلمس المبررات الدفاعية، ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
والمهزومون روحياً وعقلياً حين يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبِّد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله، ومن أجل هذا التخليط ـ وقبل ذلك من أجل الهزيمة ـ يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: «الحرب الدفاعية» . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة «الإسلام» ذاته، ودوره في هذه الارض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات.
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد ـ وذلك بإعلان ألوهية الله وحده ـ سبحانه ـ وربوبيته للعالمين.
تُرى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ قد أَمِنُوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدافعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية؟ إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير «الإنسان» نوع الإنسان، في «الأرض» ملء الأرض، ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يُخَلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات. فهنا: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من الأغلال» (?) .
ولقد وقفت على مقال مسدد في موقع (المختصر) أحسب ان صاحبه وُفِّق لبيان الحق في هذه المسالة ومن باب الفائدة أنقله مختصراً:
«إنَّ الإسلام يحتاج اليوم إلى من يقدمه للناس كما هو بِعزَّة ووضوح، نعم! بحكمة، ولكن دون تحريف أو انهزام. والذي أعتقده أنَّ الفرصة هذه الأيام سانحة لمثل هذا التقديم، فلا ينبغي تضييعها. والإسلام ليس ضعيفاً كي نضعه في قفص الاتهام، ثم نجهد في الدفاع عنه لإخراجه منه.
وهكذا أوقعونا في الفخ فقالوا: إنَّ إسلامكم انتشر بالسيف، ودينكم دين إرهاب، وإنَّ نبيكم لم يأتِ إلا بالدمار للعالم! وأنتم معشرَ المسلمين تحبون الدماء. فقام المخلصون، وهم إما جهلة، وهم منهزمون، وإما يريدون تجميل الإسلام إلى أن يفتح الله، وإما ـ وللإنصاف ـ مجتهدون، يَردون: كَلاَّ ديننا لم ينتشر بالسيف، انظروا إلى شرق آسيا لم يدخله الإسلام إلا عن طريق التجار، وكَلاَّ نحن لسنا إرهابيين، نحن ألطف مَن خلَقَ الله! ونبينا نبي الرحمة، حتى الحيوانات لم تهملها رحمته. أما عن حبنا للدماء فإشاعات مغرضة والله!
ألا دعونا مما قاله رئيس الفاتيكان وأجداده وأبناؤه، وقولوا لنا: ماذا قال الله ـ سبحانه ـ وماذا قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ دعونا من فقه الأزمة هذا الذي يقودكم وخذونا إلى فقه الرشد الذي دلَّنا اللهُ عليه ورسولُه، وحمله الصحابةُ ومن بعدهم من كبار الأمة وفقهائها وعليه ساروا حتى وهم في أصعب حالاتهم أيام الصليبيين والتتار، ذلك أنَّ الهزيمة لا تقاس بـ: (كم احتُلَّ من أشبار) وإنما بـ: (كم احتُلَّ من قلوب) ؟
قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]
وقد بينت الآية القاعدة التي يقوم عليها الإسلام، وهي الكتاب، والقوة. وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «قِوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر» . لقد جاء الإسلام معلناً للحق، ومؤيداً للحق في الوقت نفسه؛ وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لأن الحق لا قوة له، ولذلك أمر الله المسلمين بالإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] . أمر بذلك؛ لأنه لا يوجد مبدأ دون قوة، وسواء كان هذا المبدأ حقاً أم باطلاً، أرضياً أم سماوياً فلا بد له من قوة تحميه.
الإسلام دين السيف؛ لأنه جاء لقيادة البشرية نحو خيرها، فمن حقها أن تَبْلُغَها الدعوةُ، ولا يمكن هذا إلا بتحطيم الأنظمة التي تحول بين الناس وبين أن يسمعوا كلمة الله. والإسلام دين السيف لمنع الفتنة التي يقترفها المفسدون في الأرض، وليكون الدين كله لله «لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض» . قال ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]
لقد آن للمسلمين أن يتحولوا إلى موقف الهجوم بدلاً من موقف الدفاع الذي لصقوا به دهراً طويلاً، وليقولوا للعالمين: إذا كان الإرهاب لحفظ الحق، فنحن إرهابيون؛ ذلك أن الإرهاب ليس وصفاً مطلقاً؛ فقد يكون خيراً، وقد يكون شراً؛ كالقتل: منه ما هو شر، ومنه ما هو خير؛ فقتل النفس البريئة شر، وقتل القاتل خير، وهكذا ...
إن من يتهمنا بالإرهاب هم آخر من يحق لهم الكلام عنه؛ فلسنا نحن الذين استعمرنا العالم في القرون الوسطى، وما أنهكنا الشعوب وسرقنا خيراتها، ولسنا نحن الذين اصطحبنا رجال الدين ليخدعوا الشعوب باسم الرب، ولسنا نحن الذين أشعلنا أقذر حربين في قرن واحد أكلتا ملايين البشر، ومحقتا خيرات الدنيا ... والقائمة تطول» (?) ا. هـ.
«هذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، إنما يقفون به دائماً موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً، ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله، والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به، والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه؛ فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن يطارده المؤمنون الذين أختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان؛ فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله.
جاهد الإسلام أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم، وقرر ذلك المبدأ العظيم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم، وإذا كان المؤمن مأذون في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أوْلى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه.
وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة ـ بعد تقرير حرية العقيدة ـ فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة؛ جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها؛ فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا إكراه في الدين، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتفتن المهتدين أيضاً، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان، وحرية الدعاة. وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين.
وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه؛ وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها» (2) .
وقد يستغرب القارئ هذا الاستطراد في هذه المسألة، ولكن هذا الاستغراب يزول إذا نظرنا إلى ضخامة هذا التلبيس والتضليل الذي تتعرض له ثوابت هذا الدين وشعائره. فعندما ندرك خطورة هذا التبديل في دين الله ـ عز وجل ـ فإنه لا يستكثر الكلام في إزالة هذا اللبس وبيان الحق للناس. بل إن الأمر يستحق بسطاً وتفصيلاً أكثر من ذلك، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. والله ـ سبحانه ـ الموفق والمعين والمسدد.
وفي ختام هذه المقالة أقول ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من كتابه (هداية الحيارى) :
«فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، يؤمنون ويعدلون، ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون ولكن لا يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164] .
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة) .