جمال الحوشبي
«أشهد بالله إنه لَلنَّبيُّ الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ براكب الحمار كبشارة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ براكب الجمل، وأن العِيان ليس بأشفى من الخبر، ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظِرْني حتى أكثّر الأعوان، وأُليِّن القلوب» (?) .
ها نحن نقلّب صفحاتٍ رائعة من سِفْر الولاية في تاريخ النبوات لنشهد صوراً من التقارب والتراحم بين أنبياء الله تعالى؛ وبخاصة الثلاثة العظماء من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين ترسخت في التاريخ جذور دعواتهم، وامتدت لتؤثر على الأحداث العالمية إلى قيام الساعة. ومن العجب أن تتكرر المشاهد على نسق سواء في حياة هؤلاء الأنبياء الثلاثة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فما بين آلام الوحدة واليُتْم، والتغرب عن الدار، والهجرة فراراً من العدو، إلى النهايات الأليمة على أرض التيه، والرفع إلى السماء من جوار بيت لحم، وأخيراً الاحتفاء بالنهاية المشرقة السعيدة التي رفرفت أعلامها من جوار البيت الحرام.
ولكم أن تتأملوا ذلك لتجدوا أن الرسول المكي الكريم الذي خرج من بلده مهاجراً إلى يثرب يشبه إلى حد كبير الرسول الإسرائيلي الكريم الذي خرج من مصر يريد مدين، وأنه حين انزوى في غار حراء يعبد ربه كأنه ذلك الذي قصد جبل سيناء ليناجي ربه. ثم تأمل في مسير عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليرقى جبل الزيتون ويلقي موعظته الأولى وهو ينادي بني إسرائيل؛ ألم يكن يشبه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتقى جبل الصفا لينادي معشر قريش؟ وهذا النبي العربي الذي قاتل مشركي العرب في بدر وحُنين والأحزاب وتبوك أشبه ما يكون بموسى الذي قاتل المؤابيين والعمونيين والآموريين.
إنك حين ترى محمداً حبيب الله في فناء المسجد يقضي بين الناس بالحق ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين كأنك ترى موسى كليم الله وهو يجاهد أعداءه ويقاتل الذين يعبدون الأوثان. وحين تلمح محمداً -صلى الله عليه وسلم- يعبد ربه ويتضرع إليه في خلوة عن الناس داخل حجرة مظلمة منفردة، أو يناجيه في جوف مغارة منعزلة على قمة جبل بعيد وقد أرخى الليل سدوله فكأنك ترى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد خلا بنفسه يوحد الله ـ تعالى ـ ويناجيه بالعبودية له. فسبحان الذي جمع بين هؤلاء الأنبياء الثلاثة ورفع منزلتهم ثم أشركهم في القَسَم الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 1 ـ 3] .
ومن بين سائر الطرق، ظل الطريق الشامي من أرض زمزم مَعْلَماً بارزاً في تاريخ النبوات وصفحاته الخالدة شاهداً على سفر كريم من أسفار الولاية بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
ولنوغل في أعماق التاريخ لنصل إلى المنابع الأولى لروافد تلك الولاية.
\ سر الحياة:
أطل التاريخ من نافذته الأولى على أكمة جرداء في أرض الحجاز تحيط بها صحراء قاحلة لا ساكن فيها ولا أنيس، وصفير الرياح الحارقة تحت وهج الشمس لم يكن يقطّعها إلا بكاء طفل رضيع بالقرب من صخرة يكاد ظلها ينحسر عنه.
لم يكن ثمة حياة في الجوار ولا سبب من أسباب النجاة يمكن أن يتعلق به هذا الصغير؛ فهناك قِربَة ملقاة نفد منها الماء، وعلى القرب جراب خاوٍ كانت فيه بقايا من زاد. في تلك الساعة يكاد الستار يُسدَل على نهاية أليمة، بعد أن بدأ الغلام يتلبط وكأنه يصارع سكرات الموت. لم يغيِّر سكونَ المشهد إلا خيال امرأة أنهكها التعب أقبلت من بعيد صوب الغلام. وما إن دنت منه حتى ضمته إلى صدرها، وسريعاً ما تعلق بها هو الآخر.
لقد كانت أمه، وهي منذ فارقها والده من هذا الوادي المقفر ـ بأمر الله تعالى ـ لم تزل تتردد على صغيرها لتتعلق بخيط من الأمل بعد أن دب إليها اليأس من وجود سبب للحياة في ذلك المكان. غير أنها كانت واثقة بالفرج، ولما لم تطق مشاهدة صغيرها وهو يصارع الموت عادت للبحث من جديد، تعلو رابية لتنظر منها إلى الأفق، ثم تجتازها سعياً نحو رابية أخرى. وتظل تجري، لا تدري ماذا تصنع، والسكون الرهيب لا يقطعه إلا صراخ الرضيع وهو يموت موتاً بطيئاً. ولو أُذِنَ لها بالحديث في تلك الساعة العصيبة لقالت: «يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً» .
لكنَّ أُذُنَ التاريخ تلتقط الدعوة ذاتها من مكان آخر على لسان امرأة في أرض بعيدة ... وها هو التاريخ يطل من نافذته الأخرى هذه المرة على ربوة خضراء مخصبة من أرض الشام، يتدفق حولها نهر جار، وعلى الرابية نخلة باسقة، وتحتها أم شابة تصارع آلام الوضع.
وها هو المستقبل يطوى مخلفاً وراءه ما حدث هناك ... ثم يتوقف مع ذلك اللقاء الخالد في الليلة الشريفة بين النبي العربي الخاتم من ذرية الرضيع الذي أدركه العطش في صحراء الحجاز، والنبي الإسرائيلي الخاتم الذي وضعته الأم الصالحة على تلك الرابية في بيت المقدس. ومن ذلك الوادي الحجازي الموحش يتدفق ماء الحياة فتأوي الطيور وتنمو الأشجار، ويستوطن المسافرون، وتأنس تلك الأم المباركة، وتعلو منائر الإيمان، ويرتفع الأذان بالتوحيد. ومن على تلك الرابية الشامية تعود الحياة إلى القلوب الشاردة، ويتجدد تاريخ النبوات الطويل، وترتفع منائر التوحيد، ويتنزل وحي السماء من جديد.
\ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبشر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:
عندما نقلب صفحة من سفر الولاية بين هذين النبيين الكريمين نجد أن بشارة عيسى بظهور محمد في آخر الزمان لا تفوقها إلا بشارة محمد بعودة عيسى في آخر الزمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فقد وصف كل منهما أخاه لأصحابه وصفاً يزيل عنهم الجهل به إذا ظهر؛ فعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحدّث الحواريين عن صفات (أحمد) حتى كأنهم يرونه رأي العين. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6] ، وها هو يرفع صوته ويطوف بالناس في أرض الخليل، يعلمهم في مجالس وعظه الكثيرة -صلى الله عليه وسلم-، ويبشرهم بنبي آخر الزمان الذي يمجد الرب وينشر رسالته: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد» (لوقا 2/14) .
«اقترب ملكوت السماء» . «وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر من بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين» (أشعيا 21/13) . «أنا أعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس» (إنجيل مَتَّى 3/11) .
«ظهر القُدُس على جبال فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد» (هداية الحيارى ص 68) . «سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطانه على ظهره، واسمه أحمد» (أشعيا باب 42) .
ولأن تلك البشارة كانت أشد وضوحاً من الشمس في اليوم الصائف فقد تناقل الرهبان أخبار نبي آخر الزمان، واستخرجوا علاماته الكبرى، من ظهور نجمة في السماء، وعلامات كونية تحدث يوم ولادته، وصفة خاتم النبوة بين كتفيه، والمكان الذي سيولد فيه، والغار الذي سيتعبد فيه، والدار التي يهاجر إليها، وأنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة.
كما تواردت أخبار انتصاره على أعدائه في معركة فاصلة، وفتحه لـ (فاران) ، وتحطيمه الأصنام. وفي هذه البشارات حديث عن بعض معالم الصلاة التي يأمر بها أمته، وأنها تؤدَّى بطريقة الاصطفاف، وحديث عن قبلته التي سيتوجه إليها، وإحياؤه لسُنَّة الختان، واكتمال دينه قبل موته، واتساع ملكه ليصل إلى بيت المقدس. وفي تلك البشارات حديث آخر جميل عن صفات أمته وصفات البلدة التي سيولد فيها، وسيفتحها، وأن الله سوف يحفظها من كل جبار بعد أن حرّم دخولها على العُمْيِ الذين لا يبصرون.
ومن عجيب ما ورد في صفاتها الواضحة: «تكون هناك سكة، وطريق يقال لها الطريق المقدس، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم ـ أي المؤمنين ـ. من سلك في الطريق لا يضل، حتى الجهال. لا يكون هناك أسد أو وحش مفترس يصعد إليها، لا يوجد هناك، بل يسلك المفديون فيها» (سفر إشعيا 35/1ـ 9) .
هذه هي مكة التي وردت البشارة بها، بلد الله العظيم التي يسلك فيها أهل الإيمان والطهر، ويُذاد عنها أهل الفجور والكفر. وفي يوم النحر الأكبر يعمرها الحجاج ويذبحون ويفْدون لله تعالى.
وأنت ترى أنها صفات واضحة لا لبس فيها، ظل يتوارثها علماء بني إسرائيل واحداً تلو الآخر ... وأسلم بسبب التحقق منها خلق كثير من النصارى، ويكفي أن تَقرأ في قصة الغلام الفارسي الباحث عن الحقيقة لتجد التطبيق العملي لهذه الولاية في تلك النفحة المباركة التي أوصلت سلمان ـ رضي الله عنه ـ من أرض فارس إلى الأرض المباركة ذات النخل والحرتين التي هام بها المؤمنون من أهل الكتاب وجداً وشوقاً للقاء النبي الأمين، وتقبيل قدميه، والبكاء الحار بين يديه -صلى الله عليه وسلم-، كما فعل سلمان ـ رضي الله عنه ـ حين تجلت ساعة الحقيقة أمام عينيه.
لقد بلغت هذه البشارات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- مبلغ التواتر عند بني إسرائيل حتى إن هجرات اليهود المتعاقبة من أرض الشام إلى جزيرة العرب اكتملت تماماً قبيل ميلاده -صلى الله عليه وسلم-؛ ترقباً لظهوره؛ فقد كانت البشارات به تؤكد أن مهاجره سيكون إلى أرض ذات نخل بين حرتين. ولذا استوطن نفر من القادمين اليهود أرض خيبر لكثرة مائها ونخلها، أما الكثرة الكاثرة منهم فاتجهوا صوب يثرب؛ لأنها كانت الأقرب لذلك الوصف في النبوءات القديمة. ويكفي لتأكيد هذه الولاية بين عيسى ومحمد ـ عليهما السلام ـ أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك؟ قال: «نعم! أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى» (رواه الإمام أحمد) .
ولقد كنت أتساءل: لماذا لم تحدث هجرة مماثلة للنصارى، مع أن بشارة عيسى بمحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كانت الأظهر، ومعرفة علماء النصارى بنبي آخر الزمان كانت الأشهر؟ والإجابة عن هذا السؤال تطول، ولها مكان آخر؛ لأنها لا تنفك عن تاريخ دخول النصرانية واليهودية إلى جزيرة العرب، والصراع المرير الذي كان يدور بينهما على النفوذ الذي ارتبط دائماً بتطلع النصارى إلى اكتساح بلدان العالم، وتطلع اليهود إلى ظهور المنقذ الذي يتقوّون به على خصومهم من النصارى والعرب معاً، وهي العقدة التي لا يزال اليهود يتحركون من خلالها حتى الآن. من هنا كان اليهود الأسرع إلى نبي آخر الزمان من النصارى؛ حتى إنهم قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل كانوا يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين، ويقولون لهم: سيُبعَث نبي آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. غير أنه لما كان الباعث لليهود على الانضمام لنبي آخر الزمان هو الظلم والرغبة في القهر والسيطرة لا الإيمان والانقياد لله ـ تعالى ـ حرمهم الله ـ تعالى ـ الانتفاع برسالته أو التشرف بالانتساب إليه.
ومن عجيب أمر الهداية أن الله ـ تعالى ـ نفع أولئك المشركين الذين كان يهددهم اليهود بتلك النبوءة بينما حرمها اليهود أنفسهم؛ ذلك أن ستة من أهل يثرب ـ كلهم من الخزرج ـ وفدوا موسم الحج في سنةً 11 من النبوة، ورأوا رجلاً وضيئاً من أهل مكة يعرض نفسه على القبائل لينصروه حتى يُبَلّغَ رسالة ربه، فلما سمعوه التفت بعضهم إلى بعض، وأخذوا يتخافتون بينهم ويستعيدون نبوءة اليهود؛ فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصوت أخذ يعدو إليهم حتى لحقهم وقال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: من موالي اليهود؟ أي ـ من حلفائهم ـ قالوا: نعم! قال: ألا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى! فجلسوا، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يُعرّفهم ربهم، ويتلو عليهم القرآن، ثم دعاهم إلى الله ـ تعالى ـ فقالوا لبعضهم: تعلمون واللهِ إنه لَلنبيُّ الذي توعّدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه. فأسرعوا كلهم إلى الإسلام، ثم وعدوه بالدعوة إلى دينه في قومهم، وتواعدوا معه اللقاء في المكان ذاته من العام القادم.
وهكذا فشا الإسلام في دور المدينة كلها، عدا دور اليهود الذين رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم وصوله المدينة وعرفوه، ثم وقفوا منه غير الموقف الذي كانوا يتباهون به من قبل. عن صفية بنت حيي ابن أخطب أنها قالت: «كنت أحبَّ ولدِ أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف قالت: غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مُغلِسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّيْن كسلانَيْن ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع؛ فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟! قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم! قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللهِ ما بقيت. (وفاء الوفاء: 269) .
وقد ذم الله ـ تعالى ـ تناقضهم ذاك، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 89 ـ 90] .
غير أن الأعجب من كفران اليهود بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهم أتباع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يزعمون ـ ما حدث من كفران النصارى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهم أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام فيما يزعمون ـ ومن هنا تصدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتلك الانتماءات الكاذبة وقال بكل وضوح إنه أوْلى بإخوانه الأنبياء من أتباعهم، فقال: «نحن أوْلى بموسى منهم» .
وقال: «أنا أوْلى الناس بعيسى بن مريم» بعد أن شهد الله ـ تعالى ـ له بأنه كذلك أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم -صلى الله عليه وسلم-. فاليهود مقصرون عن الحق؛ لأنهم يعلمون ولا يعملون، والنصارى غالون في الحق؛ لأنهم يعملون بلا علم، ويجتهدون في العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: مَنْ فسد مِن علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى.
وبالدعوة إلى ما كان عليه أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من التوحيد ظل محمد -صلى الله عليه وسلم- ينادي من ضل من اليهود والنصارى، ومن هؤلاء راهب النصارى في شرق الجزيرة العربية عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ حيث قال يروي قصة مقدمه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتيت رسول -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب؛ فلما دُفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: «إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي» . قال: فقام، فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة، فأطال الوقوف حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما يفِرُّك؟ أيفرّك أن تقول: لا إله إلا الله؟! فهل تعلمُ مِنْ إله سوى الله؟» قال: قلت: لا. ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفرُّ أن تقول: الله أكبر؟! وهل تعلم أن شيئاً أكبر من الله؟» . قال: قلت: لا. قال: «فإن اليهود مغضوبٌ عليهم، وإن النصارى ضُلاّل» . قال: قلت: فإني حنيفٌ مسلم. فرأيت وجهه ينبسط فرحاً. (رواه الترمذي وأحمد) .
عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتبرأ من الكافرين بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:
لا عجب أن نجد القلة الباقية من النصارى المؤمنين الذين ثبتوا على دينهم، مضطهدين منبوذين غرباء طوال تلك الفترة الفاصلة بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام؛ فقد اعتزلوا قومهم، واتخذوا مساكنهم في كهوف الجبال بعد أن تسلل شياطين اليهود بمكر إلى النصرانية وتحكموا بها وحرفوا عقيدتها حتى أصبحت تناقض عقيدة التوحيد الصافية التي جاء بها عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ منذ اليوم الأول لولادته. ولم يتوقف اليهود عند ذلك بل دفعهم الحقد على أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن حاربوا المؤمنين الصادقين به وأتلفوا كتبهم، ولاحقوهم في كل مكان. ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- يصف حال العالم قبل بعثته فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (رواه مسلم) . وقد مات هؤلاء ـ أو أكثرهم ـ قبيل مبعثه -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى الرغم من أن النصارى ـ حتى الآن ـ أقرب إلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من اليهود؛ إلا أن الحقيقة الغائبة عن كثير من الكافرين منهم تظهر في زيف الدعاوى الإيمانية التي يبررون بها ذلك الكفر، جاهلين أن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد أخبر الحواريين معه عن الكافرين به في حياته من اليهود الذين وقفوا ضده وأرادوا قتله، كما أخبرهم عن الكافرين به، بعد رفعه، من النصارى الذين وقفوا ضد النبي الخاتم الذي بشر به وقاتلوه، وظاهروا المشركين واليهود عليه. ومن هنا يقف التاريخ شاهداً على قلة المؤمنين بعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما بُعث النبي الخاتم الذي بشر به، عليه الصلاة والسلام؛ حيث لم يهبَّ أحد من النصارى لنصرته عندما كان يصارع المشركين واليهود في جزيرة العرب، وحين وقفت ضده البشرية؛ لا لشيء إلا لأنه جاء مبشراً بما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وظل يمجد الرب العظيم الذي كانوا يمجدونه من قبل.
لقد خاب الأدعياء من أتباع موسى وعيسى وانطفأ ذكرهم حين لم يهبوا لنصرة (الفاراقليط) (?) الذي سعدت به الأرض بعد شقائها، وعَزّ به أعراب الجزيرة الذين أصابتهم بركة الرب العظيم لما آمنوا برسالته، ونصروا دينه، وفَدَوْه بدمائهم وأموالهم، واستحقوا نصر الله ـ تعالى ـ وتأييده على أعدائهم من المشركين والمجوس ومن اليهود والنصارى أيضاً.
ولا أعلم نصرانياً في زمن الفترة نال شرف النية الصالحة بنصر النبي الخاتم إلا ما كان من ورقة بن نوفل بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ رضي الله عنها ـ فقد خرج من مكة إلى الشام باحثاً عن بقايا دين إبراهيم هناك؛ فلما وقف على النصرانية تنصر، وكان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ويترقب ظهور نبي آخر الزمان؛ فلما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ورقة شيخاً كبيراً قد عمي؛ فلما رجع محمد -صلى الله عليه وسلم- من ليلة التكريم العظيم على سفح حراء، ترجف بوادره خوفاً مما رأى وسمع، ذهبت به خديجة إلى ورقة وقالت له: أي عم! اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رآه. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى -صلى الله عليه وسلم-، يا ليتني فيها جذعاً ـ أي شاباً ـ. يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟» . قال ورقة: نعم! لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ولم يفضُل ورقة في بحثه عن الحق وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا زيد بن عمرو بن نفيل ـ رحمه الله ـ فإن له قصة في البحث عن الحقيقة لا تقل إثارة عن قصة سلمان، رضي الله عنه؛ ذلك أنه حين بلغ الشام يلتمس دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقف على اليهودية والنصرانية لكنه أعرض عنهما ولم يجد فيهما ما يطمئن إليه، فظل يضرب في الآفاق بحثاً عن ملة إبراهيم التي لم يطرأ عليها التحريف حتى ذُكر له في الشام راهب عنده علم من الكتاب، فأتاه فقص عليه أمره، فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا مكة! قال زيد: نعم! ذلك ما أبغي. فقال: إنك تطلب ديناً لا يوجد اليوم، ولكن الحقْ ببلدك؛ فإن الله يُبْعَثُ من قومك من يجدد دين إبراهيم؛ فإذا أدركته فالتزمه. فقفل زيد راجعاً إلى مكة يحث الخطى التماساً للنبي الموعود الذي بُعث بدين الحق؛ وبينما كان زيد في بعض الطريق. وقُبيل وصوله إلى مكة خرجت عليه جماعة من الأعراب، فأخذت ما معه وقتلته قبل أن تكتحل عيناه برؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. غير أنه رفع رأسه إلى السماء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ثم قال: اللهم إن كنتَ حرمتني من هذا الخير فلا تحرم منه ابني سعيداً. وبالفعل سَعِد ابنه بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرته.
وهكذا كانت الشام قديماً بالنسبة لأهل مكة، تماماً كما كانت مكة لبلاد العرب؛ إذ كان سائر العرب متشبهين بأهلها؛ لأن فيها بيت الله وفيها الحج، وما زالوا معظمين لها منذ زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى ملته، من التوحيد والحنيفية السمحة.
ولما آلت ولاية البيت إلى خزاعة ـ قبل قريش ـ سافر زعيمها عمرو بن لحي إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقاً؛ لأن الشام كانت محل الرسل والكتب، ثم حمل معه أصناماً من الشام ورجع بها إلى مكة، ونصب (هُبَل) وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة، فتبعهم أهل الحجاز على ذلك، ظناً أنه الحق، وهكذا فشا الشرك في جزيرة العرب وظهر إلى أن بعث الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت قبلته أول الأمر صوب بيت المقدس ـ معدن النبوات، ومحل الرسالات ـ ثم تحولت بعدُ إلى مكة حيث نشأت الحنيفية، وتتابع النداء بالتوحيد للمؤمنين من أقاصي الأرض، ومن هناك ظهرت أعلام حضارة جديدة لأمة مؤمنة مباركة وليدة متصلة بموكب النبوات القديم، وخاتمة له. وأبرز ما نجد في تاريخها ذلك النصر الكبير على أعدائها والنفوذ الذي تحقق لها في ميزان القوى.
والحديثُ عن نصر الله ـ تعالى ـ لهذا النبي الكريم والمؤمنين الجدد الذين اصطفّوا معه في موكب النبوة العظيم، يجاهدون في سبيل الله ويعظمون جميع أنبيائه وكتبه ورسله حديث طويل لا غنى عن الإشارة إليه.
\ كلمة الله هي العليا:
في أواخر السنة السادسة من الهجرة أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الملوك ويدعوهم إلى الإسلام؛ فقد أرسل إلى النجاشي عظيم الحبشة، وما إن وصل النجاشيَّ خطابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى وضعه على عينيه، ونزل عن كرسيه ثم أسلم على يد جعفر ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي كان هناك مع المهاجرين. كما راسل ملك الإسكندرية؛ فما كان منه إلا أن أكرم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظه وعظّمه، ولكنه لم يسلم وإنما أرسل يقول: كنت أعتقد بأن نبياً بقي، وكنت أظنه يخرج من الشام، ثم أرسل بهدية ثمينة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وبعث -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى ملكَ فارس، فلما وصله كتابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مزّقه، فدعا عليه -صلى الله عليه وسلم- وقال: «مزّقَ اللهُ مُلْكه» .
وأما هرقل عظيم الروم فقد تأكد من صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحقق من نبوته، وكاد أن يسلم، لكنه لم يفعل واكتفى بإكرام سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعث معه مالاً وكسوة هدية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
غير أن الشرارة الحقيقية في مسلسل الصراع مع النصارى في أرض الشام كانت حين اعترض شرحبيلُ بن عمرو الغساني ـ عامل قيصر على البلقاء ـ سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتله ومعه رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيم بصرى. فتأمل كيف سقطت أعظم إمبراطوريتين في ذلك الزمان بسبب هاتين الرسالتين الكريمتين بعد أن كسر الله ـ تعالى ـ شوكة المشركين بالفتح الأعظم لمكة في السنة الثامنة للهجرة، وما ذاك إلا لمكانة هذا النبي الكريم عند ربه، ونصره له.
أما سقوط الإمبراطورية الفارسية المجوسية في الشرق فقد حدث بعد أقل من سبع سنوات من تمزيق مَلِكها خطابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهاوت قلاعها العتيدة في معركة القادسية الفاصلة على يد سعد بن أبي وقاص في السنة 15 هـ. ثم انساح الإسلام في الشرق حتى وصل مشارف الصين وأطراف موسكو بعد معركة نهاوند من السنة 21هـ على يد النعمان بن مقرن، ولذا سميت نهاوند بـ (فتح الفتوح) .
أما سقوط الإمبراطورية الرومانية فقد حدث خلال حقبة زمنية ليست بالقصيرة؛ ففي سنة (8 هـ) عُقدت الألوية لتأديب قَتَلة الحارث الأزدي سفيرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيم بصرى، ولم يكن الروم معنيين بهذه المعركة بين المسلمين والخونة من عرب الشمال، وبدلاً من تدخُّل الروم للاعتذار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما فعل عاملهم الغساني قرروا المخاطرة وجازفوا بدعم ذلك الخائن بكل قوة؛ وإذا بجيش المسلمين المتواضع الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف يلتقي وجهاً لوجه مع جيش قتالي منظم قوامه مائتا ألف مقاتل، نصفه من الروم، والنصف الآخر من قبائل العرب الموالية لهم في الشام. وبعد مقتل قادة المسلمين الثلاثة تمكن خالد بن الوليد من المناورة واستنقذ الجيش الصغير من مَهْلَكةٍ محقّقة.
بعد هذه المعركة غير المتكافئة بعام واحد استعد الروم وحلفاؤهم للزحف على جزيرة العرب لاكتساح دولة الإسلام الوليدة، وحشدوا أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض في ذلك الوقت، ثم زحفوا إلى البلقاء وهي من أعمال دمشق. فلما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهّز على الفور جيشاً ضخماً وتحرك به صوب تبوك على أطرف الجزيرة من جهة الشام، ثم عسكر بها أياماً حتى اندحر جيش الروم، ولم يحدث قتال نتيجة لذلك.
بعد سنة وسبعة أشهر من تلك المناورة الضخمة جهّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وهو ابن القائد الأول في معركة مؤتة، وأمره بأن يمتطي فرس والده وأن يوطِئَ خيلَه (البلقاء) التي وقف عندها زحف الروم الأخير، ثم أمره بأن يتجاوز بسراياه حتى يصل تخوم (الداروان) من أرض فلسطين التي كانت تمثل أطراف مملكة الروم، في رسالة واضحة لهرقل نفسه هذه المرة. ففعل أسامة، ثم عاد مظفراً لم يواجه حرباً. ولما تولى الخلافة أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كان هو الأقدر على فهم تلك الرسالة النبوية والعمل بها، فأرسل أربعة جيوش قوية لفتح بلاد الشام. وفي شهر رجب من السنة (13 هـ) ـ أي بعد سنتين وأربعة أشهر من الرسالة العملية التي أوصلها جيش أسامة بن زيد إلى الروم، وخمس سنوات فقط من أول تلاحم عسكري غير متكافئ في مؤتة ـ حدثت معركة اليرموك الخالدة بقيادة خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وهزم الله ـ تعالى ـ الروم وحلفاءهم هزيمة منكرة، وفي السنة 15هـ بعد معركة أجنادين الفاصلة ارتحل هرقل عن بلاد الشام كلها متجهاً إلى القسطنطينية وهو يقول: عليكِ السلام يا سوريةُ، سلاماً لا لقاء بعده.
غير أن التاريخ لم يقف هناك، وكذلك الزحف الإسلامي؛ ففي عام (857 هـ) ـ أي بعد (851) سنة من مقتل سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غدراً ـ هاهي نافذة التاريخ تطل مرة أخرى، لكن هذه المرة على ضفاف (بحر مرمرة) حيث كان الزحف الكبير يتقدم باتجاه القسطنطينية خلف قائد عظيم آخر من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هو محمد الفاتح، في معركة لا تقل أهمية عن تلك التي أدارها من قبلُ خالد ـ رضي الله عنه ـ وأخرج بعدها هرقل عن أرض الشام. وبعد الحصار الشديد تمكن السلطان العثماني (محمد) من فتح القسطنطينية، وكسر شوكة الروم الصليبيين في قارة آسيا كلها ودحرهم باتجاه القارة العجوز. وبهذا تحققت بشارة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في انتصارات أحمد على من كفر به حين قال مبتهجاً: «يأتي من أقصى الأرض، تفرح البرية وسكانها يهللون على كل شَرَف، ويكبِّرون على كل رابية، لا يضعف ولا يُغلب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يُسمع في الأسواق صوته، ولا يُذل الصالحين، بل يقوّي الصدِّيقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يُطفأ، ولا يخضع، حتى تثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر، وإلى توراته ينقاد الناس» . (أشعيا 42/1باعتماد النص المحقق في كتاب: الإسلام والمسيحية 225/1) .
\ بشارة محمد بعيسى عليهما الصلاة والسلام:
بعد أن رفع الله ـ تعالى ـ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى السماء، وطهره من الكافرين الذين أرادوا قتله تفرق أصحابه شيعاً؛ فمنهم المؤمنون الذين اعتقدوا بنبوته وقالوا: هو عبد الله ورسوله، رفعه الله ـ تعالى ـ إليه. ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، واعتقد صلبه ليتحمل خطايا بني آدم. ومنهم من قال: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله ـ تعالى ـ مقالاتهم في القرآن، فأثنى على المؤمنين منهم ورد على الكافرين.
ومنذ ذلك اليوم والبقية المؤمنة من النصارى، ومن جاء بعدهم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتطلعون شوقاً إلى لقاء عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد نزوله، تماماً كما ازداد شوق المؤمنين من أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم- عند ظهوره. وكما بشّر عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بظهور محمد -صلى الله عليه وسلم- وذكر من علامات نبوته وآثاره المباركة على الأرض؛ فقد بشّر محمد -صلى الله عليه وسلم- كذلك بنزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذكر علاماته وكيفية نزوله من السماء، ومكان نزوله، والزمان الذي سينزل فيه، وأنه سيكون من آخر الليل قبيل السحر وجيش المسلمين مستعدون لقتال المسيح الدجال في أرض الشام. كما ذكر البركة التي ستحل على الأرض بعد نزوله عليه الصلاة والسلام.
وها هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول في مجلس من مجالس أصحابه: «أنا أوْلَى الناس بعيسى بن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل؛ فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان مُمصّران ـ أي ثيابه فيها صفرة لكن ليست بالكثيرة ـ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، فيُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمَنَةُ على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم. فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» . (رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة وإسناده حسن) .
وقد وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بركة ذلك الزمان الذي سيكون في عهد عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بوضوح فذكر أن الله ـ تعالى ـ يرسل مطراً لا يُكَنّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض وينظفها، ثم تُنبت الأرض ثمارها وتُخرج بركتها؛ حتى إن جمعاً من الناس تكفيهم الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في اللبن حتى إن البقرة الواحدة تكفي القبيلة من الناس، ويكثر المال ويعم الرخاء، ولا تبقى بين اثنين عداوة. قال -صلى الله عليه وسلم-: «لتذهَبَنَّ الشحناءُ والتباغضُ والتحاسدُ، وليُدْعَوَنَّ إلى المال فلا يقبله أحد» (رواه مسلم) .
وقال ذات يوم مخاطباً أصحابه: «من لقيه منكم فليقرئه مني السلام» . وفي رسالة واضحة للمؤمنين يخبر -صلى الله عليه وسلم- أن توقيت نزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما يكون في ساعة حرجة من ساعات الصراع بين الحق والباطل، وأنه سوف ينزل من السماء واضعاً يديه على جناحي مَلَكين حتى يهبط على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يدخل على المسلمين وقد صفُّوا للصلاة، فيصفُّ معهم ويأمرهم بأن يكملوا صلاتهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صَلِّ لنا. فيقول: لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء تكرمةَ الله هذه الأمة» . رواه مسلم.
فإذا استتب الأمن في الأرض، وظهر التوحيد، وآمن النصارى بالله ـ تعالى ـ رب موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعادت للشام نضرتها وبهجتها امتطى عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ دابته ويمم صوب مكة ملبياً. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! ليُهِلنّ ابن مريم بفج الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو ليثِّنينَّهما ـ أي يقرن بينهما ـ» رواه مسلم.
وهكذا يُسدَل الستار على سِفْر الولاية العظيم بين هذين النبيين الكريمين على الصعيد الطاهر الذي بُعث منه نبيُّ آخرِ الزمان عليه الصلاة والسلام.
مراجع للاستزادة:
ـ هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ـ ابن القيم.
ـ الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم ـ مصطفى العدوى.
ـ الرسالة المحمدية ـ سليمان الندوي.
ـ ما يقوله الكتاب المقدس عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ أحمد ديدات.
ـ الإسلام والمسيحية ـ مصطفى بكري.