د. عبد الكريم بكار
كثيراً ما يجفل وعيُنا من النقد والنقّاد، ونقف موقف الحذر من أولئك الذين يكشفون عن المفارقات المقلقة في حياتنا العامة، ولست أدري لماذا يحدث ذلك: هل لأن النقد يكسر إلْفنا للأوضاع السائدة، ويطالبنا ـ من ثم ـ بالتغيير؟ أو لأن النقد ينطوي على نوع من الإدانة لنا بسبب إبرازه للعيوب والأخطاء؟ أو لأن النقد يمنح صاحبه تفوّقاً فورياً على أقرانه، على حين أن التفكير البنائي يحتاج إلى فترة طويلة حتى تظهر ثماره، مما يدفعنا إلى الغيرة من النقّاد؟ أو أن هناك أسباباً أخرى لنفورنا من النقد وأهله؟ على كل حال؛ فإن الذي نعتقده هو أن الخدمة التي يقدِّمها التفكير النقدي على صعيد محاصرة الأخطاء والشرور لا تقدر بأيِّ ثمن. والذي أودُّ أن أنبِّه عليه في البداية هو أن النقد لا يعني: التركيز على السلبيات والمعائب والنواقص فحسب، كما قد يُتوهم، وإنما يعني: الكشف عن مساحات الجمال والإبداع في العمل أو النشاط، كما هو الشأن في النقد الأدبي، حيث إن الناقد لا يتحدث عن هفوات الشاعر أو الناثر فحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن الأفكار العظيمة في العمل الأدبي، وعن الصور البيانية الرائعة. وهذه بعض الملاحظات في مسألة التفكير النقدي:
1 ـ التفكير النقدي هو أرقى أنواع التفكير، وهو في الحقيقة أحد ألوان التفكير الإبداعي، وهو على درجة عالية من الأهمية على طريق التغيير والإصلاح. وأنا أدعو إلى التدرّب الشخصي عليه، كما أدعو إلى تدريب الناشئة على مهاراته؛ وإن كل واحد منا سيكون في إمكانه ممارسته إذا عرف قواعده وأصوله وصقل معارفه بالمَرَانة والمِرَاس.
لا شك أن التفكير النقدي متصل بما لدى المرء من قدرات ذهنية، لكن يمكن للمرء ـ إن لم يستطع أن يكون ناقداً من الطراز الرفيع ـ أن يباشر النقد عند المستوى العادي، كما يمكنه أن يقف الموقف الموضوعي ممن يمارسون النقد.
إننا حين نفكر ونخطط ونحلم، نقوم بكل ذلك على نحو طليق وسخيٍّ، لكن حين نأتي للتنفيذ نجد أننا مقيَّدون بقيود الزمان والمكان والإمكانات المتاحة، وأحياناً تتدخل رغباتنا وأهواؤنا وقصورنا التربوي، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى وجود مفارقة ـ كبيرة أو صغيرة ـ بين ما نقول ونطلب ونتمنى وبين ما هو موجود على أرض الواقع؛ وهذا هو الذي يجعل النقد شيئاً مشروعاً ومطلوباً. فالناقد الجيد الذي نحتاج إليه في كل مجالات الحياة، هو ذلك المفكِّر الذي يرى المفارقة أو المسافة الفاصلة بين ما هو كائن وبين ما يمكن أن يكون، أو ينبغي أن يكون؛ لأن هذه المسافة هي جماع العِلل والمشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة، إنها المسافة الفاصلة بين المرض والعافية والتدهور والازدهار، لكن لا بد من القول: إن رؤية الناقد للصورة التي ينبغي، أو يمكن أن نصير إليها هي رؤية اجتهادية ظنية، كما أن رؤيته للواقع تصدر عن قناعة شخصية ومن زاوية خاصة، فهي أيضاً اجتهادية، وينبني على هذا أن تكون الرّؤى النقدية عبارة عن رُؤى اجتهادية غير ملزمة، لكن الناقد يُضيء المناطق المظلمة في واقعنا ورُؤانا، ويثري الحلول المطروحة والاجتهادات المتوفرة، وهذا ليس بالشيء القليل.
2 ـ فطر الله ـ سبحانه ـ الصغار على حب التساؤل والتشوق إلى فهم كل ما يحيط بهم، وكأن ذلك يشكل الخطوة الأولى على طريق ممارسة (التفكير الناقد) لكن معظم الناس لا يتعلمون فنَّ طرح الأسئلة، ولا يملكون الخبرة والمعرفة الكافية لرؤية المفارقات والتقصيرات، ومن ثمّ فإنهم يألفون الواقع الرديء ويكابدون المشاقّ، دون أن يهتدوا إلى سبيل الخلاص! لنشجع أطفالنا وطلابنا على طرح الأسئلة المتنوعة، ولنحاول أن نصل معهم إلى أجوبة مقنعة وصحيحة قدر الإمكان؛ وقد قال أحد الحكماء: «قد منحني الله ـ تعالى ـ ستة رجال أقوياء يخدمونني، ويعلمونني كل شيء، وهم أصل كل ما أعرفه: (ماذا) ، و (كيف) ، و (متى) ، و (لماذا) ، و (أين) ، و (مَنْ) .
إن رجاله الذين يتعلم منهم هم هذه الأدوات الاستفهامية التي تحيط بأيِّ ظاهرة، وتوفر مدخلاً لتسليط نور الوعي على أيِّ قضية أو مشكلة.
إن الطرح المنظم للأسئلة حول قضية (تراجع الهمِّ الدعوي) ـ على سبيل المثال ـ سوف يساعدنا على زيادة الوعي بأبعاد هذه القضية: مظاهرها، حجمها، الأشخاص أو الفئات أو التيارات التي حدث لديها التراجع أكثر من غيرها، أسباب التراجع، علاج التراجع: مدّته، تكاليفه وأدواته، العقبات التي تواجهه ... إن التساؤل حول هذه الأمور سيساعدنا على فهم القضية وعلاجها، لكنه إلى جانب ذلك سوف يكشف عن شيء خطير؛ هو أن المعلومات الموثوقة والدقيقة التي في حوزتنا حول هذه المسألة هي شبه معدومة، وهذا يؤكد على أهمية جعل التساؤل أساساً في نقد أيِّ قضية من القضايا.
3 ـ يكون التفكير النقدي تفكيراً إبداعياً بامتياز حين يركِّز على إيجاد البدائل؛ والحقيقة أن من النادر أن نجد مفكِّراً ممتازاً ينقد ظاهرة من الظواهر، ويكشف عِللها الكامنة دون أن يكون في ذهنه بعض الأفكار حول ما ينبغي عمله وإحلاله محلّ الأشياء المعطوبة، فإذا وجدنا من ينقد ويجأر بالشكوى من سوء الأحوال في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم، ثم لم يقدِّم لنا أيَّ حلول أو علاجات أو وصفات إصلاحية، فهذا يعني أنه يقوم بعملية احتجاج مبهمة، ينفِّس فيها عمّا في صدره ليس أكثر. أفضل النقد هو ذلك الذي يتم في ظلال البناء، وإذا تباطأت حركة اليد، فلا بد أن تتباطأ حركة الفكر، فدعوتنا ـ إذاً ـ إلى شيئين: عمل يَتْبعه نقد، ونقد يَتْبعه تغيير وإصلاح. والله وليُّ التوفيق.