ناجي عبد العظيم محمد
دون سابق إنذار، علت عنان السماء طائرات العدو تُرسل حممها وتُسقط قذائفها؛ فتقتل وتحرق وتهدم، تدمر بوحشيتها المعهودة كل شيء، لا ترحم طفلاً أو أُماً أو شيخاً كبيراً، يُغطِّي سواد قلوبها وجه الأرض، تملأ الرعب في قلوب الأطفال؛ فتقتل برآتهم ليتلاشوا خلف جدار الخوف، انطفأت الأنوار بعدما استهدف العدو محطة لتوليد الكهرباء، أخذ يصرخ محمد (طفل الخامسة) في هلع شديد على أمه، التي لا تبعد عنه مسافة المترين، لتنتشله من بين عناكب الظلام ونعيق البوم، هرعت إليه أمه بلهفة شدية تحتضنه بين ذراعيها، وتحيطه بقلبها علّها تُهدّئ من روعه، وانتفاض جسمه، وبكائه الذي يُدمي قلبها، ويعتصر مراراة جوانحها وهي تقول له: «محمد، ما بك يا حبيبي؟! لا تخف، لا تخف، سينتهي كل شيء» ، وهي تراقب بسمعها، وشدة ضربات قلبها تتزايد من القصف، وتصاعد الأدخنة. ومحمد يظل يرتعش ويشهق، وكأنما سكيناً يقتطع قلبها، وهو يحكي بصوت شاهق من شدة البكاء: «ماما، أنا خائف، ضعي يدك على أذني، لا أريد أن أسمع هذه الأصوات فهي تُخيفني» ، فترد الأم: «لا تخف حبيبي! هيَّا لنأتي بأختك الرضيعة من داخل الغرفة» ، فيجيب محمد: «ماما، أنا خائف على بسمة أختي» ، والكلمات تعتصر قلب الأم: «لا تخف، لم يبقَ إلا القليل ويأتي النهار» ، محاولةً بذلك تهدئة ابنها رُغم وحشية القصف، أخذت الأم ابنيها محتضنة إياهما، ومتروية بهما في حائط من جدران المنزل، وقلبها يعتصر ألماً، وهي تتضرع إلى الله متعلقة القلب بعفوه ولطفه أن يرحم تلك الأبدان الصغيرة والقلوب الطاهرة، ما كادت الأم تنتبه من رجائها حتى تزلزل البيت بقذيفة من قذائف العدو، وصُراخ أبنائها يتعالى في مخيلتها دون وعي، ويمر وقت ليس بالقصير، ويقدر الله لهذه الأم أن تستعيد وعيها لتجد محمداً حيث تجده أشلاءً متناثرة؛ فتصعق من هول المصيبة، وتحمل رُفات ابنيها، وتهيم وسط القذائف بصرخاتها المدويّة: «قاتل الله المجرمين، قاتل الله الأعداء، قاتل الله الخونة» ، وطائرات العدو تصول في عنان السماء، والأم تصرخ: «افعلوا ما شئتم وما طاب لكم، صولوا وجولوا، احرقوا، هدِّموا، اقتلوا الأطفال والنساء، مزّقوا أجساد الصغار، لا تأخذكم بهم رأفة؛ فقد مات الشرف، ودُفنت الرجولة!! فلعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الظالمين، اللهم عاقب هؤلاء الخونة بما يستحقون، اللهم اجعلهم يحملون رُفات أبنائهم على أكفهم كما حملناه وهم لا يحركون ساكناً، اللهم أرنا في كل من خانك ولم ينتفض غيرةً لهؤلاء الصبية يوماً أسودَ، اللهم كما أدميت قلوبنا على هؤلاء الصغار فأرنا عجائب قدرتك في هؤلاء الكفرة، ربنا لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً، ربنا لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً» .
جثت الأم على ركبتيها، ودموعها تسبقها إلى الأرض، ووضعت رُفات ابنيها أمامها وهي تختنق من البكاء والصُراخ والحسرة: «من لي بعدكما؟ يا رب لا أستطيع العيش بدونهما، يا رب تقبلني معهما» ، وما هي إلا لحظات لتلقى الأم مصرعها إثر القصف المتزايد، وترقد الأم ـ التي نحسبها شهيدة ـ بجوار أشلاء ابنيها، لتلتقي أرواحهم ـ إن شاء الله ـ في جنان ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.