د. غازي الخطيب
إن أحداث أوربا الشرقية المتسارعة والتغييرات في المعسكر الشيوعي بشكل
عام، لهي خطوة إلى الأمام على طريق الصحوة الإسلامية وتحدٍ جديد في أفق
مستقبلها.
فهي خطوة إلى الأمام للأسباب التالية:
1 - ازدادت الحركة الإسلامية قرباً من جماهيرها. فللصحوة الإسلامية
طرفان:
الحركة الإسلامية رائدة صحوتها، والجماهير محققة أهدافها. فالحركة
الإسلامية في معزل عن الجماهير لا تستطيع أن تحقق آمالها. وكلما تعمق التفاعل
فيما بين طرفي الصحوة الإسلامية، ازدادت فعاليتها.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت الساحة الإسلامية مسرح تجارب
للتيارات غير الإسلامية، ولاقت الشيوعية ومشتقاتها بشكل خاص، رواجاً بين
عامة الناس، ممن جهل حقيقتها، بدعوى مناهضة الرأسمالية.
أما الحركة الإسلامية وغيرها من الأفراد والجماعات العالمة بحقائق الأمور،
فالشيوعية كانت مبدأ فاسداً منذ البداية ومفلساً منذ إنشاء دولتها في روسيا. فمن
المعلوم أن الشيوعية كان من المفروض أن تطبق في أعقاب فشل الرأسمالية،
وظروف روسيا آنئذ وحالياً هي أبعد ما تكون عن ذلك، وقد نجحت الحركة
الإسلامية في تغيير مفاهيم أفراد وقطاعات من الشعب عبر مناقشات السجون
وصفحات المجلات والكتب. أما عموم الناس، فقد استمرت خاضعة للتأثير الخادع
للدعايات الوهاجة والمغرضة للشيوعية ومشتقاتها.
وما يحصل الآن على الساحة الأوربية، أن تلك الشعوب استجابت لدواعي
فطرتها، ونبذت الشيوعية وراء ظهورها، وأعلنت إفلاس المبدأ من داخل ذاتها،
وانطبق عليها تشخيص عمرو بن العاص قبل أربعة عشر قرناً من الزمان في
تعقيب له على حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «تقوم الساعة والروم
أكثر الناس» الوارد في صحيح مسلم، قال: «لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً
أربع: إنهم لأحلمهم عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك» وعلى الساحة الإسلامية تساوي العالم بحقيقة الشيوعية والجاهل بها في الحكم
عليها، واتحدت المواقف منها بين الحركة الإسلامية والجماهير..
2 - وفرت الحركة الإسلامية جهوداً كانت تبذل في محاربة الاتجاهات
الشيوعية وكشف حقيقة ولاءاتها. فمن نتائج أحداث أوربا الشرقية أن عدم المبرر
لتوجيه الجهود لتوضيح حقيقة الشيوعية. فإذا كان المورد للسلعة قد أوقف إنتاجها،
فالأولى للمستهلك أن يوقف استيرادها، وإصرار المستهلك على ترويج الشيوعية
في ظل هذه الظروف، لهو استخفاف بالجماهير واستهزاء بها، وهذا الترويج لن
يدوم طويلاً لأنه مخالف لمنطق الأحداث.
كذلك انعدمت واجهة استخدمت لمحاربة الإسلام من خلفها، فالشيوعية
ومشتقاتها قد استخدمت كقناع من قبل الرأسمالية لتحجيم استجابة الجماهير للصحوة
الإسلامية. وكان على الحركة الإسلامية أن تكرس الجهود لا لنقد الشيوعية كمبدأ
فقط، وإنما لكشف حقيقة ولاء كثير من الاتجاهات أيضاً، أما الآن فقد سقط القناع
وأفلس المبدأ، ولم يبق إلا العداء السافر للصحوة الإسلامية.
3 - نقص عدد أعداء الإسلام من حملة المبادئ الهدامة والمناهضة له، فإن
سقوط الشيوعية لم يواكبه ظهور مبدأ جديد، بل تكريس لمبدأ حالي هو الرأسمالية،
فقد انتهت الحرب الباردة والتقى الشرق الشيوعي مع الغرب الرأسمالي، وليس لهما
من ماض مشترك يحنون إليه؛ بل ماضٍ يهربون منه، وكلما جاءت أمة لعنت
سابقتها، ومستقبلها يبنى على أنقاض ماضيها.
أما الحركة الإسلامية فلها في ماضيها ما يضيء لها المستقبل، وفي عقيدتها
ما يرشدها إلى الطريق المستقيم. فهي بذلك لا تنتقل من حال إلى حال ومن نقيض
إلى نقيض، فالثبات في العقائد والتطور في المسالك لا يتناقضان، بل يكمل بعضها
بعضاً، في توازن دقيق، يضمن للأمة الإسلامية ديمومة سلامة العقيدة والفكرة.
ففشل الشيوعية إثبات منطقي لصلاحية الإسلام، دين الله للإنسان. قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ] [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحاً
فَمُلاقِيهِ] .
4 - نقص عدد المبادئ التي لا بد أن تخضع للتجارب لإثبات فشلها أمام
الشعوب، أما الإسلام فباق خالد ينتشر أفقياً وعمودياً.
فالأول هو انتشاره في قطاعات الشعب كلها، والثاني هو تعميق الشرع
والفكر الإسلامي في عناصر الحركة الإسلامية. ولتحقيق الأهداف المرجوة وإحداث
التغيير المطلوب، لا بد من محصلة للبعدين متوازنة متوسطة، وإلا تعثر الركب
وانحرف المسار وطال الطريق، وقد أفلحت الحركة الإسلامية في تحقيق البعد
الثاني أكثر من الأول، إذ الإقناع يحصل من طريقين: طريق قصير، هو طريق
النظر والاستدلال العقلي المبني على بصيرة إيمانية، وآخر طويل، هو طريق
التجربة المبني على المعاناة والممارسة الفعلية. وبشكل عام، يصلح الأول للأفراد
والجماعات، ويصلح الثاني للشعوب والأمم.
وقد حث القرآن على النظر والتفكر في آيات كثيرة [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلُ] [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ] . أما التجربة والمعاناة ففيها آيات
كثيرة أيضاً. [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ]
[ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ] [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ]
فعلى الحركة الإسلامية أن تصبر على مشاق الطريق وتبني نفسها بناء سليماً
على العقيدة الصافية، وتتحلى بالصبر الجميل على الشعوب، بحيث تكون مؤهلة
لقيادة الجماهير حين تصحو من غفلتها وتردها رداً جميلاً لعقيدتها وفطرتها، وتحقق
لها السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
وعلى الحركة الإسلامية، في أثناء تجربة الشعوب والأمم للمبدأ المتبقي،
مبدأ الرأسمالية، واجب مهم. هذا الواجب يتضمن الوعي المبني على العلم
والمعرفة بحقيقة الرأسمالية، مع إمكانية تمييز الغث من السمين، والصالح من
الطالح، والسلبي من الإيجابي، وحيث يتم ذلك كله من خلال منظور إسلامي مبني
على أصول شرعية وحركية، مستلهمة من القرآن وسنة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ففي الحديث: «خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام، إذا فقهوا»
وفي قول لعمر: (ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية) . وفي سيرة ابن تيمية مثال يحتذى وأمل يرتجى لدعاة القرن
العشرين.
إذ فقه ابن تيمية عقائد الكفار والضالين والمنحرفين، ورد كيدهم في نحرهم. ونراه يرد على مقولاتهم بفقه فاق علم أنفسهم بعقائدهم، وبأسلوب شابه شدة وغلظة عند مخاطبة غلاتهم ورؤسائهم، وتخلله رفق وحنو عند مخاطبة عامتهم وجهالهم.
وتساوى عنده في فقه عقائد الكفار من روم وفرس، وعقائد المدسوسين ممن انتسبوا
إلى ملة أهل القبلة من الفرق الضالة. ولعل في سيرة ابن تيمية وغيره من الدعاة
السابقين له واللاحقين به، ما يدعو إلى القول: خيار دعاتنا اليوم، من فقه الإسلام
وعلم عقائد أهل الضلال.
ورواج الشيوعية في بلاد الإسلام لم يكن مثله في أوربا الشرقية، وفي ذلك
مصداق لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وقف على قبور شهداء أحد
بعد سبع سنين: «لست أخاف عليكم بعدي أن تشركوا بالله شيئاً، ولكن أخاف
عليكم الدنيا أن تنافسوها» ويستوقفنا الشطر الثاني من الحديث، لربطه بأحداث
الساعة، فالأحداث وإن أدت إلى سير الصحوة الإسلامية خطوة إلى الأمام، فهي قد
أثارت تحدياً أمامها، وذلك بفعل الأسباب التالية:
1 -انتقال الصراع من مرحلة العداء في الخفاء إلى مرحلة العداء في العلن.
فبعد سقوط أقنعة الشيوعية والباطنية على المستوى العالمي وفشلها في وقف مد
الصحوة الإسلامية التي ظهرت لها آثار إيجابية جهادية تبلورت في أحداث
أفغانستان والأرض المحتلة، شعرت ملة الكفر أن التهديد المتجدد من أرض الإسلام
يستدعي اتحاد الشرق والغرب وإنهاء الحرب الباردة، ناهيك عن تأثير التيار
الوحدوي بين دول أوربا الغربية المتمثل في السوق الأوربية المشتركة على تغيير
طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب. فهم جميعاً إذا اكتوت مصالحهم بالإسلام،
وشتى إذا تضاربت مصالحهم فيما بينهم. فهي ثلاثة مراكز قوى بدأت بالتبلور على
المحيط العالمي، وهي وإن كانت جغرافياً وسياسياً منفصلة، فقد اتفقت جميعها على
أمرين: تحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها؛ ومعاداة الإسلام.
وعلى الحركة الإسلامية أن تدرك وتعي أبعاد التحدي الجديد. فصراع العلن
هو غير صراع الخفاء. والمجابهة القتالية هي غير المجابهة الفكرية. وصبر على
هذا هو دون صبر على ذلك، والعداء الجديد يستدعي أمرين: تكاتف وتعاون
الاتجاهات المختلفة في الحركة الإسلامية وتقديم البديل الواعي والقادر على قيادة
الأمة الإسلامية إلى بر الأمان.
2 - تحولت طبيعة الصراع العالمي من صراع بين العقائد الضالة إلى صراع
بين دنيا وآخرة. فصراع الشرق والغرب كان المحور الذي تدور عليه العلاقات
بين دول العالم، وتوزعت ولاءاتها فيما بين طرفي هذا المحصور. شرق إلحادي
وغرب مادي، أما الآن فقد فشلت الشيوعية وطالب رئيسها بتطبيق الشيوعية بوجه
إنساني. وهل يتم ذلك دون دين؟ وهل من دين يضمن استمرارها وبقاءها غير
المسيحية؟ وهكذا، وقبل لقاء رئيسي العملاقين تم لقاء رئيس الشرق ورمز الغرب
الكنسي.
فهي دنيا يسعى إليها هؤلاء من شرق وغرب، وآخرة تعيش معهم، عند
البعض منهم، سويعات في كنائس يوم الأحد، هما عالمان منفصلان دين ودنيا،
ولكن مع تبعية الدين للدنيا، وارتباط مصلحة الثانية بالأولى، فها هو الشمال قد
اتحد بهدف تحقيق الرفاهية الدنيوية لشعوبه في ظل الدين الكنسي. عبد الدرهم
في كل أحواله وعبد الكنيسة في بعض حالاته، فالإنسان هناك يعيش في ظل
تصور فاسد وسلوك دون ضابط، وفي ظل خواء روحي ومادية قاتلة، داء معروف
ودواء مجهول، بريق يخدع الأنظار ودوامة تحجب القلوب.
فالغزو الحديث للعالم الإسلامي يستهدف إفساد السلوك عوضاً عن إفساد
التصور، إذ فشلت شيوعية ملحدة وباطنية منحرفة في إفساد التصور العقدي
الإسلامي عند الشعوب المسلمة، وتستهدف الجهود الآن مخاطبة البطون بدلاً من
مخاطبة العقول، فهي دنيا يسعى لتطويعها هؤلاء، وإلهاء شعوبها بها، عن الآخرة، ويتم ذلك التطويع في ظل أساليب حديثة، تتخطى الحدود السياسية وتتجاوز
المسافات الجغرافية المتباعدة، مجتمع عالمي مفتوح، فرده إنسان عالمي،
تكنولوجيا المعلومات والتصنيع تجعل نقل الصوت والصورة والخير آنياً وبناء
الحضارة المادية متسارعاً، وليس أمام المسلم، في ظل هذه الظروف، إلا البناء
السليم للتصور العقيدي والسلوك الإسلامي، القادر على مقاومة التيار المضاد بالعلم
والعمل، دون انعزال وتقوقع.
وإفساد السلوك ليس كإفساد التصور، بل هو أخطر منه، إذ يخضع للثاني
الجاهل بالإسلام دون العالم به، والجاهل والعالم سواء أمام تأثير الأول، إذ يقاوم
إفساد السلوك تقوى القلوب ويقاوم إفساد التصور علم العقول.
وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من تقليد تصرفات وسلوك
الفرق غير الإسلامية، مثل قوله تعالى: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ
أَنفُسَهُمْ] و [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً] و [ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ]
فها هي الحركة الإسلامية أمام التحدي الجديد، إما أن ترتفع بنفسها إلى
مستواه أو تتحطم تحت أمواجه، وهي في أسلوب عملها، إما أن تنتقل إلى مرحلة
التتحالف والتعاون أو تستمر في مرحلة التخالف والوصاية.
ألم يأن للذين يحملون لواء الحركة الإسلامية أن تقدر التحديات التي تهب
ريحها من الشمال حق قدرها، كما قدروا هم التحدي القادم من الجنوب حق قدره؟
ألم يأن للحركة الإسلامية أن تدرك أن الصراع هو صراع بين أمم وحضارات،
وليس بين أمم وجماعات أو بين جماعات وجماعات [وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] ألم يأن للحركة الإسلامية أن تعتبر بأحداث الماضي في سير
الأولين والآخرين.