معن بن حسين نعناع
إن المطّلع على الصحف والمجلات وباقي وسائل الإعلام (المسموعة والمرئية والمقروءة) يجد أن موضوع تخفيف الوزن «الريجيم» قد طغى على هذه الوسائل الإعلامية؛ وذلك بسبب ما نشرته الإحصائيات العالمية من ارتفاع نسبة السمنة في المجتمعات وخاصة العربية منها، وأن للسمنة أضراراً كبيرة وعظيمة، من أمراضٍ تصيب القلب، وأمراض السكري، وانسداد الشرايين، وتراكم الدهون القاتلة، والمرض الخبيث «السرطان» ، وغير ذلك من الأمراض العديدة. وهذه بادرةٌ جيدة من الوسائل الإعلامية أن تُولي اهتمامها بهذا الموضوع الذي هو بحقّ موضوع ضروريٌّ.
ولكن الذي أحزنني في طرح هذا الموضوع «تخفيف الوزن» أن الطرح لم يكن ذا طابع إسلامي أو شرعي. فتراهم يتكلمون عن هذا الموضوع، ويصولون ويجولون، ويستشهدون بأقوال أطباء الغرب وما توصلوا إليه من اكتشافات تخص هذا الموضوع، دون أن يذكروا ولو آية واحدة، أو حديثاً واحداً نبوياً، أو قولاً لأحد الصحابة الكرام أو لأحد علماء السلف من أطباء وغيرهم، أو يذكروا قصصاً من السيرة النبوية العطرة تحفزّ الناس على إنقاص وزنهم وعدم النّهم في الطعام، ولو أنهم رجعوا إلى ذلك لوجدوا أن الطبيب الأول -صلى الله عليه وسلم- قد تكلم عن تلك الاكتشافات التي يفخر بها أطباء الغرب اليوم قبل ألف وأربعمائة عام، فكم وكم من أحاديث قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحذّر بها من السمنة، وأن على الإنسان أن يأكل بمقدار الحاجة، وبمقدار ما يعينه على طاعة الله وعبادته، والمضي في هذه الأرض وطلب الرزق، ومن قبله ذكر ذلك ربُّه ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] . فالإسراف في الطعام والشراب جاء به النهي من قِبَل الله ـ تعالى ـ، والله لا ينهانا عن شيء إلا لعلمه بأنّ فيه ضرراً علينا.
ومن تلك الأحاديث التي جاءت عن النبي ما أخرجه الترمذي وأحمد (?) ، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أُكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِهِ» ... فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخبرنا أن الآدمي ما ملأ وعاءً في يوم من حياته أعظم شرّاً وضرراً من ملئه لبطنه من الطعام والشراب، وأن الإنسان حسبه بعض الأُكلات، وقد أتى بهذه اللفظة بصيغة التصغير والتقليل (أُكلات) زيادة في الحثّ على تناول كميّة أقلّ، وأشار إلى أن هذه الأُكلات تكون بمقدار ما يقيم الصلب والجسد على طاعة الله وعبادته، والمشي في مناكب الأرض والسعي في الرزق، ومع ذلك كله فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من رحمته العظمى أوجد الحلّ لمن لا تكفيه هذه الأُكلات بأن يقسم معدته ثلاثة أقسام: قسم لطعامه، وقسم لشرابه، وقسم لنَفَسه فلا يملؤها كلها بالطعام فلا يدع بذلك مكاناً للشراب والنَّفَس كما هو حال الناس اليوم، فترى الواحد منهم يلتهم الطعام التهاماً دون أن يذكر اسم الله عليه، وبعد أن يملأ معدته من الطعام يقول لك: هناك آخرة، ويقصد بالآخرة الحلويات والفواكه وغير ذلك؛ ممّا لا يدع مجالاً لهضم الطعام ولخروج النَّفَس، فيقع بذلك في مشكلة مرضية قد تكون عُضالاً أحياناً. ولو كان للمستشفيات لسانٌ لأخبرتنا: كم تعاني من أولئك الذي يزدحمون على أبوابها في أيام الأعياد والمناسبات! والتي يعتبرها الناس أيام طعام وشراب فقط كشهر رمضان، ولأخبرتنا ـ أيضاً ـ: كيف أن ساعة الإنذار والخطر تدقُّ في تلك الأيام معلنةً الاستنفار العام.
والسؤال يطرح نفسه: ألم يلتفت أولئك القوم ولو لمرّة في حياتهم إلى سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويروا كيف عانى عليه ـ الصلاة والسلام ـ هو وأصحابه من شدّة الجوع وقلّة الزاد؟ ألم يسمعوا ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (?) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض -صلى الله عليه وسلم-» ؟ ألم يسمعوا ما أخرجه الشيخان وغيرهما (?) من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ قدم المدينة من طعام البُرّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض» ؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه البخاري وغيره (?) من حديث قتادة قال: «كنا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: ما أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- خبزاً مرقّقاً ولا شاة مَسمُوطةً ـ أي مشوية ـ حتى لقي الله» ؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره (?) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ـ وقال ثلاثاً أو نحو هذا ـ فإذا جعتُ تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ؟
ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره (?) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاوياً ـ أي جائعاً ـ وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» ؟
وأين هم من قوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ فيما أخرجه الترمذي (?) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تجشّأ رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كُفّ عنا جُشاءك! فإن أكثركم شبعاً في الدينا أطولكم جُوعاً يوم القيامة» ؟ والجشاء: هو الصوت الذي يخرج من الفم مصحوباً بهواء ورائحة الطعام نصف المهضوم، وباللهجة العامية (التدريع) ، وهذا الجشاء لا يكون إلا بسبب كثرة الطعام ممَّا يؤدي إلى عسر الهضم.
وأين هم ـ أيضاً ـ من قول الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ: «إياكم والبطنة! فإنها مكسلة للصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السّقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة» ؟ وكلمة (بالقصد) تذكّرني بالحديث الذي قرأته مرة ووجدت له ثماني روايات، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما عال امرؤ اقتصد» أي: ما افتقر امرؤ اقتصد في معيشته ووضع المال الذي يصرفه في مكانه دون إسراف فيه، وهذا المعنى موجود في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29] .
ألم يسمعوا إلى غير ذلك من الأحاديث؟ التي لا نريد بسردها دعوة الناس إلى العيش في فقر وفاقة، ولكن نريد بسردها دعوة الناس إلى تذكّر ما كان عليه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأن يتقوا الله فيما يأكلونه، وفيما يرمونه من الزائد من طعامهم في أماكن رمي القاذورات، وما أكثر ما نشاهد ذلك في زماننا! وللأسف.
وكان أحرى بهم أن يقتصدوا على ما يكفيهم، وكان أحرى بهم ـ أيضاً ـ لو كان هناك زائد من الطعام أن يحتفطوا به في أماكن التبريد والثلاجات، أو يعطوه للفقراء والمحتاجين وما أكثرهم، وكأنّهم عند رميهم للطعام لم يسمعوا قول الله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} . [الإسراء: 26 - 27]
هذا هو حال مجتمعاتنا، ليس همّها سوى الطعام والشراب؛ بينما نجد غيرنا من الأمم من حولنا قدر رسموا لأنفسهم برنامجاً في الطعام لا يتزحزحون عنه قدر أُنملة، فنجدهم قد سبقونا في التطور العلمي والتكنولوجي بكل جزئياته وتقسيماته، وكل ذلك من قلّة الطعام الذي يتناولونه لأنهم يعلمون حق العلم أن كثرة الطعام تؤثر على استيعاب الفكر والذهن فتجعله يتوقف عن العمل والعطاء، واليابان أكبر مثال على ذلك، فقلّما ترى فيهم رجلاً بديناً سميناً، بل إن العكس حاصل فيهم، وكم أدهشني ما سمعته من أحدهم: أن صاحب شركة تويوتا اليابانية لصناعة السيارات، إذا أراد الذهاب إلى عمله لا يذهب بسيارته؛ إنما يستقلّ دراجته الهوائية؛ وذلك لكي يحافظ على صحته ورشاقته! فإن ركوب السيارات كثيراً ما تجعل الإنسان سميناً، وهذا ما نشاهده اليوم.
وما أجمل قول الشاعر، وهو يضع يده على الجرح واصفاً حال المرء الأكول ـ الذي لا يهمّه خروج النَّفس أو عدم خروجه ـ وصفاً جميلاً ورائعاً، حيث قال:
أكبَّ على الخِوان وكان خفّاً
فلما قام أثقَلَه القيامُ
ووالى بينهما لُقَماً ضِخَاماً
فما مَرِئتْ له اللُّقَمُ الضخامُ
وعاجلَ بلعَهُنّ بغير مضغٍ
فهنّ بِفِيه وضعٌ فالتهامُ
ألا إن الطعام دواءُ داءٍ
به ابتُليت من القِدم الأنامُ
فداوِ سقامَ جوعك عن كفافٍ
فإكثارُ الدواء هو السِّقامُ
وأغبى العالمين فتىً أكولُ
لفطنته ببطنته انهزامُ