عبد الرحمن فرحانة
لا شك أن حِراك الصحوة الإسلامية قد نجح في إفراز ظاهرة إسلامية إحيائية امتدت عبر جغرافية العالم الإسلامي؛ تخللت في عطاءاتها تأثيرات بارزة شملت كافة مناحي الحياة؛ ولكن بوتائر متفاوتة. وقد نجحت في تحقيق إنجازات عديدة عبر العقود الماضية من أبرزها:
ـ تخصيب ظاهرة التدين وخاصة في الوسط الشبابي الفاعل، وتحقيق تواصل حيوي بين الجيل والفكرة الإسلامية؛ مما أدى إلى إنتشار الوعي، وانحسار مساحة الأمية الدينية التي كانت تتسيّد واقع المسلمين.
ـ أسلمة بعض مناحي الحياة، وتوليد نخب إسلامية تعمل لخدمة المشروع الإسلامي، والدفع باتجاه استئناف الحياة الإسلامية، وإحياء مفهوم الأمة الذي غيبته الدولة القُطْرية.
ـ إحياء نموذج سلفي لفريضة الجهاد الغائبة في صيغة حديثة، ترجمتها حالات المقاومة والممانعة التي يعيشها العالم الإسلامي على امتداد جغرافيته.
وفي سياق حِراك الظاهرة؛ تمكنت مدرسة «البنا» من نقل الفكرة الإسلامية من دائرة النخب إلى ساحة الجماهير، وكذا نجح التيار السلفي بفاعلية واضحة بدور التنقية والتوعية في الوسطين الشعبي والنخبوي، مضافاً إليهما مدارس ورموز أخرى قامت بأدوار جليلة في خدمة الفكرة الإسلامية.
ü إخفاقات:
رغم الإنجازات الجليلة التي حققتها الظاهرة الإسلامية، إلا أن العين النقدية تلتقط محطات إخفاق عديدة أثرت على فرص الاستثمار الفاعل للمنجزات طوال عقود الصحوة، وأدت كذلك إلى عجزٍ بيِِّن في نَظْم الحصاد المنجز في تدرج بنائي يخدم الأهداف الاستراتيجية للمشروع الإسلامي.
وفي المجمل عجزت الظاهرة عن تقديم صورة مترابطة للمشروع الإسلامي بنسيج ثقافي وفكري متسق، بل تنازعت الأفقَ الإسلاميَ تياراتٌ مدرسية بحِراك غير تكاملي، تخلل ذلك تشوشٌ، وعدمُ وضوح للصورة حتى في أذهان ممثلي ورموز المشروع تجاه قضايا كلية في حقول الإجتماع والسياسة والإقتصاد.
عانت الظاهرة ـ أيضاً ـ من تميّع في الرؤية لدى بعض منسوبيها على الصعيد السياسي، إلى الحد الذي وصل ببعضهم إلى أن ينتقل من خندق المواجهة مع المشروع الاستعماري الغربي إلى المشاركة معه أحياناً في أداء مرتبك، يؤشر على غياب الحاسة اللازمة والرؤية الضابطة للتفريق بين المرونة السياسية وتكتيكاتها، وبين الثوابت الاستراتيجية العامَّة للمشروع الإسلامي.
ü ضرورة الرؤية الاستراتيجية للمستقبل:
الظاهرة الإسلامية لا تعاني من قلة الإنتاج وضعف الحِراك الإسلامي؛ فالجغرافية الإسلامية تكتظ بمناشط متنوعة بمعيار «الكم» تكاد تملأ الأفق الإسلامي؛ إنما داؤها في غياب الحِراك النوعي الموجه على هدي رؤية ناضجة؛ تحدد المسار، وترشد نحو النهايات المستهدفة لكل مرحلة.
إزاء تلك الطاقات ـ التي تُستنفد؛ بسبب غياب منظومة الأولويات الموجهة للعمل الإسلامي، وكذلك في مواجهة المشروع الحضاري الغربي الذي يحاول راهناً استدراج الظاهرة الإسلامية؛ لاستفراغ جهودها في محطات سياسية وثقافية لا تتسق في المحصلة مع أهداف المشروع الإسلامي الاستراتيجية ـ ينبغي لقادة الظاهرة بأطيافها المختلفة أن يبادروا للتوافق على ميناء لرسو سفينة الظاهرة وتحديد مسارها، إذ لا يكفي أن يمنَّوا أنفسهم بأن هدف المرحلة هو حماية السفينة من الغرق؛ لتبقى السفينة عائمة في عرض البحر.
من أجل مهمة الإنقاذ اللازمة ينبغي لقادة المشروع الإسلامي أن يلتقوا لبحث الظاهرة الإسلامية؛ لتحديد إنجازاتها بهدف مراكمتها في سياق بنائي؛ ولرصد الفرص الفائتة لاستخلاص العبر؛ ولسبر التحديات والفرص المتاحة؛ من أجل صياغة رؤية مستقبلية للمشروع الإسلامي يتحدد في مضمونها منظومة الأولويات الموجهة للبناء الاستراتيجي للمشروع الإسلامي، وببساطة؛ كي يجيبوا على أسئلة سهلة ولكن بمضامين استراتيجية: أين نحن الآن؟ وماذا نريد؟ وكيف سنصل لما نريد؟
وفي إطار المناقشة الاستراتيجية لمكونات الرؤية المستهدفة ينبغي مناقشة ملفات هامة للتوافق النظري حولها، وبذهنية مرنة تستوعب سنة التنوع، وتتناغم مع الإيقاع التاريخي للمرحلة.
ومن المُِلحِّ أن يطرح على أجندة النقاش بعض المفردات التي أرى ضرورة بحثها:
ـ في مواجهة طغيان الأجندة القُطْرية لحركات العمل الإسلامي؛ يلزم مناقشة صناعة مرجعية إسلامية عامة بآلية معاصرة؛ لإيجاد قواسم مشتركة تكسر حدة التجزؤ القُطْري والتباين المنهجي بين تيارات الظاهرة الإسلامية؛ تمهيداً لصناعة خطاب إسلامي موحد واضح المعالم ومتسق في مفرداته وأهدافه.
ـ بحث ظاهرة العنف المسماة «الإرهاب» ؛ لمعالجة الظاهرة بمواقف مستقلة عن (الأجندة الغربية) ؛ وللخروج بموقف واضح وجريء تجاهها. ولكن بعيداً عن استراتيجية الغرب التي تقسم التيار الإسلامي بين متطرفين ومعتدلين، وتهدف إلى استخدام أحدهما في مواجهة الآخر، والحذر من الوقوع في هذا المأزق.
ـ التوافق على نظرية التغيير الملائمة للمرحلة؛ لتحديد منهج التعامل مع الواقع بحذر، وتسويق النظرية المتفق عليها في أوساط الظاهرة الإسلامية.
ـ تحرير العلاقة مع الغرب وبحث خيارات التعاطي معه؛ بهدف التلاقي على منهجية متسقة للتعامل معه.
ـ التوافق على استراتيجية عامة للمقاومة وللممانعة؛ بأدوات مختلفة تستغرق معظم طاقات الأمة السياسية والاجتماعية والثقافية؛ لمواجهة المشروع الصهيوني وظهيره الاستراتيجي الغربي، إذ لا ينبغي أن تُختزل القوة في الوعي العربي والإسلامي بمفردة القوة العسكرية فقط؛ حيث للأمة مفردات قوة أخرى تستطيع من خلالها أن تقاوم وتمانع الهيمنة الغربية.