محمد بن عبد الله الشمراني
إن الحرب مع الأعداء لا تكاد تعرف إلا منطق القوة، سواء أكانت هذه القوة حسية مادية أم قوة معنوية غيبية؟ لذا قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، ومن الخطأ الفادح تقويم معادلة القوة بالنظر إلى أحد جانبيها (الحسي أو المعنوي) ، مع إغفال الجانب الآخر. وأعظم من ذلك خطأ الاعتماد على جانب دون الجانب الآخر، كمن يعتمد فقط على نصر الله لعباده المؤمنين انطلاقاً من قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ #171#) إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] ، فيدعوهم ذلك إلى ترك الأخذ بالأسباب المادية، أو يرى أن عدم التكافؤ في الأسباب المادية يوجب الهزيمة والاستسلام، ويظن أنَّ مواجهة الأعداء مع عدم التكافؤ المادي الحسي (التقني) إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والحق أن قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، جاء في سياق الآيات وهي تلفت النظر إلى الجانب الأهم للقوة، وهو جانب معية الله لعباده المتقين، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ #194#) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 194 - 195] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: «ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله» (?) . ولما قام رجل من الصحابة في غزوة القسطنطينية فحمل على العدو حتى دخل فيهم، ثم خرج؛ صاح الناس، وقالوا: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري ـ صاحب رسول الله # ـ فقال: إنكم تتأولون هذه الآية، إنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار؛ إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سراً من رسول الله #: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به. فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد، قال أبو عمران: «فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية» (?) .
إذاً مواجهة أهل الأيمان لعدوهم ـ الذي يتفوق عليهم بالعدة والعدد مهما كان الفارق بينهم، ومهما ملك العدو من وسائل الحرب المتطورة ـ ليس من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة إذا بذلوا ما في وسعهم لإعداد العدة (الحسية والمعنوية) ؛ لمواجهة عدوهم ولو كان شيئاً يسيراً، فإن الغلبة والنصر إنما هي من عند الله، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] . ويزيد الأمر وضوحاً إذا عرف المؤمن أن معادلة القوة تكون لصالحه إذا كان يملك ـ إلى جانب ما يستطيع أن يعده من القوة الحسية ـ تلك الأسلحة التي لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف أمامها، وهي ما يمكن أن نسميها (الأسلحة التي لا تصنعها الحضارات) ونقصد بها ما يلي:
ü أولاً: معيَّة الله لعباده المؤمنين:
لا شك أن ميزان القوى ومعادلة التكافؤ بين الأطراف المتحاربة تخضع لمن يناصر كل طرف، ومن يقف بجانبه ويؤيده، وإن كان بمجرد التأييد العاطفي والتشجيع المعنوي، فكيف تكون المعادلة إذا كان الله ـ جل وعلا ـ مع أهل الإيمان يؤيدهم وينصرهم؟! كما قال: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] . وقال الله ـ سبحانه ـ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] ، وقال ـ سبحانه ـ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
(فهو معهم سبحانه وتعالى بالإعانة، والكفاية، والنصر، والتأييد، والهداية، والتوفيق، والتسديد ... ، وغير ذلك مما تجفو عبارة المخلوق عنه، ويقصر تعريفه دونه، وهذه هي معية الله الخاصة لأحبابه وأوليائه) (?) .
ومن كان الله معه كان النصر حليفه، مهما ملك عدوه من قوة، وأصبح ذلك العدو أحقر من الذباب في نظره، وإن كانت الأسباب المادية كلها في يده، كما قال موسى ـ عليه السلام ـ حينما خرج فرعون بغطرسته وجنوده يطاردونه هو والقلة المؤمنة معه، حتى قال فرعون: {إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ، وهذه المفارقة العظيمة بين الطرفين جعلت بعض من كان مع نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ يقول: (إنا لمدركون) . كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، ولكن موسى ـ عليه السلام ـ لما كان يعي حقيقة المعادلة: {قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، ثم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعد ذلك: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ #^65^#) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ #^66^#) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 65 - 67] .
وكذلك نبي الرحمة # حينما خرجت قريش بغطرستها وكبريائها تطارده #، فأوى إلى الغار ومعه صاحبه الصديق ـ رضي الله عنه ـ، وما كانا يملكان من القوة المادية شيئاً يذكر، حتى خاف أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ على النبي # حينما رأى أن القوم قد وصلوا إليهم، ولكن الثقة بموعود الله جعلت النبي # يُطَمئن صاحبه، ويقول: {لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] . كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] .
وحينما تمتلئ قلوب أهل الإيمان يقيناً بأن الله معهم لن يأبهوا بعدوهم مهما يكن معه من قوة، ولقد أخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز عن هذا النوع من الناس فقال: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ #249#) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ #250#) فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 249 - 251] .
ü ثانياً: قتال الملائكة في صفوف المؤمنين:
قبل أن نستطرد في الحديث عن الأسباب الغيبية لنصرة أهل الإيمان أو ما نسميه (بالأسلحة التي لا تصنعها الحضارات) ، فإنه من المهم دفع شبهة قد ترد على بعض الناس عن: ما هي الحكمة من تسخير جنود السماوات والأرض؛ لمناصرة أهل الإيمان، والله سبحانه قادر على أن يهزم أعداءه بقوله: كن فيكون؟! {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] .
فقد ذكر السبكي ـ رحمه الله ـ جواباً على ذلك فقال: (وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي # وأصحابه، وتكون الملائكة ـ وغيرها من جنود السماوات والأرض ـ مدداً على عادة مدد الجيوش؛ رعاية لصورة الأسباب وسنتها، التي أجراها الله ـ سبحانه ـ في عباده. والله هو فاعل الجميع) .
(وكلام السبكي ـ رحمه الله ـ يكشف عن طبيعة الإسلام في تحقيق أهدافه معتمداً على الجهد البشري، وفي حدود السنن والقوانين الطبيعية والاجتماعية. وهذا الكلام يدل على بصيرة نافذة، وعمق في فهم طبيعة هذا الدين) (?) .
ومما يجعل كفة المعادلة ترجح لصالح أهل الإيمان؛ أن الملائكة تقاتل في صفوفهم، فقد ثبت بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة أن الملائكة شاركت في قتال المشركين يوم بدر كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ #123#) إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ #124#) بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123 - 125] ، وقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] .
وقد رأى الرسول # الملائكة في غزوة بدر؛ ففي صحيح البخاري: «باب شهود الملائكة بدراً» أن رسول الله # قال: (هذا جبريل أخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) (?) . بل إن رؤيتهم لم تكن مقتصرة على النبي #، ففي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت عن يمين رسول الله # وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، لم أرهما قبل ولا بعد» (?) .
قال ابن حجر في الفتح: «هما جبريل وميكائيل كذا وقع في مسلم من طريق أخرى» (?) . «وجاء جبريل إلى النبي # يوم بدر فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال جبريل: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة» (?) ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ «بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم! إذ نظر إلى المشرك أمامه فخرَّ مستلقياً، قال: فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله #، فقال: صدقت؛ ذلك من مدد السماء الثالثة» (?) .
ولم تكن مشاركتهم مقتصرة على غزوة بدر، فقد حاربت الملائكة في مواقع أخرى، ففي غزوة الخندق (يوم الأحزاب) أرسل الله ملائكة تقاتل في صفوف أهل الإيمان، كما قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] .
وقد ثبت في الصحيح أنهم يقاتلون بأسلحتهم، ففي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لما رجع النبي # من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فقال: «أوَضعتم سلاحكم! فإننا لم نضع سلاحنا بعد. فقال: إلى أين؟ فأشار إلى بني قريظة» (?) .
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس: إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أَسَرْتُه يا رسول الله، فقال #: «اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم» (?) .
فإذا علم ذلك فإن الملائكة خلق من خلق الله ـ تعالى ـ وقد أوتوا من القدرة ما يعجز عنه الوصف، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ عن ملائكة النار: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وفي الحديث الصحيح أن النبي # قال: «أُذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام تخفق الطير» ، وقد رفع جبريل قرى قوم لوط بطرف جناحيه إلى السماء ثم فلتهم ... كما ذكر ابن كثير في تفسيره عن مجاهد أنه قال: (أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفاها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن) (?) .
فسبحان الله! كيف يُهزم جندٌ يقاتل معهم الملائكة؟! وهذا من أهم الأسرار التي تجعل كفة الغلبة والنصر في أكثر الغزوات، ترجح لصالح أهل الإيمان؛ رغم عدم التكافؤ في العدد والعدة.
ü ثالثاً: مؤازرة مسلمي الجن لإخوانهم المؤمنين:
الجن خلق من خلق الله ـ تعالى ـ، خلقهم الله ـ تعالى ـ قبل خلق آدم ـ عليه السلام ـ، فكانوا أول من سكن الأرض كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ #^26^#) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27] . وقد وهبهم الله ـ تعالى ـ من القدرات العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، وقد بين ـ سبحانه ـ في كتابه شيئاً من ذلك، كما في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ حينما طلب إحضار عرش ملكة اليمن (بلقيس) من اليمن إلى بيت المقدس، فقال عفريت من الجن: أنا آتيك به في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من مجلسه. كما في قوله ـ سبحانه ـ: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] . ويدل على ما أوتوا من القدرات الهائلة قدرتهم على اختراق الفضاء، ووصولهم إلى السماء، كما قال ـ سبحانه ـ عنهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] .
ومما لا شك فيه أن فيهم الصالحين الذين تعلقت قلوبهم بحب الله، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] .
ففي صحيح البخاري «باب إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ» ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا؛ إلا كان كما يظن. بينما عمرٌ جالسٌ إذ مرّ به رجلٌ جميلٌ، فقال عمر: لقد أخطأ ظني، أو إنَّ هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل! فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استُقِبل به رجلٌ مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني! قال: كنتُ كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتُك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم ترَ الجنَّ وإبلاسها، ويأسها من بعد انتكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم؛ إذ جاء رجلٌ بعجلٍ فذبحه، فصرخ به صارخٌ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا أنت. فوثب القوم. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمتُ، فما لبثنا أن قيل: هذا نبي» . (البخاري رقم 3866) .
ü رابعاً: أسباب السماوات والأرض:
ومما ينصر الله به عباده المتقين أن يسخر لهم أسباب السماوات والأرض، التي لا يحيط بعلمها إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ.
ومن هذه الأسباب ما يلي:
1 ـ الريح:
الريح من جنود الله ـ تعالى ـ التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة ـ بإذن ربها ـ دمرت المدن وهدمت المباني، واقتلعت الجبال والأشجار، وقد وصفها الله ـ سبحانه وتعالى ـ (العاتية) في قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] ، قال مجاهد: العاتية التي عتت عن الطاعة فكأنها عتت على خُزَّانها، فلم تطعهم، ولم يقدروا على ردها؛ لشدة هبوبها (?) ؛ فقد أهلك الله بها قوم عاد.
وفي الحديث المتفق عليه «أن النبي # في غزوة تبوك قال لأصحابه: «ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يَقُمْ فيها أحد، فمن كان له بعير فليشد عقاله» فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء» (?) .
بل إن الريح قد قاتلت مع النبي # في غزوة الخندق، كما قال الله ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] .
قال مجاهد: هي الصَّبا، أُرسِلَتْ على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت فساطيطهم.
ويدل على هذا ما ثبت عند مسلم أنه # قال: «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكتْ عاد بالدَّبُور» (?) .
وقد روى مسلم أيضاً في صحيحه عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ «أن رجلاً قال له: لو أدركتُ رسول الله # لقاتلتُ معه وأبليت. فقال له حذيفة: أكنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله # ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ... إلى أن قال حذيفة ـ كما في رواية يونس بن بكير عن زيد بن أسلم ـ: ... وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً؛ فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجتُ نحو النبي # فلما انتصفت الطريق؛ إذ أنا بنحوٍ من عشرين فارساً معتمين «وهم الملائكة» فقالوا: أخبر صاحبك أن الله ـ سبحانه ـ كفاه القوم» (?) .
وقد أخبر النبي # أن الله ـ سبحانه ـ يرسلها (أي الريح) على قوم من هذه الأمة، قد تمادوا في غيهم وعصيانهم؛ فتهلكهم، كما في حديث أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «يبيت طائفة من أمتي على أكل، وشرب، ولهو، ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير، ويُبعث على أحياء من أحيائهم ريح، فتنسفهم كما نسفت من كان قبلكم؛ باستحلالهم الخمر، وضربهم بالدف، واتخاذهم القينات» (?) .
2 ـ الزلازل:
الزلازل من أشد الأسباب الطبيعية التي يقدرها الله ـ تعالى ـ تخويفاً لعباده، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، وقال ـ سبحانه ـ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .
والعذاب الذي يكون من فوق هو الصيحة أو الحجارة، والذي من تحت هو الرجفة (الزلازل) والخسف، كما ذكر الأصبهاني في تفسيره عن مجاهد (?) . قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وقد يأذن الله ـ سبحانه وتعالى ـ للأرض في بعض الأحيان بالتنفس، فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف، والخشية، والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إلى الله ـ سبحانه ـ والندم، كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم.
وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد زلزلت المدينة: (لئن عادت لا أساكنكم فيها) (?) .
فإذاً، عُلِمَ أن الزلازل الهائلة إنما تحدث بأمر ربها، بل وقد أهلك الله بها ثمود ـ قوم صالح عليه السلام ـ كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ #^77^#) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 77 - 78] .
قال الشوكاني: (فأخذتهم الرجفة) أي: الزلزلة (?) .
وهي من أوضح الدلالات على عظمة الجبار ـ سبحانه وتعالى ـ وضعف جبابرة الأرض مهما أوتوا من قوة.
كيف؟! وهي في بضع ثوانٍ تُهلِك مئات الألوف من الناس:
ـ ففي مدينة تاتجشان الصينية وقع زلزال في 14/11/1383هـ الموافق 27/مارس آذار/1964م، وقع ضحيته 000،500 نسمة.
ـ ووقع زلزال في العاصمة اليابانية في 24/2/1324هـ الموافق 18/أبريل آذار/1906م، راح ضحيته 000،142 نسمة.
ـ ووقع زلزال في ولاية جو جارات الهندية في 18/10/1421هـ الموافق 13/يناير 2001م، راح ضحيته 000،30 نسمة.
3 ـ الخسف:
مما توعد الله به الظالمين الخسف، وهو: أن يهبط جزء من القشرة الأرضية، ويغيب في الأرض. يقال: خسف المكان خسوفاً إذا ذهب في الأرض، وغاب فيها (?) .
كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ، فهذا قارون، ماذا قال الله فيه؟ قال ـ سبحانه ـ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص: 81] ، قال ابن كثير: لما ذكر ـ تعالى ـ اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه، وبغيه عليهم، عَقَّبَ ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض.
كما ثبت في الصحيح عند البخاري ومسلم، أن رسول الله # قال: «بينما رجل يجر إزاره إذ خُسِف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (?) .
وفي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله # قال: «سيعوذ بهذا البيت ـ يعني الكعبة ـ قوم ليست لهم َمَنَعة، ولا عدد، ولا عدة؛ يبُعثُ إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم) (?) .
ومما تقدم؛ يتبين أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجعل الخسف على أعدائه؛ نصرة لأوليائه من الأنبياء والصالحين، بل قد يأخذ الله به بعض العصاة إذا تمادوا في غيهم وضلالهم ـ عياذاً بالله ـ.
وهذا مما يجعل أهل الحق على ثقة بربهم، فيعلمون أن قوى الأرض أحقر من أن يؤبه بهم، إذا كان الله معهم يسخِّر لهم أسباب السماوات والأرض، التي لا طاقة لقوة من قوى البشر بشيء منها مهما بلغت قوتها.
4 ـ إمطار الحجارة من السماء:
لقد أخبر الله ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم لوط، كيف أمطر عليهم الحجارة من السماء، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ #^82^#) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82 - 83] ، وتأمل قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ! قال القاسمي في تفسيره: فيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} : من ظالمي هذه الأمة (?) .
وكذلك فعل الله بجيش أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحشبة، فقد رأى أن يبني بيتاً في صنعاء اليمن، يدعُون العرب إلى حجه بدل حجهم البيت الحرام، والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن، وعرضها على الملك الحبشي، فوافق وسره ذلك، ولما بُنِيَ البيت (الكنيسة) ، وسماها «القليس» لم يُبنى مثلها في تاريخها، جاء رجل قرشي فتغوط فيها، ولطخ جدرانها بالعذرة غضباً منها، فلما رآه أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غضباً، وجهّز جيشاً لغزو مكة وهدم الكعبة، وكان معهم ثلاثة عشر فيلاً مقاتلاً، ومن بينهم فيل يدعى محمود؛ وهو أكبرهم، وساروا، ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه، حتى انتهوا إلى قرب مكة، وجرت سفارات بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بن هاشم جدّ النبي #، وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب، ثم هو وشأنه بالكعبة، وأمر رجال مكة أن يخلوا البلد، ويلحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم؛ خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر، وهو في وسط الوادي سائراً وإذا بفرق من الطير، فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحجم، وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب، وتناثر لحمه، فهلكوا، وفرّ أبرهة ولحمه يتناثر، فهلك في الطريق، وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته. ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم. وهذه الحادثة في العام نفسه الذي ولد فيه الحبيب محمد #، وفيها دلالة واضحة على قوة الجبار ـ سبحانه ـ، وانتقامه المهلك لكل طاغ وباغ ومتكبر، مما يجعل جنده وأولياءه يركنون إلى الثقة والطمأنينة بنصره: {أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ #^62^#) } [يونس: 62] .
إن إمطار الحجارة من السماء، وإن كان قد حدث لبعض الظالمين من الأمم السابقة إلا أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد توعد به المشركين من هذه الأمة، مما يدل على إمكانية حدوثه كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [الإسراء: 68] .
فقد أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة أنه قال: الحاصب: حجارة من السماء. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية قال: الحاصب مطر الحجارة. وقد أخبر الرسول # أنه سوف يحدث في آخر هذه الأمة، ففي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله #: «يكون في آخر هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا ظهر الخبث» (?) ، وقال #: «بين يدي الساعة مسخ، وخسف، وقذف» (?) ، والقذف هو: الرمي بالحجارة، كما قال المباركفوري في تحفة الأحوذي، ومحمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه.
وهذا مما يجعل إمكانية نصر الله لأوليائه وعباده الصالحين بمثل هذا النوع من السلاح؛ وارداً وممكناً عقلاً وشرعاً.
5 ـ الصواعق المحرقة:
ومما يؤيد الله به أولياءه ويعذب به أعداءه الصواعق، وهي: الصوت الشديد يكون معه نار يرسلها الله مع الرعد الشديد، فلا تقع على شيء إلا أحرقته. قال الله ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ #^12^#) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 - 13] . وقد أهلك الله بها أهل العناد ممن كذبوا نبي الله (هود) وهم عاد، وكذلك ممن كذب نبي الله (صالح) وهم ثمود، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، وفي هذه الآية تهديد واضح للمشركين من هذه الأمة، فإن الخطاب للنبي #، أي: قل يا محمد للمشركين الذي يعرضون عن الحق: أنذرتكم أن تحل بكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. وهذا من أشد الوعيد الذي خافت منه قريش، ووجلت منه قلوبهم، كما في قصة عتبة بن ربيعة حينما أرسلته قريش إلى النبي # يفاوضه، فقد روى الإمام عبد ابن حميد في مسنده بسنده عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأت هذا الرجل، الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا؛ فليكلمه، ولينظر ماذا يردَّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: يا أبا الوليد! فأتاه عتبة، فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله #، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله #، فقال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم! حتى نسمع قولك، إنا ـ والله ـ ما رأينا سخلة قط أشأم على قومها منك، فرقتَ جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى ننتفانى أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش شئت، فلنزوجنَّك عشراً، فقال رسول الله #: أفرغت؟، قال: نعم، فقال رسول الله #: «بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم» حتى بلغ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فقال عتبة: حسبك حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئاً أرى أن تكلموه إلا قد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم. قال: لا والذي نصبها بينة ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه قال: {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة» (صحيح السيرة النبوية للألباني ص 159) .
وفي هذه دلالة واضحة على إمكانية أن يرسلها الله على أعدائه، فتكون من جملة الأسلحة التي يؤيد الله بها عباده الصالحين.
6 ـ الأسقام والأوجاع المؤلمة:
ومما ينصر الله به أولياءه أن: يسلط على عدوهم الأمراض التي تفتك بهم، فيتولى الله ـ سبحانه وتعالى ـ حربهم بهذه الجنود التي لا قبل لهم بها، كما في الحديث القدسي يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... » الحديث (?) .
وهذه الأوبئة التي يسلطها الله على أعدائه تكون غالباً من النوع الذي لا يمكن للأطباء أن يقاوموه؛ حيث أنها أوبئة جديدة لم تكن معروفة لهم من قبل، فيظلوا زمناً يبحثوا عن طريقة لعلاج ذلك الوباء، ثم يسلط الله عليهم وباءً جديداً وهكذا، كما قال النبي #: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» (?) .
ومن الأمراض التي سلطها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على المفسدين في هذا الزمان، وما هي من المجرمين ببعيد:
ـ مرض الزهري: وعن خطورة هذا المرض، يقول الدكتور توماس: إن خطر هذا المرض لا يقل عن خطر السرطان (?) .
ـ مرض الهربس: والذي فرض نفسه شبحاً مرعباً في نفوس أولئك الذين تعدو على حرمات الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وقد أوضح تقرير لوزارة الصحة الأمريكية: أن الهربس يفوق في خطورته مرض السرطان.
ـ مرض الإيدز: وهذا المرض ـ كما يقول الأطباء ـ يقتل أكثر من 75%.
وقد سلط الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذا النوع من السلاح على كثير من أهل الفساد من السابقين، فقد سلط الله ـ سبحانه وتعالى ـ الطاعون على بني إسرائيل، فقد قال رسول الله #: «الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي # قالت: «سألت رسول الله # عن الطاعون؟ فأخبرني: أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء ... » .
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى ـ عليه السلام ـ وفشت فيهم الفاحشة؛ أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام؛ كثرة الزنا بسبب؛ تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات) (?) .
7 ـ تسليط الحشرات أهون المخلوقات:
إن من هوان الطغاة والجبابرة على الله، أنه ربما سلط عليهم أهون مخلوقاته فتهلكهم، وفي ذلك أبلغ الدلالة على حقارتهم وهوانهم على الله، كما أن ذلك من أوضح الدلالة على عظمة الجبار القوي المتعالي ـ سبحانه وتعالى ـ، وهو مما يبعث في قلوب أوليائه الثقة والطمأنينة؛ فيصبح العدو في أعينهم أهون من الذباب. فقد سلط الله على النمرود (الطاغية) يوم أن تكبر وادّعى الألوهية، سلط الله عليه بعوضة، قال ابن كثير في تفسيره: (وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار مَلَكاً، يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي! فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها، فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله بها) (?) .
ومن ذلك ما سلطه الله ـ سبحانه وتعالى ـ على بني إسرائيل حينما عاندوا موسى عليه السلام. فأرسل عليهم الجراد، والقمل، والضفادع ... كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ #130#) فَإذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ #131#) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ #132#) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 130 - 133] .
قال سعيد بن جبير: «لما أتى موسى ـ عليه السلام ـ فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل. فلم يرسلهم؛ فأرسل الله عليهم الطوفان، وهو المطر، فصب عليهم منه شيئاً خافوا أن يكون عذاباً، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، يكشف عنا المطر؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنو، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمار والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى؛ فأرسل الله عليهم الجراد، فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، فيكشف عنا الجراد؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل، وهو السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك، يكشف عنا القمل؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويَهِّمُ أن يتكلم فتثب الضفدع في فيه، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، يكشف عنا هذه الضفادع؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، وأرسل عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، وما كان في أوعيتهم وجدوه دماً عبيطاً، فشكوا إلى فرعون، فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا! ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً، فأتوه، وقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك، يكشف عنا هذا الدم؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل» (?) .
ومما يدل على أن هذه المخلوقات وغيرها من جنود الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسلطها على من يشاء قوله #: «لا تقتلوا الجراد؛ فإنه من جند الله الأعظم» .
وهذا مما يبعث الثقة في نفوس المؤمنين بأنَّ الله ناصرهم، وجاعل الغلبة لهم، والدائرة على أعدائهم؛ فلا ترعبهم الصواريخ الذكية، ولا القنابل العنقودية، ولا أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .
ü خامساً: الرعب:
وهو أن يقذف الله ـ سبحانه وتعالى ـ في نفوس أعدائه المهابة، والخوف الشديد الذي تخور معه قواهم، وتضطرب أفكارهم، وتتوتر أعصابهم.
وهو من أعظم الأسباب نصرة؛ لأنبيائه وأوليائه، فإن القوة الحقيقة هي قوة الفؤاد، وثبات الجأش، وقد جعله الله من خصائص هذه الأمة المباركة.
ففي صحيح البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «أعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (?) .
والحديث واضح الدلالة في أن هذه الخاصية هي له #، ولمن كان على هديه من أمته، وقد ورد الحديث عند الدارمي بلفظ (ويرعب منا عدونا مسيرة شهر ... ) .
وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي: وقد بقي أثر هذه الخاصة في خلفاء أمته ما داموا على حاله.
وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ، وقال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا #^25^#) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا #^26^#) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وفي المقابل فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يربط على قلوب المؤمنين، وينزل عليهم السكينة حتى يصل بهم الحال إلى النعاس؛ لما يجدونه في قلوبهم من الطمأنينة والسكينة: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، أن أبا طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط فآخذه (?) .
ü سادساً: التكبير:
وهو أن يهتف أولياء الله وأحباؤه من المؤمنين: بلا إله إلا الله والله أكبر؛ فيكون لها من الأثر الحسي والمعنوي في أعداء الله ما لا تثب أمامه قوى الأرض، بل تتلاشى وتضمحل أمام تكبيرات أهل الإيمان الصادقين المخلصين، الذين نصروا الله في أنفسهم؛ فانتصروا، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «سمعتم بمدينة: جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيفرج لهم، فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ! فقال: إن الدجال قد خرج؛ فيتركون كل شيء، ويرجعون» (?) . فقال النووي في شرحه (المدينة التي بعضها في البر، وبعضها في البحر: القسطنطينية، وقوله #: «يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق» ، قال القاضي: هو كذا في جميع أصول صحيح مسلم، «من بني إسحاق» والمعروف المحفوظ من «بني إسماعيل» ، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه؛ لأنه إنما أراد العرب) (?) .
وفي يوم القادسية قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ لجيشه: «الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئاً، حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم الظهر، فإني مكبر تكبيرة، فكبروا، واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، واعلموا إنما أعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم، فكبروا، ولتستَتِمَّ عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة، فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس؛ ليبرزوا، وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة، فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله» (?) .
ولا شك أن التكبير من جملة الذكر الذي أمر الله ـ تعالى ـ به عند ملاقاة العدو، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ، ولكن له ميزة خاصة كما تقدم.
ü سابعاً: التقوّي بإقامة الصلاة وحسن الصلة بالله ـ تعالى ـ:
الصلاة هي الصلة بقيوم السماوات والأرض، فإذا اتصل العبد بالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر ـ سبحانه وتعالى ـ وكان حَسَنَ الاتصال بربه؛ فإنه يفوز بكل ما يصبو إليه، فإن دعا استجيب له، وإن استنصر نُصِرَ، ومن هنا فقد كان # إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة، وكيف لا يكون؟ والله ـ جل وعلا ـ يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] ، ولهذا قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «لقد رأيتنا يوم بدر وما منا إلا نائم، إلا رسول الله # فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح ... » .
ü ثامناً: الدعاء:
وهو طلب النصر والغلبة على الأعداء من الله الواحد الأحد ـ جل في علاه ـ، وقد كان نبينا # يفزع إلى ربه ـ جل وعلا ـ في غزواته، ويلح عليه بالدعاء.
ففي غزوة بدر بات رسول الله # يدعو ربه، ويقول: «اللهم إن تهلك هذه الفئة لا تُعبَد» (?) .
وفي صحيح مسلم أن النبي # يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تُعبد في الأرض» ، فما زال يهتف بربه، ماداً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله ـ سبحانه ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (?) .
ولا شك أن الدعاء سلاح لا يقاوم، كما قال الشاعر:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه؟
وما تدري بما صنع الدعاء؟
سهام الليل لا تخطي، ولكن
لها أمد، وللأمد انقضاء
وقد كان السلف الصالح يعدون الدعاء من الأسلحة التي لا غنى لهم عنها في حروبهم وغزواتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، (أي البراء بن مالك) أَقسِمْ على ربك! فيقول: «يا رب أقسمت عليك لما منحتني أكتافهم؛ فيهزم العدو. فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد؛ فمنحوا أكتافهم، وقُتِلَ البراء شهيداً» (?) .
وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، ما دعى قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق (?) .
ü تاسعاً: التخلق بأخلاق الصالحين:
هذا النوع من السلاح الذي ينصر الله بسببه؛ أهل الإيمان من المجاهدين في سبيله، وهو من أعظم الأسلحة، بل إن كل الأسلحة والأسباب المتقدمة مبنية على هذا النوع المبارك، فإن معية الله الخاصة لأوليائه، إنما تكون لأولئك، وكذلك نصرة الملائكة وغيرهم من جنود الله، إنما تقاتل؛ نُصرةً لعباد الله الصالحين.
والمقصود بالصالحين أي: من وحد الله التوحيد الخالص، ونظر إلى أوامر الله فاتبعها، ونظر إلى نواهيه فاجتنبها، وكان عمله خالصاً لوجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلم يصر على فعلِ صغيرةٍ، فضلاً عن الكبيرة، ولم يصر على تركِ واجبٍ فضلاً عن الفرائض، وكان مكثراً من النوافل والمستحبات، مستخفياً بعمله قدر الإمكان، لا يطلب الأجر والثواب، ولا الإطراء والثناء إلا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وهكذا كان دَأبُ الصالحين: فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال: «حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنَا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة، وطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكُمّه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنّع علينا (يعني يفضحنا) » (?) وهذا كثير جداً في أخبار الصالحين.
وقد كان القادة من أهل الإسلام يعتنون بهذا النوع من السلاح أيما عناية.
وحين أبطأ على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فتحُ مصر؛ كتب إلى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر! تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله ـ سبحانه ـ لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، (وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد ـ رضي الله عنهم ـ) فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس، وحضهم على الصبر والنية، وقدَّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس أن يكون لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة وقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وليسألوه النصر على عدوهم» . فلما أتى عَمْراً الكتابُ، جمع الناس، وقرأ عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ـ ثم يرغبوا إلى الله ـ سبحانه ـ ويسألوه النصر ... ففتح الله عليهم (?) .
ومن هنا نهمس في أذن كل مسؤول ممن ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، وخاصةً قادة الجيوش الإسلامية، فنقول: اعلموا أن أوجب الواجبات عليكم، أن تربّوا جنودكم على تقوى الله، وطاعته، مبتدئين في ذلك بأنفسكم، ومن هو دونكم، فإن أنتم فعلتم ذلك نصركم الله على عدوكم، ومكن لكم كما نصر أسلافكم ومكن لهم ... وإن لم تفعلوا كنتم سبب تخلف النصر عن أمة الإسلام، وتمكين الأعداء من أمتكم، وبؤتم بإثم ذلك، ثم يستبدلكم الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ فيجعل الله النصر والتمكين على أيديهم. فكونوا أنتم أولئك يكتب لكم النصر ... و {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] .
وهذا بالطبع لا يعني الاستغناء عن الأسلحة التي تصنعها الحضارة، لقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . صدق الله.