بحوث
محمد الوهيبي
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم
فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا» [1] . وهكذا كان من منهج أهل السنة الإمساك
عن ذكر هفوات الصحابة وتتبع زلاتهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم. قال أبو
نعيم رحمه الله: فالامساك عن ذكر، أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
وذكر زللهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه، من
أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: [والَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ] .
ويقول أيضاً في تعليقه على الحديث المشار إليه: (لم يأمرهم بالإمساك عن
ذكر محاسنهم وفضائلهم، إنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في
ثورة الغضب وعارض الموجدة) [2] . إذاً الإمساك المشار إليه في الحديث الشريف إمساك بخصوص يقصد به (عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة، والانتصار لأخرى) [3] . وذلك مما لم نؤمر به، إنما أمرنا بالاستغفار لهم ومحبتهم ونشر محاسنهم وفضائلهم. (لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل) [4] .
وهذا مما نحتاجه في زماننا، حيث ابتليت الأمة المسلمة بجامعاتها ومدارسها
بمناهج - يزعم أصحابها الموضوعية والعلمية - يخوضون فيما شجر بين الصحابة
بالباطل دون التأدب بالآداب التي علمنا إياها عز وجل ورسوله -صلى الله عليه
وسلم- كذلك ابتليت بالفرق الضالة التي نشرت ذلك فى بعض البلاد، بل إن
العدوى-وللأسف- وصلت بعض الإسلاميين حتى إن بعضهم يجمع الغث والسمين
من الروايات حول الفتنة التي بين الصحابة ثم يبني أحكامه دون الاسترشاد بأقوال
الأئمة الأعلام وتحقيقاتهم، من أجل ذلك أردت أن أشير إلى بعض الأسس ...
والتوجيهات التي ينبغي أن يعرفها الباحث إذا اقتضت الحاجة أن يبحث وينظر إلى
الروايات فيما شجر بينهم.
1 -إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل، بل الأصل العقدي
عند أهل السنة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة، وهذا مبسوط في عامة
كتب أهل السنة في العقيدة كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لابن أبي
عاصم، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني، والإبانة لابن بطة، والطحاوية
وغيرها. ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة وذلك
بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك
مثله (لصغر سنه أو حداثة عهده بالدين..) لحقيقه ما حصل بين الصحابة
واختلاف اجتهادهم في ذلك فيقع في الفتنة (بانتقاصه الصحابة) من حيث لا يعلم..
وذلك مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف وهي ألا يعرض على
الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم، قال الإمام البخاري رحمه الله: باب
من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال علي رضي الله عنه:
حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ . قال الحافظ في الفتح
تعليقاً على ذلك: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبني أن يذكر عند العامة ومثله
قول ابن مسعود: (ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)
رواه مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها
الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب..
إلى أن قال: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم) [5] .
2 - وإذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم فلا بد من التحقق والتثبت في
الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
هذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق لكي لا
يحكموا بموجبها على الناس فيندموا، فوجوب التثبت والتحقق فيما ينقل عن
الصحابة وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصاً ونحن نعلم أن مثل هذه
الروايات دخلها الكذب والتحريف، إما من جهة أصل الرواية، أو تحريف بالزيادة
والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة
هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن
يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما [6] ، من أجل ذلك لا
يجوز أن يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع
وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد
تيقنا ما ثبت في فضلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم
بطلانها [7] .
3 -أما إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل وكان ظاهرها القدح
فيلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير، قال ابن أبي زيد: (..والإمساك عما شجر ...
بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب) [8] . وقال ابن دقيق العيد: (وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما
هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً أولناه تأويلاً حسناً لأن الثناء
عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك
والموهوم لا يبطل المحقق والمعلوم) [9] ، هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم.
4 - أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد
العلمي فهم فيه مجتهدون، وذلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف
اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
أ- قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وأن مخالفه باغ فوجب
عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه
صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
ب -وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر،
فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
ج - وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضايا وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح
أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا
يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك [10] .
إذاً هذا القتال هم متأولون فيه، لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها
بسببها وذلك لا يخرجهم من العدالة بل هم في حكم المجتهدين في مسائل الفقه فلا
يلزم نقص أحد منهم إنما هو بين أجر وأجرين. ومن المهم أن نعلم أن القتال الذي
حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل
وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون
علي ولا قال ذلك طلحة والزبير ... وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء-
بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنهم -، وهو من
باب قتال أهل العدل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على
قاعدة دينية - أي ليس بسبب خلل في أصول الدين -[11] . ويقول عمر بن شبه: (إن أحد اًلم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا لأحد
ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص
منهم) [12] .
ومما يؤكد ذلك هذه الرواية التي ذكرها ابن كثير: (جاء أبو مسلم الخولاني
وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني
لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً،
وأنا ابن عمته، والطالب بدمه، فائتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قتلة عثمان، وأسلم له، فائتوا علياً، فكلموه. فلم يدفعهم إليه [13] ) وفي رواية: (فعند ذلك صمم أهل
الشام على القتال مع معاوية) [14] .
وأيضاً جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله
ابن الإمام أحمد: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أيوب السختياني عن
محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. قال ابن تيمية: (وهذا
الإسناد أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في
منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل) [15] . فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا
مثل هذه النصوص الصحيحة؟ وتكون منطلقاً لهم، لا أن يلطخوا أذهانهم
بتشويشات الإخباريين ثم يؤولون النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة
المزجاة.
5- ومما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة-مع
اجتهادهم فيها وتأولهم - حزنهم الشديد وندمهم لما جرى، بل لم يخطر ببالهم أن
الأمر سيصل إلى ما وصل إليه، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه،
بل إن البعض أيضاً لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال، وإليك بعضاً من هذه
النصوص المؤثرة:
أ-فهذه أم المؤمنين عائشة تقول -كما يروي عنها الزهري -: (إنما أريد أن
يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم
أقف ذلك الموقف أبداً [16] ، وكانت إذا قرأت: [وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] تبكي حتى يبتل خمارها) [17] .
ب -أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيقول الشعبي: (لما قتل طلحة
ورآه علي مقتولاً، جعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: عزيز علي أبا محمد أن
أراك مجدلاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري (همومي
وأحزاني) وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين
سنة) [18] ، ويقول رضي الله عنه: (يا حسن يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر
يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة) [19] . وكان يقول ليالي
صفين: (لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك (وهم ممن اعتزل الفتنة) إن
كان بدًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطره ليسير) [20] . فهذا قول أمير
المؤمنين رغم قول أهل السنة إن علياً ومن معه أقرب إلى الحق [21] .
ج -ويقول الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو ممن شارك في القتال بجانب
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها،
فقال مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك! إنا نبصَّر ولا نبصِر، ما
كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا
فيه أم مدبر؟) [22] .
وهذا معاوية رضي الله عنه، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب، جلس وهو
يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت امرأته، أنت بالأمس تقاتله،
واليوم تبكيه؟ فقال: ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله
وسوابقه وخيره، وفي رواية (ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه
والعلم) [23] .
وبعد كل هذه النقولات كيف يلامون بأمور كانت مشتبهة عليهم؟ فاجتهدوا
فأصاب بعضهم، وأخطأ الآخرون وجميعهم بين أجر وأجرين، ثم بعد ذلك ندموا
على ما حصل وجرى، وتابوا من ذلك، وما حصل بينهم من جنس المصائب التي
يكفر الله عز وجل بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم قال -صلى الله عليه
وسلم-: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يسير في الأرض ليس عليه خطيئة»
[24] ، وعلى أقل الأحوال لو كان ما حصل من بعضهم في ذلك ذنباً محققاً، فإن
الله عز وجل يكفره بأسباب كثيرة من أعظمها الحسنات الماحية-من سوابقهم
ومناقبهم وجهادهم -، والمصائب المكفرة، والاستغفار، والتوبة التي بها يبدل الله
عز وجل السيئات حسنات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
6 - وأخيراً نقول إن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من
الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة،
ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان
قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر
له بسابقته، أو بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف
الأمور التي هم فيها مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغفور في
جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة وعلم نافع وعمل
صالح [25] .
يقول الذهبي رحمه الله: ( ... فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع
بينهم وجهاد محّاء وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم
العصمة) [26] .
إذاً اعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة
والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى
والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.. (ثم لا خلاف في أنه لا يشترط
العصمة من جميع المعاصي ... ) [27] .
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساويهم مطلقاً - كما مر سابقاً -،
وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ لصحابي، فلا بد أن يقترن بذلك ذكر
منزلة هذا الصحابي وتوبته وجهاده وسابقته..، إن وجد شيء من ذلك، فمثلاً من
الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، دون أن نذكر توبته
وسابقته وأنه من أهل بدر، ومن الظلم أيضاً أن نذكر ماعزاً وزلته ولا نذكر توبته
التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه، [28] وهكذا فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة
حصلت منه في فترة من فترات حياته، وتاب منها، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص
البداية إن كانت له حسنات ومناقب، ولو لم يزكه أحد، فكيف إذا كثرت فيه
التزكيات، وكيف إذا زكاه خالقه، الخبير بما في نفسه؟ .