نائل نخلة
في ظل الأزمة المالية التي تعيشها الحكومة الفلسطينية ...
ما الخيارات: التحدي أم الانسحاب؟!
منذ أيام، لم يفرغ أهالي قرية (بيت أكسا) شمال غرب القدس، من دعائهم بالخير لرجل جادت يده البيضاء بمنح مالية على 75 من موظفي السلطة الذين تسبب تأخر صرف رواتبهم في ضائقة اقتصادية لعائلاتهم.
وقد بدأت القصة مؤخراً عندما أجرى رجل أعمال فلسطيني من بلدة (بيت أكسا) والمقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، اتصالاً مع أقاربه في البلدة، وطلب تزويده بمعلومات كافية عن الوضع الاقتصادي للموظفين في قريته في ظل أزمة الرواتب الخانقة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني.
هذه مجرد قصة رجل فلسطيني من المحسنين، أكد فيها على ضرورة تقديم المساعدة العاجلة إلى أبناء قريته في ظل حصار صهيوني وأوروبي وأمريكي يفرض على أبناء الشعب لاختيارهم للحكومة الإسلامية التي جاءت بشكل نزيه شهد له العالم بالكفاءة.
هذه القصة «التي تبين التكافل الشعبي الفلسطيني» تطرح عدداً من التساؤلات؛ فهل تستطيع المشاركات الشعبية من أبناء فلسطين محاربة الحصار المفروض على حكومتهم؟ وهل للحملات الشعبية التي تقودها الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة تأثير على موازين الساحة السياسية، أم أنها مجرد حملات رمزية؟ وهل لهذه الحملات تأثير على الرأي العام في الشارع العربي؟ وإن توفر الدعم الشعبي العربي فهل هناك آليات لإدخاله إلى الأراضي الفلسطينية؟ وهل سيكفي هذا الدعم لتوفير الميزانية الشهرية للحكومة ومن ثَم استمرارها؟ وما مستقبل الحكومة في ظل هذه الأزمة؟ وما أبعاد هذه الأزمة الحقيقية؟
ما إن بدأت التصريحات الأوروبية والأمريكية التي تشير إلى قطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة، ما لم تلتزم بشروطهم، حتى سارعت منظمة الأمم المتحدة للكشف عن حجم التدهور الذي قد يصيب الوضع الإنساني الفلسطيني؛ نتيجة لوقف الدول المانحة مساعداتها.
وحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) خلال مؤتمر صحفي عقده في القدس من تدهور الوضع الإنساني وتأثيرات هذا التدهور على القطاعات الحيوية وبخاصة الأمن والصحة والتعليم.
وأشارت المنظمة إلى عجز «الأمم المتحدة» عن تنفيذ عدد كبير من برامج ومشاريع الطوارئ التي سعت إليها؛ بسبب تمويل الدول المانحة أقل من 20% من هذه المشاريع.
وقالت منظمات الأمم المتحدة إن السلطة الفلسطينيّة توظف أكثر من 152 ألف فلسطيني يعيلون أكثر من مليون فلسطيني، أي ما يعادل 25% من الفلسطينيين في الأرضي المحتلة، مما يضاعف حجم المشكلة الإنسانية في حال عدم تلقي هؤلاء الموظفين رواتبهم.
وأعربت منظمة الأمم المتحدة عن خشيتها من ارتفاع نسبة الفقر بشكل حاد، لتصل إلى 74% وتوقعت انخفاض الدخل المحلي للفرد ليصل إلى 25% في عام 2006.
قامت الأمم المتحدة برسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للوضع الاقتصادي الفلسطيني، حتى تقوم بتخطيط عملها بناءً عليها: يصف السيناريو الأول الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية، بناءً على الوضع الذي شهدته الأرضي الفلسطينية في الأشهر الأخيرة؛ حيث ارتفعت القيود التي تفرضها الدولة العبرية على الفلسطينيين وعلى الخدمات التي يحصلون عليها.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على الاستمرار في فرض القيود على الفلسطينيين، بينما يتم تمويل السلطة الفلسطينيّة بشكل جزئي.
والسيناريو الثالث يتمثل في متابعة الدولة الصهيونية تشديد فرض القيود على الفلسطينيين بينما لا تحصل السلطة الفلسطينيّة على تمويل بتاتاً، وهو الوضع الحالي الذي يعاني منه الشعب والحكومة الفلسطينية.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن من شأن السيناريو الثاني أن ترتفع معه معدلات البطالة لتصل إلى 40% خلال عام 2006، و 47% في عام 2008.
وفي هذا الإطار، قدم (عمر عبد الرازق) وزير المالية أمام المجلس التشريعي تقرير الحكومة حول الأزمة المالية مؤكداً أن الوضع المالي للسلطة يمر بأزمة خطيرة وهي أزمة متواصلة منذ زمن، ولا علاقة لها بتسلُّم حكومة جديدة، وأن ما له علاقة بالحكومة الجديدة هو القرارات الجائرة بشأن تعليق المساعدات المقدمة للشعب الفلسطيني.
وحول الأزمة التي تعاني منها حكومة حماس بعد الانتخابات التشريعية، قال (د. رائد نعيرات) أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية أن «حماس تعيش اليوم أزمة انتصار، ففي حين كانت حركة مسلحة، بطبيعة محدودة في العمل السياسي، فجأة أصبحت رأس الهرم السياسي في السلطة. هذا أمر يتطلب أخذ ذلك بالحسبان عند صياغة برنامج وطني» . وعن التحديات أمام الحكومة أو فشلها، قال نعيرات: «حتى الآن لا يمكن الحكم على نجاح الحكومة الفلسطينية، ولكن نستطيع أن نجزم أن الحكومة إذا استطاعت حل أزمة الرواتب في وقت قريب، فهي على مستوى عالٍ جداً من القيادة، ولكن حتى الآن لا يمكن محاكمة حكومة عمرها أسابيع، وتحاك حولها المصاعب من كل حدب وصوب.
وعن قدرة الشعب الفلسطيني على تحمل عدم توفر الرواتب «وخاصة الموظفين» قال نعيرات: «وفيما يختص بمسألة التحمل، لا يمكن الحكم على هذه القضية ومداها. مثلاً: عندما بدأت الانتفاضة كان هناك 340 ألف عامل يتوجهون يومياً للعمل في فلسطين المحتلة عام 48، واليوم لدينا 160 ألف موظف. وقد توقع الخبراء الصهاينة أن قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود لن تتجاوز 6 أشهر؛ لأنه إذا أوقف الكم الهائل من العمال عن العمل فسينهار المجتمع. ولكن بطريقة أو بأخرى عالجت الفصائل هذه الإشكالية، وإن لم يكن ذلك عبر الحكومات السابقة» .
وعن توفير الأموال لفك الحصار عن الحكومة الفلسطينية، ذكر وزير المالية الفلسطيني أن الحكومة الفلسطينية تلقت دعماً يصل إلى 80 مليون دولار من السعودية والكويت والإمارات؛ لمساعدتها على تسديد رواتب موظفي السلطة دون تحديد جدول زمني، وقد بادرت الجامعة العربية بفتح حساب بنكي للتبرع للشعب الفلسطيني؛ لمواجهة آثار قرار منع المعونات الأوروبية، فضلاً عما قرره الزعماء العرب خلال القمة العربية الأخيرة بالخرطوم من تخصيص مبلغ 50 مليون دولار شهرياً لمساعدة الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية على تخطي أزمتها، إلى جانب 100 مليون دولار ستصل على دفعة واحدة دون توضيح كيفية وصولها.
ومن ناحية أخرى، أكد النائب (الدكتور ابراهيم أبو سالم) الذي قاد حملة شعبية يوم الجمعة 5/5/2006م لدعم الحكومة في مدينة رام الله؛ فالشعب الفلسطيني شعب فريد من نوعه في الصبر، مشيراً إلى أنه منذ مطلع هذا القرن وهو يقارع الاحتلال ويقدم التضحيات الغالية والنفيسة.
وتابع: «الآن ونحن نتحدث عن لقمة الخبز والوضع الاقتصادي ... فإنَّ الشعب الفلسطيني تعوَّد منذ سنين على البذخ وأن ينفق أكثر من حاجته، وهذه فرصة لأن يتعلم شعبنا بعض الصبر وأن يتنازل عن الكماليات» مشيراً إلى أن الخبز الذي يلقى في القمامة هو في الحقيقة يشبع بلاداً ومخيمات.
واستدرك: «الناس بخير؛ فلم يصلوا إلى درجة الفقر الشديد والجوع الشديد، والشعب الفلسطيني شعب معطاء فقد رأينا الصغار والأطفال يتقدمون بحصالاتهم والنساء يتقدمن بحليهن ... هذا الشعب يعطي ونحن باختصار نساوم على كرامتنا ونُبتز على عزتنا ويقال لنا: إما أن تسجدوا لأعدائكم وتركعوا للذل، وإما أن نجوِّعكم ... هذان خياران ولا مجال أن نختار خيار الذل» .
ولم يقتصر الدعم الشعبي على الحركة الإسلامية من خلال الحملات التي قادتها وإنما أيضاً من خلال المساهمات الفردية؛ فقد أقدم أستاذ مدرسة من قرى رام الله له عمل إضافي بعد الدوام وحالته المادية جيدة على دفع سلف مالية لزملائه في المدرسة لتدبير أمورهم اليومية لحين حصولهم على رواتبهم.
وأقدم معلمو المدارس الحكومية وهم اكبر شريحة في السلطة ويقدر عددهم بـ30 ألف معلم بحملة في الضفة والقطاع لمساندة الحكومة، ورفضوا محاولات بعض الأطراف الفلسطينية بالإضراب عن العمل، وليس هذا فقط، بل قام المئات منهم بتوجيه رسائل إلى رئيس الوزراء إسماعيل هنية أعلنوا فيها عن تضامنهم مع الحكومة ومواقفها وتبرعهم بجزء من مستحقاتهم المالية للموازنة العامة.
وفي السياق نفسه، أقدمت البنوك العاملة في الأراضي المحتلة على تقديم قروض فورية على شكل قروض لمدة 3 شهور بالإضافة إلى تأجيل الأقساط على القروض القائمة لمدة 3 شهور ضمن حملة أطلقت عليها اسم: «معاً يخفُّ الحمل ... ومعاً نتقدم ... خففْ حملك» .
وقال (د. أبو سالم) : «إن الحملة التي شارك فيها يوم الجمعة حملة رمزية تقدم رسالتين: الأولى: للكرة الأرضية ومفادها أنه عيب علينا أن نطلب مساعدات من شعوب المسلمين في الأرض ومن الدول وأن نأخذ الصدقات والتبرعات؛ فنحن هنا يجب أن نكون أنموذجاً للبذل؛ لا نقول: أعطونا فقط، ونحن أيضاً يعطي بعضنا البعض.
أما رسالة الداخل، فقد قال عنها (د. أبو سالم) : «هي لأولئك الناس المثبطين الذين يتربصون بالشعب والحكومة، ويراهنون على فشل الحكومة، وهناك فئة مغرضة تحرض الشعب على المظاهرات والإضرابات وهذا عيب كبير؛ فالطفل الصغير يتبرع بحصالته، والذي يملك آلافاً يحرك الناس ليضربوا ضد الحكومة وليضعفوا مسيرتها ويوهنوا من قوتها!» .
وتابع: «كان هذا المهرجان رسالة تُقَدَّم للآخرين، وقد جاءتنا ردود فعل من العالم العربي، ويتصلون بنا صباح مساء ويقولون: بكينا كثيراً ورسالتك وصلت، ونحن نعمل على جمع التبرعات على قدم وساق لشعبكم الأصيل والصابر المجاهد المرابط» .
وأشار (أبو سالم) إلى أن ثمرات الحملة الشعبية فاقت التصور؛ فقد قُدِّمت كيلو غرامات كثيرة من الذهب في رام الله ... وأشار في الوقت ذاته إلى أن إحدى العرائس قدمت مهرها وقالت: «أنا متنازلة عن كل مهري» وفي اليوم الثاني قدمت إحدى الطالبات بالجامعة ـ علماً بأن والدها أسير ـ قدمت مهرها أيضاً.
وتابع: «نحن على استعداد ليس كما قال (إسماعيل هنية) أن نعيش على الزيت والزعتر، بل على استعداد ـ وهذه رسالة معظم الشعب الفلسطيني، وأنا أتكلم باسم الشعب الفلسطيني باعتباري نائباً من النواب الذين اختارهم أكثر الشعب الفلسطيني ـ نحن على استعداد أن نأكل الخبز الناشف، ولسنا على استعداد أن نقبِّل أقدام أعداء الأمة في أي حال من الأحوال» .
واستدرك: «نحن بدأنا الدعوة للتبرعات على أنها رمزية ولكن، ولأنها خرجت من قلوبنا وصلت إلى آذان العالم وقلوبهم» .
واللهَ نسأل أن يلطف بالشعب الفلسطيني المجاهد، وأن ينصره على أعدائه وخاذليه إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.