د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإنَّ الحراك الاستثماري وجملة التفاعلات الاقتصادية في المجتمع الخليجي كان لها أثر إيجابي محمود عند بعض الناس، لكنها في الوقت نفسه أوجدت في المجتمع أنماطاً سلبية من السلوك الاجتماعي أخذت في التفاعل والنمو، وأدخلت المجتمع في دوامة التطلعات الاستهلاكية، وأصبحت ظاهرة التقليد والمحاكاة وحب الظهور، ونحوها من الظواهر آسرة لحركة كثير من الأسر.
وتهافت الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية في الآونة الأخيرة ـ في منطقة الخليج العربي بخاصة ـ على الاشتغال بتجارة أسهم الشركات؛ وهي ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، خاصة بعد أن تجاوزت حدود الاعتدال والاتزان عند كثير من الناس، بَلْهَ بعض الصالحين.
وازدادت أهمية دراسة هذه الظاهرة بعد الانكسارات والخسائر الحادة في الأسواق الخليجية، وما ترتب عليها من آثار نفسية واجتماعية مقلقة على بعض الأفراد والأسر.
ولا شك بأنه يؤلمنا كثيراً أن يتعرض بعض المسلمين لخسارة مادية مهما كان حجمها؛ فكيف إذا كانت كبيرة؟ ومن واجبنا في ظل هذه الظروف أن نثبِّت الناس، ونُصبِّرهم، ونواسيهم، ونقف معهم في مصابهم، ونشاطرهم همومهم، ونطالب بحقوقهم، ونضع أيدينا على مكامن الخلل والقصور لعلاجها والتقليل من آثارها. ولْنتأملْ سيرة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فعلى الرغم من الأولويات العقدية الكبرى التي تصدى لها ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ أول البعثة، إلا أنه تصدى أيضاً للفساد والظلم الاجتماعي، وعايش هموم الناس المعيشية ومشكلاتهم الحياتية، وتنزل عليه في العهد المكي آيات كثيراة في هذا السياق، منها: قول الله ـ تعالى ـ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] ، وقوله ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3] .
ونؤكد هنا أن العمل في الاستثمار والتجارة من الأمور المباحة شرعاً. قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ، وقال الله ـ تعالى ـ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بل قد تكون من الأمور المحمودة التي يثاب عليها العبد إذا حَسُنت نيته؛ فإن الكسب الطيب المباح طريق مبارك للتعفف والاستغناء عن الناس؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم» (1) . وقد كان بعض الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ والتابعين على فضلهم وزهدهم يمارسون التجارة، ويوصون القادرين من أصحابهم على التجارة والكسب لما في ذلك من الترفع عن أهل الدنيا والاستغناء عن الناس، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» (2) . ويتأكد ذلك في هذا العصر في حق العلماء والمصلحين؛ فكلما كان هؤلاء في غنى عن الناس، مترفعين عما في أيديهم؛ كانوا أكثر شرفاً وعزة وقوة في الحق وثباتاً عليه. وما أجمل قول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمّالَ أنفسهم» (3) .
لكن ها هنا مسائل مهمة يحسن ذكرها والتأكيد عليها:
1 ـ فتنة المال:
الفتن التي تُعرض للإنسان في حياته، وتُفسد عليه دينه، كثيرة وكثيرة جداً، ومن هذه الفتن: (فتنة المال) ؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» (4) ، وصح أيضاً قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (5) . فالاغترار بالمال وتعلق القلب بحبه، باب عريض من أبواب الغفلة والانحراف. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8] .
ولهذا ينبغي للإنسان إذا اشتغل في التجارة بأي صورة من صورها ـ أن يحذر من هذه الفتنة التي وقع في أعماقها فئامٌ من الناس، ولا يغفل عن ذكر الله ـ عز وجل ـ ومراقبته في السر والعلن، ويكون ممن قال فيهم ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ؛ فالغفلة داءٌ مهلك تُغرق المرء في هموم الدنيا وأهوائها، وتحجبه عن طاعة الله والتزام أمره ونهيه، وقد رأينا في حمَّى الأسهم أقواماً يعكفون أمام الشاشات، ويلهثون وراء دنياهم، ثم يزداد لهاثهم وطمعهم، حتى يكادوا ألاَّ يعرفوا شيئاً غيرها، فنسي بعضهم أهله وولده، وفرط في حقوق كثيرة ـ والعياذ بالله ـ وأصبحت حركة الأسهم هي حديث المجالس والمنتديات الخاصة والعامة، ولا نبالغ إذا قلنا إنها أصبحت هي الهم الأكبر والشغل الشاغل عند بعضهم، وتعجب أشد العجب من تسابق الناس وتنافسهم، بل وتدافعهم وتهارشهم على المساهمة والاكتتاب! ولهذا جاء وعيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمثال هؤلاء بقوله: «من أصبح والدنيا أكبر همه: فرَّق الله عليه صنيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له. ومن أصبح والآخرة أكبر همه: جمع الله عليه صنيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (6) .
والجدير بالذكر في هذا السياق أن بعض الصالحين ممن اشتغلوا بتجارة الأسهم أخيراً لم يَسْلَموا مما وقع فيه كثير من العوام؛ فقد غارت أقدام بعضهم في تلك الأسواق شيئاً فشيئاً، وازداد بريق الدنيا في نفوسهم، حتى أشغلهم ذلك عن بعض ما تربوا عليه من أمر العلم والدعوة والتربية، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (7) .
وهذا يؤكد أن التوازن والاعتدال مطلب ملحٌّ يعصم الإنسان من الاندفاع والغلو غير المنضبط. قال الله ـ تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] .
2 ـ التوقي والحذر من المحرمات:
من الظواهر اللافتة للنظر أن بعض الناس ـ بارك الله فيهم ـ كانوا يحرصون أشد الحرص على التوقي والحذر في سوق الأسهم، فلا يُقدِمون إلا بفقه، وكانوا يرجعون إلى أهل العلم والاختصاص في معرفة الشركات التي تجوز المساهمة فيها، لكن ممّا يؤسَف له كثيراً أن بعض الناس يتهاونون في معرفة الحلال والحرام، ويتساهلون في الوقوف عند حدود الشرع، فأصبح المعيار الذي معه يدورون: هو مقدار الربح المادي، فتلوثت بعض الأسواق بكثير من المحرمات، وتطاولت بعض الأيدي على الكسب الحرام، وكثر الغرر والنجش والتدليس، وتهاون بعضهم حتى في شأن الربا الواضح البيِّن ـ والعياذ بالله ـ وراحوا يعتذرون لأنفسهم بمعاذير واهية وحيل ملتوية، وبتكلُّف واضح ظاهر البطلان، حتى أصبح بعضهم لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب في هواه.
ثم إن تكاثر الناس وتتابع سقوطهم في هذه الأراضي الموحلة جرَّأ بعض المترددين وضعاف النفوس، ودفعهم للوقوع في المحرمات والتهاون فيها؛ فانتشر البلاء وظهر الفساد.
ولا نستبعد أن تكون انهيارات أسواق الأسهم ابتلاء من الله ـ تعالى ـ لبعض الناس، وعقوبة لآخرين ممن تجرؤوا على حرمات الله ـ تعالى ـ وجاهروا بالربا. قال الله ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] ، وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . [البقرة: 278 - 279]
وتأمل قول الله ـ تعالى ـ: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُلّ» (8) ، ثم انظر إلى حال بعض الناس ممّن انتفشوا حيناً من الدهر بأموالهم الربوية واطمأنوا بها، كيف عاقبهم الله ومحق بركة أموالهم. نسأل الله السلامة والعافية.
وما أصاب المسلمَ من عقوبة في الدنيا إلا بسبب ذنوبه وتفريطه. قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ، وقال ـ تعالى ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الروم: 41]
إنها دعوة للمراجعة والتوبة وتطهير الأسواق من المحرمات. قال الله ـ تعالى ـ: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . [البقرة: 275]
إنها دعوة للأخذ على أيدي السفهاء الذين تطاير شررهم، وكثر فسادهم وإفسادهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: 5] .
3 ـ تحصين المال بالصدقات:
حينما يكون المال في يد الإنسان، وليس في قلبه فإنه يستشعر فضل الله ـ عز وجل ـ عليه، فتكون يده طاهرة، عفيفة، مقبلة على الطاعات، ندية بالصدقات، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والصدقة برهان» (9) ، أي: برهان على الإيمان؛ لأن قلب العبد لا يتعلق بالمال، ولا يسيطر عليه الجشع والطمع؛ بل يُقبِل على ربه بالبذل والعطاء، طيب النفس بذلك. قال الإمام النووي في معنى (برهان) : (معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها؛ فإن المنافق يتمنَّع منها لكونه لا يعتقدها؛ فمن تصدق استُدل بصدقته على صدق إيمانه) (10) . فالمال محبوب لكن أهل الإيمان يقدمون حبهم لله على حبهم للمال. قال الله ـ تعالى ـ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} . [الإنسان: 8]
ومن أعظم ما يحفظ المال ويبارك فيه: الحرص على إخراج الحق الشرعي الواجب فيه. قال الله ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] .
وقال ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وأعدوا للبلاء الدعاء» (11) . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» (12) .
من أجل ذلك كان المال نعمة جليلة إذا وُظِّف في طاعة الله ـ تعالى ـ وفي بذل المعروف، وفي الإنفاق في أبواب الخيرات. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه: فنعم المعونة» (13) .
ختاماً نقول:
إن الدروس والعبر التي ينبغي تذاكرها والوقوف عندها كثيرة، وحسبنا في هذا المقام أن ندعو العلماء والمصلحين إلى استثمار الحدث وتوظيفه في توعية الناس وتذكيرهم بفضل الله ـ عز وجل ـ وبيان أن النعم إنما تدوم بشكر المنعم وطاعته، وتزول بالكفران والعصيان. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.