فهد بن محمد القرشي
غير خاف على القارئ الكريم أن كل إنسان لديه قدرة فاعلة في البناء والتغيير أو الهدم والتدمير، على اختلاف مستوياتهم وتعليمهم؛ فمن الحمق والخطأ إهدار طاقات البناء وتهميشها أو التقليل من شأنها، ولو كانت هذه الطاقة الإيجابية شيئاً ليس ذا بال عند بعض الناس (?) .
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ ـ أَوْ شَابّاً ـ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ» . فانظر إلى هذه الطاقة الفاعلة، والعمل الذي لا يمكن أن يستغني عنه المسلمون، وهو قَمُّ مساجدهم؛ فهل من الحق إهداره أو تهميشه؟ ومما يؤكد على تثمين المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- ـ بأبي هو وأمي ـ لتلك الطاقة وذلك العمل، سؤاله عنها أو عنه، وغضبه حينما أخبروه بوفاتها أو وفاته ودفنها دون إعلامه، فقال لهم: دلوني على قبرها. فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ بنفسه الشريفة ـ ومعه أصحابه الكرام البررة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ إلى قبر تلك المرأة السوداء، وصلوا عليها، ودعوا لها، تثميناً من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا العمل، ولو كان الفاعل له رجلاً أسود أو امرأة سوداء.
إن مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان، هو أهمية الدور الذي يقوم به الدعاة والمربون والمعلمون والموجهون في العملية التربوية؛ فدورهم دور رئيس، وهم جزء لا يتجزأ منها، لذا كان لزاماً تذكيرهم ببعض الأمور، التي أجزم سلفاً بمعرفتهم لها أكثر مني، ولكن كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ، ومن أهم هذه الأمور:
أولاً: ما تُذكَّر به تلك النخب (?) بعد تقوى الله ـ تعالى ـ في خاصة أنفسهم، أن يتقوا الله ـ تعالى ـ فيمن تحت أيديهم من أولئك الشبيبة الذين هم أمانة في أعناقهم، وسوف يُسألون عنهم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
ثانياً: تربية من تحت أيديهم على تقوى الله ـ عز في علاه ـ ومراقبته ـ سبحانه ـ في السر والعلن، وفي كل ما يأتون وما يذَرون، وغرس ذلك في نفوسهم.
اغرسوا في قلوبهم أن تكون مقاصدهم مناطةً بما عند الله ـ تعالى ـ وأن لا يتطلعوا إلى شيء من زخارف هذه الدنيا الفانية الزائلة بكل ما فيها من شهوات وملذات. قال الله ـ تعالى ـ مخاطباً نبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
علموهم أن ما عند الله خير وأبقى كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] . وهذا كله من أُس العبادة وشروطها وضمان قبولها بإذن الله. فلا بد أن نَخرج من حظوظ نفوسنا الأرضية والآنية؛ فكلنا يعلم أن أول شروط قبول العمل عند الله ـ تعالى ـ الإخلاص لله ـ عز في علاه ـ وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه ـ عز وجل ـ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» . رواه مسلم. فأي خزي وعار على الإنسان أن يُقال له يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يوم يحشر الله الأولين والآخرين: اذهب إلى من كنت ترائي بعملك عنده ليعطيك أجرك!
فحذارِ حذارِ ـ إخوة الإسلام ـ من أن نجعل دعوتنا مطية لأغراضنا الشخصية، أو للوصول إلى شهواتنا الأرضية.
أخي الكريم: أليست الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ عبادة؟ وجوابك قطعاً: بلى! فإذاً لا بد أن يتجرد الإنسان فيها لله، وأن يخرج كلياً من حظ نفسه، وحزبه، وقومه، وطائفته، و ... ، و ... ، و ... إلخ.
ثالثاً: تربية من تحت أيديكم على الارتباط بالمنهج المعصوم منهج أهل السنة والجماعة، والتعلق به، دون التعلق بالأشخاص أو الأحزاب أو الجماعات أو الشعارات أو ما شابه ذلك. فلا بد لمن أراد نجاة نفسه أن يكون ولاؤه وارتباطه وتعلقه بالمنهج المعصوم المتمثل في الكتاب والسنة.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة» .
رابعاً: تربية من تحت أيديكم على ما يُوسِّع آفاقهم عِلمياً وعملياً وأخلاقياً، وينمي ثقافاتهم الإسلامية الأصيلة، لا سيما ونحن نعيش في عصرٍ انفتح العالم فيه بعضه على بعض حتى أصبح قرية واحدة كما يقال. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض شباب الإسلام يدور حول نفسه، ولا ينظر إلا إلى موضع قدميه، لا يعرف من الأقوال إلا ما أُشربه من هواه أو من شيخه أو من جماعته أو من حزبه أو ما يُملى عليه.
ولا أظن أن أحداً يخالفني في أن المرحلة القادمة تحتاج منا إلى إعادة صياغة لمناهجنا التربوية، وأساليبها المتبعة؛ فإنَّ ما كان يُجدي ـ لا أقول قبل عشرين سنة بل قبل عشر سنوات ـ لم يعد يُجدي في هذه المرحلة، كل ذلك لا بد أن يتم في حدود ما تسمح به الشريعة الإسلامية، دون القفز على ثوابتها ومحكماتها ومسلَّماتها وأصولها، كما هو ملاحظ ومشاهد من بعض دعاة ما يسمى بالفكر المستنير في العصر الحاضر.
خامساً: تربية من تحت أيديكم على الاستشارة، الاستشارة التي وردت بها النصوص القرآنية، والسنة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام ـ وليست ما يعرفه كثير من المربين ـ إلا ما رحم الله ـ والتي تعني عندهم عدم الخروج عما يوجهون به، أو يُدلون به من آراء اجتهادية. وقد انبنى على هذا الخطأ في معنى الاستشارة خطأُ آخر وهو: إنزال الناس منازلهم؛ فعند ذلك الشيخ أو المربي أو المعلم أو الموجه قربُ الشخص منه مرتبط بتطبيق وتنفيذ استشاراته التي أضفى عليها ـ ذلك المربي ـ الصبغة الشرعية، والعصمة، ولو كان ذلك الرجل ليس فيه من المقومات والمؤهلات التي يستحق بها أن يكون في ذلك المكان، ولكن كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة
ولكن عين السخط تٌبدي المساويا
سادساً: تربية من تحت أيديكم على فقه المصالح والمفاسد؛ فإن من مقاصد الدين: جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا باب واسع، وفقه عريض، لا يحسنه إلا من وفقه الله له، والأدلة على ذلك كثيرة ليس المقام مقام سردها (?) .
يقول صاحب كتاب المسار: «إن المصلحة اليسيرة إذا زاحمتها المصلحة العظيمة أمكن تفويتها وتقديم العظيمة، واحتمال قليل المفسدة لدفع التي هي أكبر منها، كما أبقى النبيُ الأعزُ -صلى الله عليه وسلم- المنافقَ الأذلَّ عبدَ الله بن أُبَيِّ بن سلول حياً يكيد ويظاهر اليهود، ويؤذي، واحتمل مفسدته حذراً من وقوع مفسدة أكبر، ألاَّ يجفل أشراف العرب عن الإسلام خوفاً من القتل.
ثم العقل يؤيد هذا النهج، فقد قيل: إن المُنْبَتَّ ـ أي المسرع المُجْهِد لنفسه في السير ـ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ـ أي ظهر دابته التي أماتها بالتعب، فتركته وحيداً وسط الصحراء.
إن احتمال المنكر مدةً يسيرةً أيسر من مجازفة متهورة تخفق وتبقي ـ هذا المنكر؛ وقاعدة الترجيح بين المصالح المتعارضة أثناء قيام الداعية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هي قاعدة صحيحة شرعاً ومنطقاً، وعلى الداعية أن يُوازن بين ضرر المنكر قبل إزالته، والضرر الذي قد ينشأ ويرافق إزالته: أيهما أكبر؟ وبين كمية المعروف الموجودة وكمية المعروف التي قد تفوت منها إذا أمرنا بمعروف آخر، أيهما أجزل؟
إن هذه القاعدة هي من أهم القواعد التي تكفل للدعاة حسنَ السياسة وواقعية الخطوات، وإذا غابت عن ذهن الدعاة فإن غيابها سيوقعهم في إحدى سيئتين:
إما التهور، وإما اليأس الذي يحول دون اغتنام الفرص. والتهور هو الأخطر (?) .
سابعاًً: غرس الأخلاق الإسلامية الفاضلة في نفوسهم، من بر للوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضاء بمُر القضاء.
اغرسوا في نفوس أبنائكم: أن يَصِلوا من قطعوهم ـ خاصة إذا كانوا من أرحامهم ـ وأن يُعطوا من حرموهم، وأن يعفوا عمن ظلموهم، وأن يصلوا أرحامهم (?) ، وأن يحسنوا جوار من جاوروه (?) ، وأن يحسنوا إلى اليتامى، وأن يتفقدوا الأرامل والمحتاجين، وأن يرفقوا بالخادم والمرأة والغريب.
علموهم أن يتواضعوا ولا يتكبروا، علموهم أن لا يفخروا ولا يبطروا، ولا يبغوا ولا يتعالوا على الخلق أو الحق.
حذروهم من العجب والخيلاء والغرور والكبر وبطر الحق، وغير ذلك من مكملات العقيدة الإسلامية، التي ذكرها شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية (?) .
ثامناً: تربية من تحت أيديكم على معالي الأمور وتجنب سفسافها. رتبوا قضايا الأمة الإسلامية المصيرية في أذهانهم ترتيباً شرعياً مراعين فيه الأهم فالمهم، والمُجمَع عليه من غيره؛ فليس من المعقول أن نجعل قضية فلسطين تلك القضية المصيرية والمحورية للأمة مثل غيرها، وإن كان الجميع لا بد من الاهتمام به. والحذر من رفع أي قضية من القضايا الإسلامية عن مكانتها اللائقة بها.
تاسعاً: علموهم أن حسن العهد من الإيمان (?) ، علموهم أيضاً حفظ المعروف، وحفظ اليد، كما كان يفعل رسولنا -صلى الله عليه وسلم-. روى البخاري في صحيحه من حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ ـ وكانوا سبعين من صناديد الكفر ـ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيّاً ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . فانظر كيف حفظت هذه النفس الشريفة الكريمة معروفاً مقدماً لها (?) ، لا أقول من مسلم بل من كافر.
عاشراً: تربية من تحت أيديكم على العدل، نعم! العدل الذي قامت به السموات والأرض؛ العدل في الأقوال كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] ، ومقتضى الآية أن يقول الإنسان بالعدل ولو كان ضد أقرب قريب، أما أن يكون الإنسان مع محبيه يقول بالعدل ومع مخالفيه بعكس ذلك فهذا غلط واضح. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
وكذلك العدل في الحكم بين الناس كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . وأدعو القارئ الحصيف أن يتأمل في واقعنا: هل نحن نقوم بالعدل؛ لا أقول مع الكفار والمخالفين؛ بل مع إخواننا ممن هم على منهج أهل السنة والجماعة أم لا؟ تاركاً الجواب له.
وأخيراً العدل في المخاصمة كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
الحاد ي ع شر: تربية من تحت أيديكم على الاتصال بالله ـ سبحانه عز في علاه ـ عن طريق كثرة التعبد له سبحانه؛ فإن مما هو ملاحظ على كثير من الأخيار والطيبين انشغالهم عن هذا الباب العظيم، الذي يساعدهم في تهذيب أخلاقهم ونفوسهم. فليس من العقل في شيء أن ينشغل الشخص بالقيل والقال، والغيبة والنميمة عما ينفعه من العبادة التي أمر الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين بأن يستعينوا بها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} .
[البقرة: 45] .
الثاني عشر: حث من تحت أيديكم على الجد والاجتهاد في طلب العلم، وإن كنتُ أومن بأن طاقات الأمة مختلفة ومتنوعة؛ ففيهم العالم، والمجاهد، والمحدث، والفقيه، والطبيب، والمهندس، و ... ، و ... ، ولكنَّ هناك حداً من العلم لا ينبغي أن ينزل عنه المسلم، وخاصة فيما يتعلق بأمور اعتقاده، وأمور عباداته من صلاة وصيام وزكاة ـ إن كان من أصحاب الأموال ـ وحج وغير ذلك.
الثالث عشر: تربية من تحت أيديكم على الاهتمام الكبير بأعمال القلوب، فهي الأصل الأصيل، والركن الركين، ولا يعني هذا أن نُهمل أعمال الظاهر؛ فكما هو مقرر من مذهب أهل السنة والجماعة أن هناك تلازماً وترابطاً بينهما. ولكي نعرف أهمية أعمال القلوب فلننظر إلى أركان وشروط كلمة التوحيد، فإننا نجد أن هذه الشروط شروط قلبية من: العلم، واليقين، والقبول (?) ، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة؛ فكل هذه الشروط أصلها القلب. ناهيك أخي الكريم عن أن موضع نظر الرب هو القلب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم. ومع هذا وغيره مما يدل على أهمية أعمال القلوب فإننا نرى قصوراً واضحاً في الاهتمام بها، وعدم اكتراث، بل نهتم بظواهرنا على حساب بواطننا. بل إن التقصير في الشعائر التعبدية وأعمال الجوارح مرده إلى الإخلال بالاهتمام بعمل القلوب، وكما قيل: إن أي ضعف في توحيد الربوبية ينتج عنه ضعف في التفكر في مخلوقات الله، وأي ضعف في توحيد الألوهية ينتج عنه ضعف في العبادة. فالقضية طردية تظهر لك مدى التلازم بين الظاهر والباطن.
الرابع عشر: تربية من تحت أيديكم على تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة؛ فإن مما ابتلي به كثير من الناس ـ إلا من رحم ربي ـ هو تقديمهم لمصالحهم الخاصة، ولو كان ذلك على حساب المصالح العامة، وقد استقر في علم الأصول أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة.
أخي الداعية والمربي والموجه والمعلم: اعلم ـ وفقني الله وإياك لمرضاته ـ أن الله ـ تعالى ـ أبان لنا طريق الدعوة وبين لنا أصولها ورسمها لنا، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ، وقال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .
ففي هاتين الآيتين أبان الله ـ تعالى ـ لنا طريق الدعوة ورسمها لنا؛ فأول أصولها وأركانها وشروط صحتها: أن تكون الدعوة لله ـ تعالى ـ لا لأشخاصنا، ولا لجماعاتنا، ولا لأعرافنا، ولا لشعاراتنا وأحزابنا. وهذا مفترق طريق بين الدعاة المخلصين الذين يريدون ما عند الله ـ تعالى ـ وبين أولئك الذين يريدون أن يصنعوا لأنفسهم هالة، ويحيطوها بسياج منيع، مصورين للأغرار والسذج من أتباعهم أن القدح فيهم هو قدح في الإسلام، وأن أي تجنٍ عليهم إنما هو تجنٍ على الإسلام، وأن أي مخالفةٍ لطريقتهم إنما هي مخالفة للإسلام، وأن أي خروج عن آرائهم ومشورتهم خلع لربقة الإسلام، فلسان حاله يقول: أنا الدعوة والدعوة أنا.
هذا الصنف من الدعاة سيسقطون حتماً ولا بد ـ كما عرفنا ذلك من السنن الإلهية ـ في بداية الطريق أو منتصفه أو منتهاه ويكونون ـ والعياذ بالله ـ من الثلاثة الأوائل الذين تُسعَّر بهم النار يوم القيامة (?) ؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل. هذه واحدة.
أما بالنسبة للنقطة الثانية: فإننا نرى ثلة من الدعاة والمربين والموجهين والمعلمين ممن الله ـ تعالى ـ أعلم بنياتهم ومقاصدهم، فهو ـ سبحانه ـ المطلع على ما في قلوبهم ـ نراهم حريصين على العمل الدعوي، وهذا أمر يُشكرون عليه، ولكن الذي لا يُشكرون عليه تشبث بعضهم ببعض تلك الأعمال حتى لكأنها تركة وإرث ورثه عن أقاربه؛ فهناك مؤسسات دعوية منذُ أن أُسست والقائم عليها شخص واحد، ربما إلى أن تُقفل، وترى ذلك الشخص عضواً في أكثر من عشرين جمعية، وإذا ما نُبه إلى غلط هذا العمل صاح واشتكى من قلة الطاقات، وهو وأمثاله ممن ساهم في قتلها أو تعطيلها أو تهميشها شاء أم أبى.
فالإسلام ـ أيها الإخوة الكرام ـ حرص على أن يقوم المسلم بعمله بإتقان وإخلاص، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم. فهل سيكون الإتقان ـ دع عنك الإخلاص ـ فالله تعالى أعلم به ـ من شخص تشعب فؤاده وتقطع في أودية تلك الأعمال التي لو كَلف نفسه حضور اجتماعاتها فقط لما استطاع؟ فكيف بالأعمال المناطة به، والدور المنتظر منه. ولك أخي القارئ الكريم أن تتصور حال ذلك الرجل الذي تشعب فؤاده، وتفرقت همته، وتشتت جهده، في حين أنه لو ساهم وشارك في نصف ذلك العدد لكان إنتاجه أضعافاً مضاعفة. فأصبحت مهامه شرفية أكثر منها دعوية.
أَنَسِيَ ذلك الرجل أن المشاركة في تلك الأعمال ديانة وأمانة يُسأل عنها يوم القيامة؛ فماذا قدم لها وماذا عمل فيها؟
فالذي أراه أنه لا بد من تجديد الدماء في تلك المؤسسات الدينية، وتشغيل الصف الثاني والثالث فيها، ولا يعني هذا إهمال أولئك القوم بل لهم مكانة عظيمة في التوجيه والمشورة والاستشارة.
وكم أعجبني ذلك الطبيب الذي عُين عميداً لإحدى الكليات الصحية، لمدة عامين كاملين، وقد وضع لنفسه برنامجاً لهذين العامين، ثم بعد انتهائهما طُلب منه التجديد لفترة ثانية فرفض، وعندما عُوتب في ذلك قال ـ بلسان الإداري المحنك والناجح ـ: ليس لديَّ جديد أقدمه للفترة الثانية، وأترك المجال لغيري ليقدم ما عنده لهذه الكلية. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة أفقه، وفهمه للإدارة الناجحة؛ إذ ليس من الإدارة الناجحة في شيء أن يظل الإنسان على رأس هرم تلك المؤسسة أو الإدارة منذُ إنشائها إلى إغلاقها أو إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
والشيء بالشيء يُذكر: خذوا مثلاً آخر تُعطل به طاقات كامنة وفاعلة، وهو قضية التربية؛ فبعض من يمارسها من الدعاة والمربين والموجهين من النخب وغيرهم، يقعون في أخطاء يهدرون بها تلك الطاقات، فينبغي أن يتنبهوا لها.
فمن المتعارف عليه أن التربية لا بد أن تمر بمراحل متعددة، وكل مرحلة لها ما يُناسبها، وكما قيل: البس لكل حالة لبوسها. فطالب المرحلة المتوسطة يختلف في مداركه وفهمه واستيعابه عن طالب المرحلة الثانوية، وهذا يختلف عن طالب المرحلة الجامعية، والمعيد أو المحاضر أو المدرس يختلفون عن طلاب المرحلة الجامعية، والموظف أياً كانت وظيفته يختلف عمن سبق ذكرهم، فلا بد من إعطاء كل واحد ما يناسبه، وإلا كان حديثنا لبعضهم فتنة. قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (?) . وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (?) . وقد بوب البخاري في جامعه الصحيح باباً وَسَمَه بـ: باب من خص بالعلم قوماً دون قومٍ كراهية أن لا يفهموا. ناهيك عما إذا احتاج العالم وطالب العلم أن يترك بعض ما يراه ويختاره مخافة أن يفهمه بعض الناس على غير وجهه، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه. وذكر تحت هذه الترجمة حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَائِشَةُ! لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ ـ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ ـ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ» . فانظر كيف ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة (?) .
فمستوى الطالب المتلقي يفرض عليك في بعض الأحيان أن تُراعي أموراً قد لا تحتاج إلى مراعاتها مع غيره. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ. قُلْتُ ـ القائل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ـ: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ، يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ ... الخ» (?) . فتأمل كيف أشار عبد الرحمن ابن عوف على عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ بتأخير خطبته إلى رجوعه إلى المدينة، وكيف نزل أفضل رجل في ذلك العصر على رأي صاحبه، دون ممانعة أو مجادلة.
ولكن الخطأ يكمن في أن بعض المربين يتغافل عن هذه المنهجية التربوية، والتسلسل المنطقي فيها، بقصد أو بغير قصد، فتراه يريد أن يستلم الطالب المتلقي عنه منذ نعومة أظفاره ـ بحيث يكون له موجهاً ومربياً ومفتياً ومعلماً ـ إلى أن يُدخله قبره. وهذا الخطأ مركب من أمرين:
الأول: إغفاله للمنهجية التربوية في تسلسلها؛ فإن قدرة المربي في المرحلة المتوسطة تختلف عن قدرته في المرحلة الثانوية، وقدرته في المرحلة الثانوية تختلف عن قدرته في المرحلة الجامعية، وقدرته في المرحلة الجامعية تختلف عن قدرة العلماء الربانيين.
الثاني: افتراض الكمال في شخصه، وهذا فيه ما لا يخفى على اللبيب (?) . فيجب أن يكون هناك تعاون مشترك بين المربين، يكمن في إكمال بعضهم لبناء بعض؛ فمربي المرحلة المتوسطة، يُسلم قياد من تحت يده إلى المربين في المرحلة الثانوية، وهكذا. أما أن يحرص بعضهم على التمسك بطلابه حتى بعد نضجهم وتخرجهم وانخراطهم في المجتمع ولو كانوا بعيدين عنه؛ فإن هذا لا يجديهم نفعاً، بل هو أشبه بالتكرار. في حين أنه ـ ذلك المربي ـ لو أخذ مع ذلك المتربي جولته، ثم أسْلمه إلى من هو أقدر منه تربيةً، وأكثر منه علماً، وأغزر فقهاً، وأوسع أفقاً، وأرسخ قدماً، وأثبت جأشاً، لكان هذا أنفع للمتربي، ولتنمية طاقاته أكثر بكثير.
ولا أدري أنسي ذلك المربي أن من أهم أسباب ضعف التربية كثرة المتربين وقلة المربين؛ بمعنى أن اليدَ المربية تُرْهَقُ بالمجموعة الكبيرة ـ الذي كان المربي سبباً في كثرتها؛ لأنه لم يُسْلم بعض أولئك المتربين إلى منه هو أعلم منه بالتربية وأقدر على ذلك ـ ويظل المستوى التربوي هابطاً.
وأختم حديثي بهمسات في أذن أخي المدعو ـ وكلنا ذلك الرجل ـ بكلام مختصر خشية الإطالة، عملاً بالحكمة القائلة: (خير الكلام ما قل ودل، ولم يطُلْ فيُملَّ) ، فسوف يكون كلامي معك أخي المدعو مقتضَباً، وشبيهاً بالرسائل المستعجلة، نفعني الله وإياك بها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فأولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله، تقوى الله التي تعني مراقبته في السر والعلن، في الرضا والغضب، في المنشط والمكره، في الفرح والسرور، وفي كل أحوالك، وكما قيل: إن تقوى الله هي: أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. وهذا لا يكون أبداً إلا إذا امتلأ قلبك بحب الله ـ تعالى ـ وبالتطلع إلى ما عنده ـ سبحانه وتعالى ـ وحده.
ثانياً: أخي الكريم: إياك ثم إياك أن تحقر نفسك؛ فأنت وإن هنت على الناس إلا أنك كريم على رب الناس. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: «أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلاً دَمِيماً، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي! مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ـ أَوْ قَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ» .
ناهيك عما فيك من الطاقات الكامنة ما تستطيع به نفع نفسك أولاً ثم أمتك. ولكن المشكلة تكمن في أن كثيراً منا لا يفرق بين اكتشاف الموهبة وتنميتها، فيسمع كثيراً ممن يتحدثون عن هذا، فينتظر شخصاً يأتيه ليكتشف مواهبه وطاقاته الكامنة ليفجرها، وهذا لن يكون أبداً؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يدخل إلى سويداء قلبك وعقلك لمعرفة تلك المواهب والطاقات، ولكنّ الخطوة الأولى لا بد أن تكون منك أخي المدعو فتنظر في نفسك ومواهبها وما تميل إليه؛ فإن النفس كلما اشتغلت بما هو من ميولها أو قريب منه أنتجت فيه، فتبدأ بإظهارها، ليتسنى للمربي والموجه والمعلم والداعية بعد ذلك تنمية هذه الموهبة وتفجير تلك الطاقة الكامنة، ثم بعد ذلك تشتركان في تنميتها جميعاً.
ثم بعد اكتمال تلك الموهبة والطاقة ـ بعد تنميتها وتنقيتها من قِبَل المربين بما يوافق شرع ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ وسنة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- حذارِ حذارِ من قتلها نزولاً عند خطأ مربٍ لم ينمِّ تلك الطاقة والموهبة كما ينبغي، أو حسدٍ من عند نفسه. وفي الوقت نفسه إياك ثم إياك من العُجْب والغرور والتعالي والكِبْر؛ فإن هذه مهلكات للفتى وإن لم يشعر؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] ومن أنواع العذاب ذهاب تلك الموهبة والطاقة منك أخي الحبيب.
ثالثاً: لا بد من التفريق بين الاتِّباع والتقليد؛ فالتقليد اتباع قول الغير دون معرفة الدليل، وقد ذم السلف هذا النوع من التقليد أيما ذم، وكان للإمام ابن حزم في هذا القِدْح المعلَّى، فكان مما هجا به المقلد: لا فرق بين مقلد وبهيمة؛ ناهيك عن أن التقليد تأباه النفوس الأبية السوية، وتنفر منه الطباع المستقيمة، وهو ألصق ما يكون بالنفوس الضعيفة. أما الاتِّباع فهو اتباع الغير عن علم ومعرفة لدليله، وقد مدح الله المؤمنين بهذا في كتابه العزيز فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ، فلم يقل ـ سبحانه ـ: أنا ومن قلدني، وإنما عبر بالاتباع؛ لأنه الأليق بذلك الجنس الذي كرمه الله ـ تعالى ـ على مخلوقاته. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] .
أقول هذا لأننا نرى بعض الناس قد عطل عقله وفكره، وأصبح لا يرى إلا ما يراه مربيه، ولا يسمع إلا ما يسمعه، ولا يتكلم إلا بما يرضيه، حتى وصل الحال ببعضهم أن يقبل الطعن في أئمة الإسلام وفحوله ولا يقبله في مربيه. أهكذا يُربى الرجال الذي يذودون العدو عن حياض الإسلام؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد!
رابعاً: اعلم أخي المبارك ـ نفعني الله وإياك بالعلم النافع، ووفقنا للعمل الصالح ـ أن الدين الإسلامي دين عظيم، جاء لإصلاح جميع مناحي الحياة، وإصلاح أحوال الناس كلها؛ في اعتقاداتهم، وعباداتهم، وأخلاقهم، وسائر أحوالهم، وقد أصاب المسلمين خلل كبير في جميع هذه الأمور، ويستدعي إصلاحُ هذا كله جهوداً كبيرة من التعليم والتدريس، والتوجيه، والتأليف، فلا يجوز لنا بحال من الأحوال أن نختصر نصرة الدين وإظهاره وتمكينه في وسيلة واحدة من وسائله الكثيرة. فالأمة الإسلامية بحاجة إلى جيوش كثيرة من العلماء العاملين، والخطباء الصادقين، والدعاة المخلصين، والمفتين الربانيين، والأطباء، والمهندسين ... إلخ، فيجب على الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وأن لا يحقر بعضهم ما يقوم به الآخر؛ فكلنا لا بد أن يكمل بعضنا بعضاً.
ولا يظنَّنَّ أحدٌ أنه هو الوحيد الذي ينصر الدين وينافح عن الملة بالطريقة التي اختارها والوسيلة التي ارتضاها، وإلا نتج عن ذلك مفسدتان هما: الأولى: رؤية نفسه، وإعجابه بعمله، وهذا فيه ما فيه. الثانية: احتقار جهود الآخرين، وازدراؤها، واستقلالها، وكفى بالمرء إثماً أن يحقر أخاه المسلم. ولَكَم أعجبني ما قاله صاحب كتاب المسار تحت عنوان (تكامل الهمم) حيث قال: «وضرب بعض الدعاة مثلاً لنا في ذلك كمثل أهل قرية، يمر بهم رجل عالم فقيه لا يسمع خلال دُورهم أذاناً، فيبتئس، ويعظهم، ويطلب منهم حملة يتعاونون فيها على بناء مسجد، فهو الرائد المؤسس.
ثم يتنادون، كل حسب استطاعته، فيقول أحدهم: أهب للمسجد ناحية من أرضي تبنونه عليها وليس لي مال. ويقول آخرون: لكم أكتافنا، نخلط الطين ونصنع اللبن. ويقول ثالث: وعليَّ إقامة اللبن جداراً، ويتبرع رابع بالأبواب، وخامس بالفرش، وسادس يُسرجه وينيره، وسابع يقول: ما عندي كتف ولا مال، ولكن صوتي جميل، فأنا المؤذن. ويقول المستضعفون: وعلينا تكثير السواد، والانتظام فيه صفوفاً، وإظهار هيبة الإسلام، وتعميره بالتسبيح والتكبير، ثم يؤمهم الرائد، وتقام الصلاة.
فانظر كيف اجتمعت الجهود والهمم بحيث إنك لا تستطيع أن تُفضِّل صاحب الفكرة الفقيه، وتقول: لولاه لما بُني المسجد، ولا صاحب الأرض، ولا من عمل بساعده، ولا المؤذن والمنير، بل كل منهم قد أصاب ووفّقه الله لعمل صالح تراكب بعضه على بعض وأسنده» (?) .
وقال أيضاً: «ولقد علمتنا الأيام دروساً غير التي كانت تمليها علينا الحماسة البريئة والتصلبات المعاندة، ولقنتنا التجربة أن نُعين على تواجد المحايد إن يئسنا من مجيء المسلم، في الوظيفة الصغيرة أو الحكم الكبير، وأن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه الملحد المخطط البعيد الأهداف، وأن نُقدّر أن الملحد المفسد سليل الأشراف أقل شراً من جناح آخر في حزبه يضم الرعاع وسفلة القوم ـ مع أن كليهما شر، ولكنْ حنانيك فبعض الشر أهون من بعض ـ إذ ربما كان في الأول بقية تَرفُّع وإباء عن الدنايا والقسوة التي يفتقدها الغوغاء» (?) .
فالعمل لهذا الدين بحر لا ساحل له، ولذا لا بد أن يقتنع الجميع بأننا في حاجة ماسة إلى جهود كل المخلصين سواء كانوا قياديين يخططون، أو مفكرين يكتبون، أو دعاة صادقين ربانيين يربون، أو صحفياً يحمل همَّ هذا الدين ويعمل لنشره حسب استطاعته، أو ذا مال أو جاه أو طالباً أو عاملاً أو فلاحاً أو امرأة ... إلخ. والدعوة الإسلامية لن تُنير طريق المسلمين ما لم تتكامل جهودهم، ويكمل بعضهم بعضاً.
وأظن أن هذا أفضل بكثير من انشغالنا بالقيل والقال، وعيب فلان وغمز علان، وغير ذلك مما انشغل به كثير من شباب المسلمين عن واجبهم المناط بهم وهو واجب وقتهم.
وختاماً: أسأل العلي القدير أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن لا يجعل لأحد فيهما نصيب، كما أسأله أن يؤلف بين قلوب المؤمنين، وأن يصلح نياتهم وذرياتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.