مجله البيان (صفحة 5596)

معالم في فقه الفتن والأزمات

إبراهيم بن صالح الدحيم

الأمة الإسلامية اليوم تعيش زمناًً عصيباً، تحتاج معه إلى فقه ودراية، وسعة نظر وإدراك، حتى يمكنها ـ ودون ضوضاء مزعجة ـ أن تحدد الجرح، وتضع الدواء المناسب عليه، ثم تحيطه بعصابة تسارع في بُرْئه، فتستطيع بذلك أن تحمي الأجزاء السليمة أن يطولها الضرّ أو يغشاها البلاء.

إن فقه التعامل مع الفتن وحُسن إدارة الأزمات جزء من حلها، وعامل رئيس في تخفيف حدّتها، والحدّ من أثرها، وبالمقابل فالجهل والتوتر والتهور الناتج عن قلة الفقه يزيد من تأزم الأزمة ويضاعف أثرها.

إن النظر في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يعطي النفس وضوحاً في الرؤية، وبُعْداً في النظر، وحكمة في التعامل، وهذا كله لازم لفقه الأزمات بصورة صحيحة. وقد روي في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنّتي» (?) .

لقد عايش النبي -صلى الله عليه وسلم- وعايشت الأمة معه أزمات كثيرة؛ فكيف كان المخرج منها؟ كيف كان التوجيه الإلهي يتنزل حيال هذه الأزمة أو تلك؟ كيف كان تصرُّف النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعامله مع هذه الأزمات وهذه الفتن المدلهمّات؟

وفي زحمة المتغيرات وتتابع الأزمات يضعف البصر، وتختلط الأصوات، ويلتبس الحق بالباطل ـ لكن لا يضيع ـ وكما يقول مطرِّف بن عبد الله: (إن الفتنة إذا أقبلت تشبهت، وإذا أدبرت تبيّنت) (?) . وفي زحمة الفتن يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق. لقي سعيد بن جبير راهباً، فقال: «يا سعيد: في الفتنة يتبين مَنْ يعبد الله ممن يعبد الطاغوت» (?) . ولذا كانت الحاجة اليوم ماسّة إلى معالم في فقه الفتن والأزمات نستفيد منها في التعامل مع أزمة واقعة، أو التنبّه المبكر لأزمة متوقعة، وفي هذه العجالة أُلقي الضوء على معالم مهمة، ينبغي مراعاتها حال النظر في الفتن والأزمات.

- المَعْلَم الأول: لله الحكمة البالغة:

لله الحكمة البالغة في تقديره وتدبيره وأمره ونهيه، لا يقع في الكون شيء إلا بعلمه وأمره. لم يخلق شيئاً عبثاً، ولا شراً محضاً «والشر ليس إليك» (?) . اتُّهم بيت النبوة في عرضه وكانت نازلة عظيمة على المؤمنين عاشها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه شهراً فأنزل الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11] . وجاء فرض القتال ـ الذي فيه تزهق النفوس ـ فكرهه أناس! فأنزل الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] . وأنزل الله في الرجل يكره المرأة ويطلب فراقها قولَه ـ تعالى ـ: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . ويخفى علينا الأمر؛ لكن الله يعلمه، ويختار لعباده المؤمنين خيراً. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «عجبت للمؤمن! إن الله لم يقض قضاء إلا كان خيراً له» (?) .

كادت قضية فلسطين أن تُنسى فأتى الله بالانتفاضة المباركة، نعم ذهب فيها أطفال، لكن استيقظ بسببها رجال، جاءت الانتفاضة فأثارت في النفوس ـ وبقوة ـ عداوة يهود، الأمر الذي كاد يخبو تحت شعارات السلام وفي أروقة التطبيع! جاءت الانتفاضة لتنفض عن المسلمين غبار اليأس والنوم، فإذا بالعالم الإسلامي اليوم من أقصاه إلى أقصاه ينتفض لقضيته الأولى ومسرى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، جاءت الانتفاضة لتبطل مخططات كانت تدار في دهاليز مظلمة، بغرض عزل القضية الفلسطينية عن هويتها الإسلامية.

ووقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ووجدت أمريكا وغيرها فرصتها في التدخل وفرض السيطرة المباشرة على المسلمين، فطال المسلمين ما طالهم من التشريد والتقتيل، وقوضت أعمال خيرية إغاثية، ومع كل هذا فقد جرت حكمة الله وتدبيره أن يكون الحادث سبباً عظيماً للبحث عن الإسلام، حيث أقبل الأمريكان والغربيون وغيرهم على شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام؛ فقد نشرت الصحف أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام قد نفدت من المكتبات، وصار عليها إقبال شديد في أوروبا، وارتفعت نسبة مبيعات ترجمات القرآن إلى 21-30%. وفي معرض (فرانكفورت) الدولي للكتاب لوحظ إقبال جميع الزائرين على تناول أي غلاف يحمل موضوعاً حول الإسلام (?) ، وامتلأت المراكز الإسلامية بالذين يسألون عن الإسلام، واستضافت كبريات المحطات الإذاعية عدداً من رؤساء المراكز الإسلامية لعرض سماحة الإسلام وحقيقته، وهو الشيء الذي لو أنفق المسلمون الملايين من أجل النفوذ إلى هذه الوسائل ما استطاعوا، ولكن الله يحكم ما يريد.

- المعْلَم الثاني: اصبروا وصابروا:

عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة؛ فأعدوا للبلاء صبراً» (?) ، وعن المقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً» (?) ، ويصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام بأنها أيام الصبر؛ لأن الصبر فيها يعتبر الركيزة الأساس في الاستقرار وتجاوز الأزمات بسلام؛ فعن عتبة بن غزوان ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمستمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم» (?) . وبالصبر يحصل الضياء الذي تستبين به الأمور قال -صلى الله عليه وسلم-: «والصبر ضياء» (?) قال النووي ـ رحمه الله ـ: «والمراد أن الصبر المحمود لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب» . وكم هي الحاجة إلى معرفة الصواب والثبات عليه أيام الفتن والأزمات؟ وإذا وقع البلاء كان الصبر للعبد سعة كما في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: «وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر» (?) قال ابن القيم: (هذا بعد نزول البلاء: ليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له) (?) . وفي المشهور من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي؛ غير أن عافيتك أوسع لي» (?) .

والذين عاشوا حياة الصبر والمصابرة ذاقوا لذّتها وقطفوا ثمرتها، وتركت تلك المواقف في نفوسهم أثراً نعموا به بقية حياتهم. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) (?) ، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: (الصبر مطية لا تكبو) (?) .

(والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها ومللها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طباعهم، وأَثَرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلّة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله.. والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله واستسلام لقدره وردّ الأمر له كله في طمأنينة وثقة وخشوع ... ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلّون أصبر من أعدائهم وأقوى..) (?) .

إن بين النصر والهزيمة وبين القوة والضعف صبر ساعة، فمن صبر عليها نال النصر والقوة، ومن عجز دونها سقطت قواه. قال عمر بن الخطاب ـ ضي الله عنه ـ لرجل من بني عَبس: «كم كنتم يوم الهبَاءة؟ فقال: كنا مئة كالذهب، لم نكثر فنتواكل، ولم نقل فنذل. قال: فكيف كنتم تقهرون من ناوأكم ولستم بأكثر منهم عدداً ولا مالاً؟ قال: كنا نصبر بعد اللقاء هنيهة. قال: فلذلك إذاً) (?) .

- ثالثاً: حسن التعامل مع الأخبار:

الإعلام اليوم يمارس نوعاً من التحوير للخطاب الإعلامي، والعبث في صياغة أخباره، جرياً على المصالح السياسية! فهو اليوم فاقد لمصداقيته وحياديته في كثير من أخباره، وعليه فإن علينا أن نقف من هذه الإذاعات والقنوات الإخبارية موقف التمحيص والتدقيق كما في التوجيه الرباني: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .

إن معرفة الحقيقة وإن كان أمراً صعباً في هذا الوقت إلا أنه ليس بمعجز، إذ الأمر يحتاج إلى نوع ذكاء في التعامل مع الأخبار، وذلك بالنظر إلى عدة مصادر لها استقلاليتها، وإجراء شيء من المقارنة بينها لمعرفة قدر التوافق والتعارض.

ومن فقه التعامل مع الأخبار حسن النقل واختيار ما يصلح إذاعته منها مما لا يصلح، فكما أنه ليس كل ما يُقال يصح، فليس كل ما يُعلم يُقال، يقول ـ تعالى ـ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] . يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ معلقاً: (هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو منه مصلحة لكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه..) (?) .

لقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بنقض يهود بني قريظة للعهد وهو في شدة الأحزاب، والجيوش قد تجمعت حول المدينة، وقد زاغت من المؤمنين الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فأرسل السعدين ـ سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة ـ ومعهما عبد الله ابن رواحة، وخوات بن جبير ـ رضي الله عنهم ـ يستطلعون الخبر، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقّ ما بلغنا عنهم؛ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه (أي: ورُّوا بكلامكم تورية أفهمها عنكم دون غيري) ولا تفتّوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم واستطلعوا الخبر، ثم أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبر بني قريظة وأنهم قد نقضوا العهد، وكَنَّوا بذلك لرسول الله فقال: الله أكبر ... أبشروا يا معشر المسلمين!! (?) .

لقد كان في إظهار خبر نقض قريظة للعهد فتٌّ في عضد المسلمين فأخفاه -صلى الله عليه وسلم- استبقاءً لهم، بل تجاوز ذلك إلى بعث روح الطمأنينة فيهم حيث كبَّر وبشَّرهم بالنصر.

إن من الأخبار ما يكون صحيحاً لكنه غير صالح للنشر، ثم ما كان منها صالحاً للنشر فلا يصح أن ينشر بصورة ترعب المسلمين وتزيد من وجلهم؛ لأن ذلك في الحقيقة استدراج من العدو للوقوع في أسر الحرب الإعلامية التي ما هي إلا طليعة العدو في حربه المتواصلة علينا.

إن على المسلمين أن يصلوا إلى مستوى رفيع في الفهم، وأن يفقهوا الخطاب الإعلامي ويعلموا أنه موجه، وأنه في كثير من أحيانه يفتقد إلى المصداقية. إن من نافلة القول: أن إعلام أيّ دولة سيخدم مصالحها ولا بد، وسيكون داعماً لسياستها ولا ريب، وقل لي بربك: ما هي أبرز المصادر الإعلامية اليوم؟ أليست في يد أعدائنا، هل ننتظر من أعدائنا في صياغة الخبر أن يراعوا أوضاعنا وأن ينطقوا بالصدق؟

على المسلم أن لا يكون مذياعاً وبوقاً لكل ما يقال؛ فقد عاب الله ذلك على بعض من كان في المدينة ممن يلقي أذنه لقالة اليهود وإرجاف المنافقين {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ... } [التوبة: 47] ، أما المؤمن الفطن فكما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره) (?) .

وحين يقول كل ما يعلم يكون كحاطب ليل يهذي بما لا يدري ولا يسلم من زلل وخطيئة، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) (?) . وعند أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بئس مطية الرجل زعموا) (?) .

ومن لا يحسن الكلام فعليه بالصمت فـ (الصمت حكمة) . قال ميمون بن مهران: (لبث شريح في الفتنة تسع سنين لا يُخبر ولا يَستخبر) (?) ، وفي الحديث الحسن عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من صمت نجا» (?) ، والصمت الذي يكون فيه النجاة حيث لا يدري وجه الحق والصواب، أو لا يكون في الحديث مصلحة. إن فتنة اللسان ليست بأقل من فتنة السنان بل هي باعثة له محرضة عليه؛ وقد روي: «إن الكلام في الفتنة دم يقطر» (?) ، وجاء عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «الفتنة تُلْقَح بالنجوى، وتُنْتَج بالشكوى» (?) ، ورحم الله الربيع بن خَيْثم فإنه لما قيل له: قتل الحسين! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم! فقال: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] قال ابن العربي معلقاً: «ولم يزد على هذا أبداً؛ فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين» (?) .

ثم على المسلمين أن يعرفوا مسؤوليتهم تجاه علمائهم ودعاتهم وأهل الرأي والعقل فيهم، فيحفظوا لهم قدرهم ويعرفوا لهم مكانتهم، ويرجعوا إليهم في ملمّاتهم، ويصدروا عن رأيهم، ويحيطوا بهم عند الأزمات: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .

- رابعاً: التّؤدة:

حتى يستطيع المسلم أن ينظر الطريق دون غبش، ويبصره دون عمش، وأن يفكر بعيداً عن الضوضاء ليعرف أين يضع قدمه وكيف يرفعها، فلا بد من التؤدة والسكينة. عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان» (?) .

قال أبو حاتم: (العجلة فعل الشيء قبل وقته اللائق به. وكانت العرب تكني العجلة «أم الندامات» ، وقال أيضاً: والرافق لا يكاد يُسبق، كما أن العاجل لا يكاد يَلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، وإن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويُجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يُجَرِّب، ويذم بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم) (?) . وعن خيثمة قال: قال عبد الله: إنها ستكون هَناتٌ وأمور مشتبهات، فعليك بالتؤدة، فتكون تابعاً في الخير خيرٌ من أن تكون رأساً في الخير (?) .

لا تعجلنّ فرُبّما عجل الفتى فيما يضرُّه

ولربما كره الفتى أمراًً عواقبُه تسرُّه

وكان المستورد القرشي عند عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقوّم ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: لئن قلت ذلك: إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد المصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك» (?) . فلهذه الخصال استبقوا على أنفسهم وعلى قومهم، فليت قومي يعلمون.

أمَرَ النعمان بن مقرِّن المسلمين في بعض مغازيه أن ينكصوا استدراجاً للعدو، وعهد إليهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس إلى بعض، فقالوا للنعمان.. فقال: رويداً رويداً! قالوا ذلك مراراً فأجابهم بمثل ذلك.. فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر لي علمتُ ما أصنع! فقال: رويدك ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث (?) ـ يعني الأجر والنصر -. (إنَّ الانتظار الإيجابي والتجميع الهادئ: ليسا وقوفاً ولا تلكؤاً، بل هو تلبية لنداء الحكمة.

فريث المثابر أمضى خطىً وأبلغ من قفزات الصخب

وكانت أناة الفتى في التقدم أهدى وأجدى لنيل الأدب

ومستعجل الشيء قبل الأوان يصيب الخسار ويجني النصب

إن الأصل في الدعوة ومواجهة الأزمة، هو ترك الطيش وإلغاء العجلة والمناورة عن بُعْد والحيدة قدر المستطاع عن الرمية، فلا ينتصب هدفاً، بل لا يتواجد في عرصة يمكن أن يأتيه فيها سهم غَرْب) (?) . ويُطرف ابن القيم في المعنى فيقول: (شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة، وشجرة الدّبّاء تصعد في أسبوعين، فتقولُ للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتِها في ثلاثين سنة قطعتُها في أسبوعين، ويُقال لي: شجرة، ولك: شجرة. فقالت الصنوبرة: مهلاً حتى تهب رياح الخريف؛ فإن ثبتِّ لها تمَّ فخرك) (?) .

إن كثيراً من العواطف العاصفة هي التي تحركنا وتسير بنا، كحال من جاءه عاصف من الريح فوضع يده على عينيه وألقى بنفسه بعيداً عنها؛ فإذا هو يرتطم بجِذْم حائط أو يقع في حفرة مظلمة، أو كحال من يسير بسيارته في طريق محجوبة بالضباب، فلم تطق نفسه بطء السير مع طول الطريق، فاستجاب لعاصف الطيش في نفسه فأسرع، فخرج عن الطريق عند أول منعطف فيه، فارتطم بسيارة أخرى في مسار غير مساره! فصدق في حقه قول العرب: (رب عجلة تهب ريثاً) ، ولو أن الأول اجتمع على نفسه، وألقى بثقله في مكانه، منتظراً ذهاب الريح لزال عنه العاصف دون أن يخسر موقعه. ولو أن الآخر مشى الهوينى، ولزم الجادة، فإنه سيصل ولو متأخراً، بل ربما انقشع عنه الضباب فزاد من سرعة سيره.

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل

إنه توقّف لا وقوف ـ كما سبق ـ توقّف يحكمه الموقف، وتديره الحكمة، إنه انتظار مؤقت (فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمّر عن الذراع للزِرَاع، واغتنم خفقان الشراع، والإسراعَ الإسراعَ) (?) .

- خامساً: التربية على الاستعلاء رغم الجراح:

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنينَ} [آل عمران: 139] ، لقد كانت هذه الآية تتنزل وجيش المسلمين قد رجع من غزوة أحد، وقد قتل منهم سبعون، وجُرح فيها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك يقرر في حقهم أنهم الأعلون، حتى لا تقتلهم الحسرة، أو يحترقوا بنار المحنة. إن الأعداء يحاولون ـ عبر إيحاءات منظمة وممارسات إعلامية مدروسة ـ أن يطيحوا بالأمة في دوائر اليأس والإحباط والسلبية.

أما حين تتحرر النفوس من الإحساس بالدونية والضعف والعجز، فعندها تنطلق الطاقات وتتحرك الإمكانات وإن كانت ضعيفة، فهنا تغيّر وجه التاريخ، وتنطلق الأمة الجريحة لملاحقة عدوها كما انبعث جيش أُحُد الجريح لمطاردة عدوه في (حمراء الأسد) .

على الأمة أن تردّد أناشيد النصر وإن كانت جريحة، وأن تصرخ بلسان التحدي أمام عدوها وإن كانت سجينة:

لا تفرحوا بالنصر فإن قتلتم خالداً

فسوف يأتي عمرو وإن سحقتم وردة

فسوف يبقى العطر عدونا يا أيها المغرور..

عقارب الساعة إن توقفت.. لا بد أن تدور

إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا

فالريش قد يسقط من أجنحة النسور

والعطش الطويل لا يخيفنا

فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور

لن تفلتوا.. . لن تفلتوا.. .

فإن نمت أولادنا من بعدنا ستأخذ الأجور.

الإسلام ليس محصوراً برجل فيُقتل! أو مؤسسة فتُغلق، أو هيئة فتُحدَّم، أو دولة فتُحارب. الإسلام نسيم يعمّ الأرجاء، وشمس لا تحجبها يد شلاء {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . [الصف: 8]

- سادساً: بعث الأمل:

لا بد من بعث الأمل في الأمة، وأن يُفتح لها نافذ من النور حتى لا يقتلها الظلام. بينما الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يحفرون الخندق إذ عرضت لهم شديدة، فجاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، قال الراوي: «وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً» فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر ـ أضاء هذا الجو الداكن ـ وهو يقول: الله أكبر: أُعطيت مفاتيح الشام، واللهِ إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، واللهِ إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللهِ إني لأبصر قصر صنعاء من مكاني الساعة (?) ..!! ولما بلغه خبر نقض يهود بني قريظة (?) العهد قال: «أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره ... » أي: إشراقة أمل في ظلمة المحن هذه!!

ونحن نقول للمسلمين قاطبة وهم في ظل هذه الأزمات العصيبة: أبشروا وأمّلوا خيراً؛ فإن مع العسر يسراً، وإن الأمة وإن آلمها المخاض فقد قربت ولادة جيل النصر فيها.

إن الليل وإن اشتد ظلامه قد آذن الفجر ببلج، فنادِ مع صياح الديك، بل بعد أذان بلال، وردّد أنشودة النصر وملحمة الفتح.

ومن علم أن مصابه سيزول هان عليه احتماله، وتسلّى بانتظار زواله، وانبعثت نفسه بالأمل، ونشطت على العمل استعجالاً للفرج. بعكس ما لو انقطع أمله وأصابته حال من اليأس والقنوط، ظنّ معه أن ما هو فيه من أزمة تعتبر نهاية التاريخ، وخاتمة الحياة.

مهما دجا الليل فالتاريخُ أنبأني أنّ النهارَ بأحشاء الدّجى يثب

إني لأسمع وقع الخيل في أذني وأبصر الزمن الموعود يقترب

إن ظلمة الليل وإن كانت موحشة، إلا أنها سَكَنٌ للنائمين، وسلوة للقائمين، وأُنْس للذاكرين. أُدخل شيخ الإسلام ابن تيمية السجن فماذا كان السجن عنده؟! هل تأزمت نفسيته وتدهورت حالته؟! لقد تعامل معها ـ وهو صاحب القلب الموصول بالله ـ بطمأنينة وثبات، فتحوّل السجن في حقه إلى خلوة يأنس بها، لقد قال والسجَّان يغلق عليه الباب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] ثم قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!! وكان يقول في محبسه بالقلعة: (لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير) (?) . الله أكبر. لقد رأى شيخ الإسلام في السجن نافذة لم يرها كثير ممن يموت في الهم ألف ميتة غير التي كتبها الله عليه. ورحم الله الشاعر عمر أبو ريشة قال: أن من الحزم وتمام العقل مقابلة الجراح بالبسمات، حتى لا تنطفئ شمعة الأمل؛ حيث قال:

أحزمُ الناس عاقلٌ لمسَ الجرحَ وابتسمْ

- سابعاً: فرصة للمراجعة والتربية الجادّة:

إن (الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه؛ فهي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والكاذبين، وفي ذلك فوائد كثيرة، منها: أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية؛ لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربيهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.. وأما الأفراد، فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم؛ فإن المؤمن الصادق قد يغترّ بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق؛ لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهر الشدائد..) (?) .

فالمحن هي الجامعة الكبرى التي تخرّج القادة، والمجددين، والمصلحين.. حيث لا يتحقق التمكين إلا على جسر من الابتلاءات والمحن، التي تصقل النفوس وتخرج خبثها. سئل الشافعي ـ رحمه الله ـ: (أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن، أو يبتلى؟ قال: لا يمكّن حتى يبتلى) (?) .

وأنت ـ يرعاك الله ـ: حين تتأمل التاريخ وتنظر إلى سير الدعوات، ترى أنها تقَابل أول ما تقابل بالابتلاءات والصدود والتنكيل، كل ذلك من أجل أن يصلب عود الدعوة وتتخرج قيادات جادة، قادرة على تحمّل أعباء الدعوة ومشاقّها فيما بعد، قادرة على تحصيل النصر وتوظيفه.

والذين ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة وأصابهم من الضر والأذى ما أصابهم هم قادة الفتوحات بعد ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين (?) . قال ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر، والإقدام قتال

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .

يجب أن يُرتَفَعَ بالأمة عن حياة الترف الملهي، والسرف المطغي؛ فحياة الترف ومناهج الرخاء، والاكتفاء بمجرد الانتساب للصحوة والخير لا يكفي، ولا يراهن عليه عند اشتداد الأزمات. إن هذه المناهج الهشّة والتربية الرخوة لا يمكن أن تخرج من بين أروقتها شخصيات جادة ذات مواقف قوية. فالحياة المترفة لا تلد إلا الأجنّة الرخوة، يقول أفلاطون: (الشدائد تصلح من النفس بمقدار ما تفسده من العيش، والتترف ـ أي الترف والرفاهية ـ يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش) (?) . لقد امتنع بنو إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة؛ لأن نفوسهم قد ألفت الذل والهوان، فكتب الله عليهم التيه في الصحراء وحرم دخول بيت المقدس (على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة، وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل، جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود.. جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل!) (?) .

علينا أن نستفيد من الأزمات في تربية أنفسنا على الصبر بأنواعه، وعلى حقيقة الصلاة لا مجرد الحركات، فالله ـ تعالى ـ قد أمرنا أن نستعين «بالصبر والصلاة» لما لهما من الأثر العظيم في ثبات النفوس واستقرارها وقوتها وحسن تدبيرها للأمور، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان أصحابه كذلك كما في المسند: (وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة) (?) . وإذا تكلف العبد الصبر واستدعاه صار سجية له كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ومن يتصبر يصبره الله» (?) وقديماً قالوا: المزاولات تعطي الملكات.

هل ربينا أنفسنا على الصبر عن الشهوات والملذات والرغبات؟ أم أننا لا نستطيع لها دفعاً، ولا عند وقوعها رفعاً؟ إننا حين نهزم في معركة الإرادات، فإننا لا نراهن على النصر في حربنا الطويلة مع الأعداء، لقد خاض طالوت بجنوده معركة الإرادة قبل أن يخوض بهم معركته مع جالوت: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] ، فماذا كانت نتيجة معركة الإرادة: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} . ثم كان النصر بعد ذلك لما خلص الصف على الصفوة.

وفي الصحيح أن نبياً من الأنبياء غزا بقومه فقال لهم: «لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمَّا يبنِ بها، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزوا، فدنا من القرية التي يريد وقت صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور. اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه» (?) . وحين يكون عند الأمة استعداد لمواجهة المحنة وتحمل المسؤولية، واستعداد للتخلّي عن الدنيا وزخارفها وملذاتها، والتضحية بذلك كله في سبيل الله، عندها نكون قادرين على أن نستعيد أمجادنا وعزتنا وتاريخنا.

- ثامناً: مسؤولية الجميع:

إن مسؤولية إنقاذ الأمة وتوجيه أحداثها ليست مسؤولية شخص بعينه أو جهة، بل هي مسؤولية الجميع، فلا يصح أن يعيش فِئام من الأمة على هامش الحياة والأحداث، مكتوفي الأيدي، لا في العير ولا في النفير، بحجة انتظار بطل موعود أو قائد مظفر!! إنَّ تعلق كثير من الناس بالرؤى والأحلام هو نوع من الهروب عن الواقع المؤلم، والعيش في أحلام اليقظة بانتظار خوارق تَقْلب موازين الأحداث وتغير مجراها بلمحة بصر، وهذا وربّي ليس دأب المؤمن الذي يواجه الواقع بالعمل والجد وبذل الأسباب، وفي الحديث: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» (?) .

ومن هذه الأوهام التي تعلَّق بها بعض الناس ما جاء في حديث السفياني الذي يكون في آخر الزمان، حيث أنزل بعضهم أحواله على حال بعض القادة رجماً بالغيب وقولاً على الله بلا علم. وعموماً: فأحاديث السفياني كلها ضعيفة لا يصح الاحتجاج بشيء منها.

ومما يتعلق به بعض الناس انتظار المهدي الذي يكون في آخر الزمان، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وأحاديث المهدي ثابتة في الصحيح ولا ننكرها إنما ننكر التحري والانتظار، والذي ليس هو من منهج أهل السنة والجماعة، بل هي طريقة الرافضة في انتظارهم واستكانتهم عبر القرون لكذبة الغائب المنتظر المزعوم!!

إن الجميع مُطالب بالمشاركة في إشاعة الأمن ودرء الفتنة وصناعة النصر، من خلال التوجه أولاً للتغيير في داخل النفس، والانتصار على شهواتها ولذائذها، والعودة بها إلى الله. إن الأمن لا يُسْلب ولا يتأخر النصر إلا بسبب من أنفسنا {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، قدم وفد على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار. قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار، فقال: إنا لله! أوَ قَام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره!! والله إن كان هذا إلا ذنب أحدثتموه بعدي أو أحدثته بعدكم (?) .

- تاسعاً: اللجوء إلى الله:

إن التسليم لله والتفويض إليه قبل وبعد فعل الأسباب المقدور عليها من شأنه أن يريح النفس من عناء لا طائل منه، ويربط على القلوب، لتجدها أثبت ما تكون في أوقات الأزمات والشدائد والمحن.

كم نحن بحاجة للتوجه إلى الله في كل ما يعرض علينا من ظلم وعدوان أو فقر وحرمان، أو مرض في الأبدان، أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] .

وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا

وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا

وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالا

على الأمة وهي تواجه الأزمات أن تتجه إلى الله ـ تعالى ـ وتلجأ إليه، وتلوذ بجنابه، وتحتمي بحماه، فإنها بذلك تلجأ إلى ركن شديد، ورب مجيد يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] وإذا لم يكن عونُ الله، وُكِلَ الإنسان إلى نفسه، ومن وُكِلَ إلى نفسه هلك.

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

لقد حمى الله البيت من كيد (أبرهة) وقد تخلت عنه قريش! وإن الذي حمى البيت سوف يحمي عباده، وهم ـ إذا أطاعوا ـ أكرم عند الله من بيته، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال وهو يطوف بالكعبة: «والذي نفس محمد بيده! لحُرمةُ المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه» (?) ، بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه ماءً يقال له: ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله «فنزل تحت شجرة هناك، ونشر ثيابه لتجف؛ وذلك بمرأى من المشركين، فبعث المشركون رجلاً شجاعاً منهم يقال له: غورث بن الحارث، فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» (?) .

إن الواجب على المؤمنين حين ترتجف بهم الأراجيف وتشاع فيهم الشائعات، أن يلتجئوا إلى الله ويزدادوا إيماناً به وتوكلاً عليه؛ وبذلك تعظم نفوسهم، وتقوى عزيمتهم، وتطمئن قلوبهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: {إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (?) . وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ربِّ أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليَّ..» (?) ، والتزام لا حول ولا قوة إلا بالله مَعين مُعين كما يقول عنها ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (هذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال) (?) .

وإني لأدعو الله والأمر ضيق عليَّ فما ينفك أن يتفرجا

ورُب فتىً سدت عليه وجوهه أصاب له في دعوة الله مخرجا

لما كانت نفوس المؤمنين موصولة بالله، معتمدين عليه، صلب عودهم، وعظم نفوذهم، ورأوا كثرة العدو غُنْماً ـ للأجر ـ لا غمّاً، وما زادهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً. في معركة اليرموك كان عدد الروم (مئتين وأربعين ألفاً) وعدد المسلمين (أربعين ألفاً) فقال رجل: ما أكثر الروم! فقال خالد: بئس ما قلت! أتخوفني بالروم؟! بل ما أكثر المسلمين وأقل الروم.. إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان، وواللهِ لوددت أن الأشقر - أي فرسه ـ برئ من وجعه وأنهم أضعفوا لنا في العدد!! (?) ، وسأل قتيبة بن مسلم عن محمد بن واسع؟ فقيل: هو ذاك جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير (?) .

يا دامع العينين لا تحزن على هذا السراب

من لم يكن في الخلد مسكنه، فمأواه التراب

الشمس تُؤذن بالغياب والراحلون إلى إياب

- عاشراً: وأعدُّوا:

إن من فقه الأزمات أن تعدّ الأمة لعدوها ما تستطيع من قوة، وأن لا تستسلم للضعف: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وظاهر مقصود الآية الأمر بإعداد القوة العسكرية التي بها حماية الدين وأهله. يقول القاسمي ـ رحمه الله ـ: (دلت الآية على وجوب إعداد القوة الحربية اتّقاء بأس العدو وهجومه. ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزاً، عظيماً، أبيّ الضيم، قويّ القنا، جليل الجاه، وفير السّنا؛ إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد، وعاش بنوه أحقاباً متتالية وهم سادة الأمم، وقادة الشعوب، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ... ) (?) ، ولئن كانت القوة العسكرية مقصودة ابتداءً؛ فإن كل نوع من أنواع القوة مطلوب تحصيله، كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية معرفية.. بحيث يكون فيها إنقاذ للأمة وإرهاب لعدوها {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} . [الأنفال: 60]

وإن من أعظم الإعداد الذي يملكه أفراد الأمة وأعظم قوة التي يمكن تحصيها هي قوة الإيمان، فتُربى النفوس على طاعة الله، وُتحمل على مرضاته وعبادته في وقت المزلة والدحض، وبيع الدين بالعرض الزائل، وفي الحديث: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (?) .

إن القوة العسكرية دون نفوس قوية بالإيمان لا تجدي شيئاً، وحين تكون السواعد التي تحمل السيوف ضعيفة أو هزيلة، فإن السيف سيسقط منه ولا بد عند أول هزّة أو رجفة تنقل قدميه من مكانهما، وقديماً قيل: السيف بضاربه.

إني أرى أيامكم قد أصبحت حُبلى، وأرقب ساعة الميلاد

ربوا النفوس على الثبات سجية عند الحوادث فالخطوب عوادي

وتريثوا فالنصر ليس بخطبة تلقى وليس بوفرة الأعداد

ما حاجة الأمجاد إلا وقفة في الحادثات كوقفة المقداد

ما قلة الأعداد نشكو إنما تشكو الكتائب قلة الإعداد

والله الموفق والمعين وإليه يرجع الأمر كله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015