مجله البيان (صفحة 5593)

نحو مِيتة شريفة!

د. حمدي شعيب (*)

«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (?) .

هكذا أخبرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن الدنيا وما فيها، وقدرها في ميزان الآخرة.

إنها لحظات معدودات على طريق رحلتنا.

وينصحنا -صلى الله عليه وسلم- ألا ننشغل بلحظات القيلولة الدنيوية، وننسى كيف سنكمل مشوار رحلتنا إلى النهاية، وما وراءها من مصير وخلود.

فنعيش دوماً مترقبين النهاية.

(إن الذي يعيش مترقباً النهاية يعيش مُعِدّاً لها؛ فإن كان معداً لها، عاش راضياً بها؛ فإن عاش راضياً بها، كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل) (?) .

إنها آخر المطاف ...

إنها النهاية المجهولة المعلومة!

فهي النهاية المجهولة؛ لأننا لا نستطيع ولا نملك إجابات شافيات لهذه التساؤلات الحائرات عنها: متى؟ وأين؟ ثم ـ وهو الأخطر ـ: كيف؟

لأن هذه التساؤلات علمها عند الله ـ سبحانه ـ ولأنها من الغيبيات الخمس:

{إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] .

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] .

وهي النهاية المعلومة؛ لأننا أُخْبِرْنا أن هنالك مَلَكاً سيقبض أرواحنا، ثم نُبعث فيجازينا ـ سبحانه ـ على أعمالنا.

هكذا عَلِمْنا وقُدِّرَ لنا، ولا مناص.

{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] .

{قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] .

- وقفة مع النفس:

لهذا علينا أن نجتهد، في وقفة مراجعة مع النفس، ويكون شغلنا الشاغل وهمنا هو إجابة جادة على هذين السؤالين:

الأول: كيف سيكون مشهد نهايتي؟

قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ وَإنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخوَاتِيمِ» (?) .

فلا نكن بغفلتنا من الذين استغربهم سلمان ـ وقيل أبو الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ فقال:

«ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني:

1 ـ مؤمِّلُ الدنيا والموت يطلبه.

2 ـ وغافلٌ وليس يُغفَل عنه.

3 ـ وضاحكٌ ملءَ فيه ولا يدري: أساخطٌ رب العالمين عليه، أم راضٍ؟

وثلاث أحزنتني حتى أبكتني:

1 ـ فراق الأحبة: محمد وحزبه.

2 ـ وهول المطلع.

3 ـ والوقوف بين يدي الله ـ عز وجل ـ ولا أدري: أإلى الجنة يُؤْمَر بي، أم إلى النار؟!» (?) .

الثاني: وهل لي من دور في صياغة هذا المشهد؟

ونجد أن هنالك رؤية قرآنية تطمئننا أن أي تغيير ممكن، بعد الاعتماد عليه سبحانه.

فنجد هذا البيان: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .

وهو دعوة إلى الإيجابية والعمل؛ لأن أصل كل التحولات والتغيرات ينبع من النفس ومن القناعة الداخلية بضرورة التغيير، ومسؤولية كل فرد في صياغة حياته ومستقبله.

ثم نجد الأمل الوضّاء؛ في وعده ـ سبحانه ـ بالتوفيق والسداد لكل من يحاول ويجاهد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .

إذن! حسن الخاتمة، والنجاة تكون في محاولة إجادتنا لفن إحسان خاتمتنا، فنكمل ما تبقى من رحلتنا، مرتكزين على دعامتين هما جناحي العبادة؛ وهما: الخوف، والرجاء.

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .

- رباعية ... وخماسية:

نسرع إلى رحلة التغيير والنجاة، رغباً في حسن الخاتمة، وفي الفوز بالجنة، ورهباً من سوء الخاتمة ومن النار.

ونبدأ بالنظر إلى رحلتنا، بمنهجية علمية، من زاويتين:

الأولى: هي نظرة الجاهل بنهايته ومصيره، والذي لا يأمن مكره ـ سبحانه ـ فيلهب ظهره سوط الرهبة والخوف والخشية الدائمة من سوء الخاتمة.

والثانية: هي نظرة العالم يقيناً بما سيحدث له، وذلك على منهجية رباعية المراحل:

1 ـ يستشعر مسؤوليته الفردية عن نهايته {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22] .

2ـ فيسرع إلى العِلْم، ويسأل ليفقه ويبحث في عوامل حسن الخاتمة.

3 ـ ثم يبادر إلى العمل، فيفعل ما يوجب حسن الخاتمة.

4 ـ ثم يلجأ إلى سلاح الدعاء، فيسأل الحق ـ سبحانه ـ ويتضرع إليه في كل سكناته؛ أن يمن عليه ويوفقه ويثبته في اجتهاده من أجل حسن الخاتمة.

فتملؤنا الرغبة والرجاء في رحمته سبحانه؛ وكما سترنا في الأولى فلن يفضحنا في الأخرى.

بهذا (النظر الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله، هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي) (?) .

وكما كان النظر بمنهجية علمية؛ فكذلك نبدأ السير العملي بمنهجية عملية خماسية الخطوات، حتى يوفقنا ـ سبحانه ـ إلى الوصول إلى محطة حسن الخاتمة بسلام.

فماذا عن هذه الخطوات الخمس المنهجية العملية؟

الخطوة الأولى: ما المصير؟

ونبدأ أول خطوة على طريق رحلة النجاة وحسن الخاتمة.

فنقف ونسأل أنفسنا: ما هو مصيرنا بعد الخاتمة؟

فنجد الإجابة الربانية القرآنية الصريحة؛ أن الخلود بعد هذه الخاتمة سيكون أحد مصيرين: إما إلى جنة، أو إلى نار؛ والعياذ بالله.

{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108] .

إذن! فهنالك فريقان ... وموتتان، وأثران، ومصيران.

فكم هو بعيد ذلك الفارق بين فريق وفريق، وسمات وسمات، وفكر وفكر، وسلوك وسلوك، ونهاية ونهاية، وأثر وأثر، ثم مصير ومصير!

لأنه: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] .

فكيف لو تدبرنا أحوال كل فريق؛ فنتأمل سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ثم مصيره؛ وذلك لنعلم الفارق.

الخطوة الثانية: من هم الأشقياء؟

ثم تأتي الخطوة الثانية؛ فنتدبر أحوال الأشقياء الخاسرين، فنتبرأ منهم، ونبغضهم، وننتهي عن سلوكياتهم، ونستعيذه ـ سبحانه ـ من مصيرهم.

وإذا أخذنا مثالاً لهذا الفريق؛ وهم قوم فرعون.

فماذا نجد لو تدبرنا سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ثم مصيره؟

ونفاجأ أن مفتاح شخصيتهم، بل وسمتهم العامة هي السلبية:

1 ـ لهم عقلية العوام؛ أي أنهم كانوا بلا قضية يعيشون لها، فعاشوا على هامش الحياة.

2 ـ لهم طبيعة القطيع؛ أي غثائيون؛ تحركهم أيدي غيرهم. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] .

3 ـ كانت حالتهم الأخلاقية متدنية؛ كانوا فاسقين، فكان ذلك سبباً رئيساً لأن يُستَخَفَّ بهم، ولا يحملوا أهلية الاحترام من قيادتهم الفرعونية، ورغم هذا فإنهم يطيعونها قهراً وإرغاماً: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] .

4 ـ لهم نفسية العبيد؛ أي القابلية للذل.

لهذا كان حاكمهم مستبد وظالم يرى نفسه فوق النصيحة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] .

ثم يرى سلبيتهم فيطغى، ويرى أن رأيه هو الرأي؛ ويحمل المذهب الاستئصالي للآخر: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] .

بل ـ والعياذ بالله ـ نراه قد تمادى في تكبره فتجرأ ـ وذلك لكفره ولغيبة أو لتغييب المعارضة ـ حتى بلغ به الشطط كل مبلغ، فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] .

ونظراً لقناعته وتبنيه للمذهب الإقصائي للآخر؛ فإنه لا يحترم الآخر، ولا يقر بالتعددية، وتصوره للآخر تصور شائه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . [الزخرف: 52 - 53] .

5 ـ وكانت نتيجة هذا المناخ المريض الفاسد، أو المحصلة النهائية، هي تحقق سنته الإلهية ـ سبحانه ـ وهي النجاة للمؤمنين، وهلاك الظالمين؛ سواء في ذلك الحاكم والمحكومون من قومه، وغرق فرعون وملؤه.

ولأنهم ألغوا عقولهم، ففقدوا حريتهم، وفقدوا اختياراتهم؛ وكما اتبعوه في الحياة الدنيا؛ كان جزاؤهم من جنس ما صنعوا ورضوا بالهوان، فكان قائدهم في الخاتمة {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 98 - 99] .

6 ـ لم يتركوا أثراً طيباً في الحياة، يذكِّر الناس بهم بعد موتهم.

كانوا منعزلين عن الوجود، مبغوضين فلم يأسف عليهم أحد.

لقد ذهبوا {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29] فلم (تك لهم أعمال صالحة، تصعد في أبواب السماء، فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله ـ تعالى ـ فيها فقدتهم؛ فلهذا استحقوا أن لا يُنظَروا ولا يؤخَّروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه؛ فإذا مات فقداه وبكيا عليه ـ وتلا هذه الآية: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} . وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح، فتفقدهم فتبكي عليهم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} . ثم قال: إنهما لا يبكيان على الكافر» . سأل رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك؛ إنه ليس من عبد إلا له مصلَّى في الأرض مصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء. ثم قرأ علي ـ رضي الله عنه ـ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} .

أتى ابنَ عباس ـ رضي الله عنهما ـ رجلٌ فقال: يا أبا العباس! أرأيت قول الله ـ تعالى ـ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} . فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال ـ رضي الله عنه ـ: نعم! إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله؛ فإذا مات المؤمن فأُغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده، بكى عليه، وإذا فقده مصلاَّه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله ـ عز وجل ـ فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله ـ عز وجل ـ منهم خير؛ فلم تبك عليهم السماء والأرض. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً. قال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال: فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لذكره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل. وقال قتادة: كانوا أهون على الله ـ عز وجل ـ من أن تبكي عليهم السماء والأرض) (?) .

7 ـ وكان التعقيب القرآني حول هذه السنَّة الإلهية، التي تنتظر كل مفسد: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] .

الخطوة الثالثة: من هم السعداء؟

وهي أن نتدبر أحوال فريق السعداء الفائزين، ونقتدي بهم.

ثم ندعو له: «اللَّهُمَّ اغْفرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا. اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَىـ الإيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإسْلامِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» (?) .

ونحبه في الله ـ تعالى ـ لعلنا نُحشَر معه، كما أخبرنا أَنَسٍ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لا شَيْءَ إلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت. َ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إيَّاهُمْ وَإنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ» (?) .

فماذا عن هذا الفريق؛ لو تدبرنا سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ومصيره؟

ونفاجأ كذلك بأن مفتاح شخصيتهم، وسمتهم العامة هي الإيجابية؛ خاصة لو وضعنا أمام أعيننا أمثلة راقية لهم؛ مثل مؤمن آل فرعون، وسحرة فرعون، وغلام الراهب، وشهداء الأخدود، ومؤمن ياسين، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.

1 ـ إنهم أصحاب قضية سامية عاشوا لها وعاشت بهم.

وتدبر تلك القضية التي حركت الرجل المؤمن، لينصر موسى ـ عليه السلام ـ وعندها لم يعد يجدي الصمت.

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ} [غافر: 28] .

ثم جاء الوقت ليعلن قضيته علانية؛ ولو أدى إلى استشهاده.

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 38 - 45] .

2 ـ إن نظرتهم للحياة الدنيا؛ نظرة موضوعية، كنظرة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عندما حكى فقَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لموْتِك» (?) .

3 ـ إنهم كانوا يعيشون لغيرهم كما عاشوا لأنفسهم؛ فكانوا يحبون الخير لغيرهم ويفعلونه.

وتدبر كيف قتل الغلام الدابة التي تعترض الناس، وكيف ساعد على شفاء المرضى بما فيهم جليس الملك.

4 ـ إنهم كانوا مبادرين في اختيار نهايتهم، بل شاركوا في صنعها، واختاروها.

وتدبر نهاية غلام الراهب ومؤمن ياسين ومؤمن آل فرعون، وكذلك موقف السحرة، وتحديهم لفرعون؛ عندما {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .

5 ـ أحبوا الموت، ليس هروباً من الحياة؛ كم حذرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ إمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» (?) ، ولكن حباً وشوقاً إلى لقائه ـ سبحانه ـ كما جاء في هذا الحوار:

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَه، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإنَّ الْكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» (?) .

وتدبر موقف أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ في غزوة أُحُد؛ عندما حكى أَنَس ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي أَصْحَابَهُ ـ وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ـ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ؛ وَرَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَقَالَ: إنَّ أُخْتَهُ ـ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ ـ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَرَضُوا بِالأَرْشِ، وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ» (?) .

وكذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عندما قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» . قال عمير بن الحمام: بَخٍ بَخٍ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» . قال: لا، واللهِ يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» . قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل» (?) .

6 ـ كانوا يعلمون أثر نهايتهم، فنجحوا في توظيفها من أجل قضيتهم، كما وظفوا لها حياتهم.

وتأمَّل كيف دل الغلامُ الملكَ على سر موته؛ «فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. آمَنَّا بِرَبِّ الْغلامِ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ ـ وَاللَّهِ ـ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّهِ! اصْبِرِي؛ فَإنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (?) .

وتأملْ: هل سيكون هذا الإيمان الجماعي، وستحدث تلك المظاهرة الإيمانية الجماعية، لو عاش الغلام ودعاهم للإيمان؟

7 ـ إنهم انتصروا بفكرتهم، وتركوها رصيداً ونبراساً على طريق الفائزين من بعدهم؛ ليخلدوا صورة راقية من صور النصر.

8 ـ إنهم شاركوا في صنع مصيرهم بعد نهايتهم؛ وهو الخلود في الجنة.

وتأملْ موقف مؤمن ياسين؛ عندما تمنى مصيراً لقومه مثل مصيره؛ عندما {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27] .

الخطوة الرابعة: مع المختارين:

وتأتي الخطوة الرابعة في سلم الرقي الإيماني، فنطمع في أن نكون ضمن المختارين من الفائزين، وهم الذين فضلوا المِيتة الزكية الشريفة.

وهم الذين اختارهم الحق ـ سبحانه ـ من بين أحبائه المخلصين: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] .

ولنتأملْ فيما أعده ـ سبحانه ـ لهم.

وكيف ضمن لهم كل ما يشغل أي عبد لنفسه ولأهله ولمستقبله؟

أي أن الباري ـ سبحانه ـ قد حل لهم كل مشكلاتهم الحياتية والأخروية.

فندرك لِمَ استعذب هؤلاء النخبة الشهادة، فجعلوا يتمنونها حتى وهم في أعلى درجات الجنة؟

1 ـ الأمن من سكرات الموت:

«مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ أَلَمِ الْقَتْلِ إلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ أَلَمِ الْقَرْصَةِ» (?) .

2 ـ الأمن من فتنة القبر:

«أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إلا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» (?) .

3 ـ الأمن على الأهل والولد:

«يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» (?) .

4 ـ التسجيل مع الأوائل:

«إنِّي لأعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَفَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ. وَإنِّي لأَعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: سُلْطَانٌ مُتَسَلِّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهُ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» (?) .

5 ـ الفضائل الفورية الست:

«يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ:

يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ،

وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ،

وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ،

وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ،

وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ،

وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإيمَانِ» (?) .

«لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ:

يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» (?) .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَ الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «لا تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِهِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا فِي بَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيَدِ ـ أَوْ قَالَ فِي يَدِ ـ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (?) .

6 ـ المرتبة العليا من الجنة:

«الْقَتْلُ ثلاثَةٌ:

رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إلا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ.

وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ مُحِيَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ؛ فَإنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.

وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ، السَّيْفُ لا يَمْحُو النِّفَاقَ» (?) .

إنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: «يَا نَبِيَّ! اللَّهِ ألا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ ـ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ ـ فَإنْ كَانَ فِي الجنَّة صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ؟ قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى» (?) .

«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا. قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» (?) .

7 ـ استعذاب الشهادة:

«مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إلا الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ؛ فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» (?) .

«مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إلا الشَّهِيدُ؛ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَة» (?) .

8 ـ السعادة الأبدية:

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .

الخطوة الخامسة: كيف نجيد فن حب الموت عملياً؟

ثم تجيء الخطوة الخامسة؛ وهي عوامل الاستمرارية والثبات على طريق النجاة.

وهي التطبيقات العملية على طريق حسن صناعة الموت.

1 ـ تجديد النية:

«مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهِيدِ» (?) .

2 ـ صندوق تجهيز الغازي:

«من جهز غازياً في سبيل الله ـ تعالى ـ فقد غزا» (?) .

3 ـ صندوق كفالة بيت الغازي:

«ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير، فقد غزا» (?) .

4 ـ الصحبة المؤمنة:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ؛ ألا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ. مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ» (?) .

5 ـ المعايشة الدائمة للخطوات الأربع السابقة.

6 ـ المعايشة القرآنية.

7 ـ التدبر في سِيَر السائرين على الدرب، واتخاذ شخصياتهم واسمائهم قدوة.

8 ـ فقه مرض العصر:

(?) ما هو؟

هو مرض الغثائية.

(?) ما سببه؟

كما جاء في فتوى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عندما وضع المعادلة:

(الوهن = حب الدنيا + كراهية الموت ----- الغثائية) .

(?) ما علاجه؟

حب الموت في سبيل الله.

عَنْ ثَوْبَانَ ـ رضي الله عنه ـ قَال: َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ» (?) .

أخيراً:

ليكنْ هدفنا الذي نضعه على قمة جبل حياتنا؛ هو أحد خيارين لا ثالث لهما:

فإما حياةٌ تسرُ الصديق وإما مماتٌ يكيدُ العِدى

أو كما اختار سيد قطب ـ رحمه الله ـ:

فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015