مجله البيان (صفحة 5557)

إعداد القوة.. الواقع والمأمول

محمد بن شاكر الشريف

الحق له قوة ذاتية نابعة منه ومن تجافيه عن الباطل، ويستطيع دعاة الحق أن يصلوا به إلى عقول الناس، بما احتواه من الحجج والبراهين الدالة عليه، ولا يحتاج الحق في إقناع الناس به إلى قوة تجبرهم أو تُكرههم على القبول به واختياره؛ فإن قوته فيه، ومتى ما احتاج الحق إلى الإكراه لتحقيق الاقتناع بأدلته وبراهينه لم يكن حقاً؛ لذا جاء النص بنفي الإكراه في الدين؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . فالإسلام دين حق عليه دلائل يقينية كل من اطلع عليها لا يملك غير التسليم بها والإذعان لها؛ فلا حاجة إذن إلى الإكراه عليه. قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهاً مقسوراً» (?) . ولعل مجيء الآية بلفظ: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» ، وليس بلفظ: لا إكراه على الدين، مما يوضح ذلك، ثم كان قوله ـ تعالى ـ: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} كالتعليل لما سبق.

ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين:

الأول: لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين وصيال الصائلين الذين ختم الله ـ تعالى ـ على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين.

الثاني: جهاد الطغاة الظالمين الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة للنداء الحق، ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبراً وقسراً على البقاء على دينهم الفاسد وعدم الإقبال على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله ـ تعالى ـ الجهاد.

لقد كانت مكة عند بداية الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ دار كفر وكان الغالب على أهلها الكفر بالله تعالى، واستمر ذلك زمناً طويلاً؛ لذلك لم يكن هناك من فائدة لإعداد العدة والقوة الحربية؛ لأنها في ظل موازين القوى غير المتكافئة لن تستخدم، ويكون استخدامها في ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة مدعاة للقول بأن الإسلام جاء من أجل قتال الناس، ولو قُدِّرَ له الانتصار لقالوا: إنما انتشر بقوة السيف ودخله الناس مكرهين ولم يدخلوا مؤمنين.

ثم إن ذلك قد يؤدي إلى أمر خطير لو قُدِّر للدعوة أن تنهزم وهو استئصالها في مهدها ومنعها من النمو، كما أن شرع الجهاد في ذلك الوقت المبكر لن يساعد على تربية المسلمين الذين استجابوا لله والرسول ولدعوة الحق.

ومع أن الإعداد الحربي في ذلك الوقت غير ممكن وغير مراد، لكن كان يجري هناك إعداد أهم بكثير من الإعداد الحربي، بل لا يقوم الإعداد الحربي إلاَّ عليه، فكان هناك إعداد أكثر أهمية يجري على أرض الواقع على بصيرة وجد واجتهاد، مع الروية وعدم العجلة، وهو بناء المسلم من داخله: عقيدته، وتصوراته، وعبادته.

وما إن انتقل المسلمون من دار الدعوة (مكة المكرمة) إلى دار الدولة (المدينة المنورة) حتى بدأت مرحلة جديدة من الإعداد وهو الإعداد الحربي، وجاء الأمر بذلك من الله ـ تعالى ـ رب الخلق جميعهم، فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «أمر ـ تعالى ـ بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم} ، أي مهما أمكنكم {مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} » (?) ، وقال الطبري في بيان أنواع القوة بعدما تحدث عن الرمي: «ومن القوة أيضاً السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم» (?) . وقال الطيب ابن عاشور: «والإعداد: التهيئة والإحضار، ودخل في (ما استطعتم (كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة. والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم؛ لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها، والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها ... فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا، وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثاً، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي أي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي» (?) .

فقد صار بالإمكان الآن ـ بعد تحيز المسلمين إلى دار تأويهم ـ استعمال العدة الحربية والاستفادة منها، وأصبح وجودها والتدرب عليها في هذه الحالة ضرورة لا بد منها حيث تُحِقق أهداف المسلمين، بعكس الحالة الأولى التي كان من الممكن أن تشكل عبئاً عليهم. وقد أطلقت الآية في بيان القوة التي ينبغي إعدادها من غير تقييد حتى يسمح إطلاقها بقبول ما يجدُّ من آلات القوة مع تغير الأزمنة، وهذا الأمر يفرض على جماعة المسلمين الجد والاجتهاد والمثابرة في تحصيل القوة الممكنة في عصرهم التي من شأنها أن تردع الكفار المحاربين أعداء الله ـ تعالى ـ ورسله والمؤمنين.

وفي الأمر بإعداد ما يستطاع من القوة نهي عن الإهمال والتقاعس عن امتلاك أقصى ما يمكن امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية؛ فالأمة الإسلامية أمة رسالية، مطلوب منها تبليغ رسالة الله إلى العالمين.

وقد بَيَّن نص الآية السبب الذي لأجله أُمِرَ المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة، وهو قوله ـ تعالى ـ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فكان في إعداد القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا يعرفه المسلمون، مما يشكل رادعاً لمن تسول له نفسه مهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في إعداد ما يستطاع من القوة مدعاة لأن يستخف بهم اعداؤهم ويتجرؤون عليهم.

هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء بغرض تأمين الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ في أرض الله، وتأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، يفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على مصراعيه؛ لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) . ومن هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش المسلمين بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم في جميع المجالات الحربية: البرية، والبحرية، والجوية.

ويستتبع إقامة المصانع الحربية العناية بتدريس العلوم التقنية التي تُعَد بمكان اللبنة الأولى اللازمة لإقامة تلك المصانع، وتشجيع البحث العلمي، ورصد الميزانيات المناسبة له، وليس يُقبَل عقلاً أو شرعاً أن ميزانية بعض أندية الألعاب البدنية، أو مؤسسات اللهو كالسينما ونحوها في بلد مسلم واحد، تفوق ميزانيات البحث العلمي في بلاد المسلمين مجتمعة.

وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لَيُدخِل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعَه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممدَّ به، وقال: ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق» (?) ، وقد تناول هذا الحديث أموراً ثلاثة: رامي السهم وهو يمثل الجيش، وصانعه وهو يمثل الصناعات الحربية، والممد به وهو يمثل التموين والإمداد الذي تحتاج إليه الجيوش.

وقد بَيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهمية ائتلاف تلك العناصر الثلاثة، وأشركهم جميعاً في حصول الثواب؛ فلم يَقْصِرْ ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكاً للمجاهد في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية الحوزة، ولأن المجاهد بالفعل يحتاج في جهاده إلى الآلة الحربية المناسبة، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا بالتصنيع. كما بَيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهمية الإمداد والتموين؛ فقد يوجد المجاهد ويوجد السلاح، ولا يوجد من يوصل السلاح إلى المجاهد وقت الحاجة إليه، فلا بد من وجود من ُيمِدُّ بالسلاح ويوصله إلى من يجاهد به.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «صانعه يحتسب في صنعته الخير» ، يعني يطلب في صنعة السهم الثواب من الله تعالى، وهذا لا يعني أن لا يأخذ على ذلك أجراً، بل القصد أن يكون يريد بذلك العمل نصرة الدين والدفاع عن حوزة المسلمين.

وقد أشار القرآن إلى الصناعات الحربية في قوله ـ تعالى ـ: { ... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ... } الآية [الحديد: 25] ، قال ابن كثير: «فيه بأس شديد: يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها» (?) والحديد لا يصير سيوفاً وحراباً ونصالاً إلا بالتصنيع، وكذلك قال ـ تعالى ـ ممتناً بتعليم الصناعة الحربية لعبده داود ـ عليه السلام ـ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] قال القرطبي: «قوله ـ تعالى ـ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] : يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له. واللبوس عند العرب السلاح كله: درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً» (?) . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10 ـ 11] والسابغات: جمع سابغة، وهي الدرع التي تغطي المقاتل غطاء وافياً، والدرع: القميص من حديد أو غيره.

كما دلت النصوص على العناية بالمركبات الحربية التي يستخدمها المجاهدون، أو التي تنقلهم إلى ميادين الجهاد، مما يبين أن صناعة المركبات الحربية سواء كانت دبابات برية أو سفناً وغواصات بحرية أو طائرات جوية، ينبغي أن تلقى العناية أيضاً؛ فإن الجهاد بغيرها متعذر أو مستحيل في أيامنا.

ومن النصوص التي تحدثت عن المركبات الحربية قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} فالخيل هي المركبات الحربية في زمن نزول القرآن، وقد دلت السنَّة على العناية بالخيل ووردت فيها أحاديث كثيرة؛ فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده؛ فإن شِبَعه ورِيَّه ورَوْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (?) ، أي من هيأ فرساً وأعده للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ طاعة لله ـ تعالى ـ وابتغاء وجهه فإن ما يأكله هذا الفرس من الطعام وما يرتويه من الماء، وما يخرج منه من بول أو روث كان ذلك كله حسنات توضع في ميزان ذلك الشخص، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية العناية بالمركبات الحربية. وأخرج البخاري في صحيحه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر: فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة؛ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يُرِدْ أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ... » الحديث (?) . ومعنى الحديث أن من أعد خيله للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ فإنه يؤجر على كل شيء يتعلق بها؛ فلو ربطها في حبل طويل وتركها ترعى فإن كل مسافة مشتها وهي في الحبل كي ترعى كانت له حسنات، ولو أنها قطعت ذلك الحبل فاستنت أي أفلتت ومرحت شرفاً أو شرفين ـ والشرف ما ارتفع من الأرض ـ كانت آثارها وما تلقيه من فضلات حسنات له، ولو مرت بنهر فشربت منه من غير إرادة له في ذلك كانت أيضاً حسنات له؛ فكيف لو أراد؟ وهذا مما يدل على عناية الإسلام بكل ما يعين ويساعد على نشر الدعوة وحماية الحوزة، ومن ذلك بلا شك المركبات الحربية.

وقد بلغت عناية المسلمين بالسلاح وإعداد القوة اللازمة لنشر الدعوة وحماية الحوزة أن جعل أهل العلم السهمين الواردين في قوله ـ تعالى ـ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... } الآية [الأنفال: 41] في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قال الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان عليٌّ يقول فيه؟ قال: كان أشدَّهم فيه؛ وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله» (?) .

واستخدم الصحابة فمَنْ بعدَهم الآلات الحربية في الفتوحات كالمنجنيق (وهي الآلة التي تقذف بها الحجارة وما أشبهها) والعرَّادات (جمع عرادة وهي أصغر من المنجنيق) ، والدبابات (الدبابة: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، ويطلق عليها أيضاً الدراجات والضبور) ، ولم يتقاعسوا عن استخدام الأسلحة التي وصل إليها التقدم العلمي في عصرهم.

وقد اعتنى المسلمون إلى جانب ذلك بالصناعات البحرية لحاجتهم إلى السفن الحربية في نشر الدعوة والدفاع عن الديار، فأنشأ المسلمون بمصر في جزيرة الروضة (دار الصناعة لبناية السفن) لأول مرة وكان ذلك عام 54 هجرية (?) ، وفي سنة أربع عشرة ومائة أنشأ المسلمون (دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية) في تونس (?) ، وتوالى بعد ذلك إنشاؤها.

فإذا كانت النصوص الشرعية قد دلت على العناية بصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وعمل بذلك سلفنا الصالح، فإنه يكون من أكبر التقصير الذي تقع فيه الأمة اليوم أن تظل تعتمد في سلاحها الذي تحفظ به أمنها وتنشر به دعوة الله المكلفة بإيصالها للعالمين، على عدوها الذي لا يألوها خبالاً كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .

ولا شك أن اعتماد الأمة في سلاحها على الشراء فقط دون التصنيع، له مفاسد كثيرة، منها: المبالغ الضخمة التي تُدفع في هذه الأسلحة التي تفوق بمراحل كثيرة قيمتها الفعلية، ومنها أن تلك الأسلحة لا يمكن أن تكون أسلحة متقدمة متطورة تغني في مواقع النزال مع أعداء الأمة، بل إن موردي السلاح من دول النصارى لا يعطون الأمة إلا الأسلحة التي لا تخل بميزان القوى بين الأمة وبين عدوها، بحيث تضمن تلك الدول للعدو أن يحقق التفوق الحربي على الدول العربية مجتمعة أثناء القتال، ومنه منع الإمداد بالسلاح أو الذخيرة وقت الحاجة إليه، فتقف الجيوش عاجزة عن التحرك، ويُفرَض على الأمة حينئذ ما يشاؤون من الحلول الانهزامية؛ وأمامنا ما حدث في قضية البوسنة والهرسك؛ حيث منع عنهم السلاح وهم يتعرضون للقتل الشديد من الصرب. ومن مفاسد الاعتماد في التسليح على الغير أن يكون قرار الأمة مغلولاً غير قادر على التحرر والاستقلالية، وهذا الوضع يؤدي إلى استخفاف كثير من الدول بالمسلمين.

إن من الأمور الغريبة التي يعسر إيجاد تسويغ مقبول لها أن تكون الأمة التي جعل الله الجهاد في سبيله لتبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس كافة أحد فرائض دينها، ثم هي تهمل آلته وما يساعد عليه، رغم امتلاكها لكل ما تحتاج إليه مما يمكن أن يقيم صناعة حربية متطورة تزود الدول الإسلامية جميعها بما تحتاج إليه.

لقد أدى هذا الوضع إلى أن تُنْتَقَص بلاد المسلمين من أطرافها، ويحتلها الكفار من اليهود والنصارى وهم مطمئنون إلى عدم قدرة هذه الدول على الدفاع عن نفسها؛ لأنها لا تملك سلاحها الذي تدافع به عن نفسها.

لقد تطورت صناعة الأسلحة بما فيها المركبات الحربية في أيامنا هذه تطوراً مذهلاً، وقد بات الآن من الأمور الواضحة في فقه السياسة الشرعية وجوب القيام بالتصنيع الحربي في جميع المجالات، وجوباً لا يحتمل التأخير والمماطلة، وإذا كانت الأمة تعاني من تخلف كبير في هذا المجال فإنها يمكنها أن تتكامل في ذلك مع الدول الإسلامية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، وأن تبدأ من الآن، وتوجه الجهود، وتقيم مراكز الأبحاث، وترصد الأموال اللازمة، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.

إن من الأمور اللافتة للنظر والتي تبين الأهمية القصوى للتصنيع الحربي هو حرص الدول القوية في العالم على حرمان الدول الإسلامية من امتلاك الأسلحة القوية المتطورة ذات القوة التدميرية العالية الرادعة، مع أن هذه الدول تمتلك هذه الأسلحة وتستخدمها في معاركها ضد أعدائها، وتهدد باستخدامها ضد من يحاول امتلاكها، ولم تتوقف مراكز أبحاثها عن النظر في هذه الأسلحة وتطويرها وابتكار أشكال جديدة منها، وهو ما يعني إصرار هذه الدول على التفرد بالقوة الحقيقية في العالم، واستخدام الأسلحة المتطورة ذات القوة التدميرية العالية الرادعة ضد من يحاربونهم دون أن يخشوا من الرد بالمثل، وهو يكشف في جانب منه عن النظرة الاستعمارية أو الاستعلائية التي تملأ عقول النخب في هذه الدول، بإزاء الدول الضعيفة، والتي تريد أن تحولهم إلى مجرد ذيول لها وأتباع، وبغياب القدرة الحقيقية على الردع بحرمان الدول من امتلاك الأسلحة المناظرة وفرض ذلك بالقوة، يتحول العالم إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيفَ ويملي عليه شروطَه، ولا يكون أمامه إلا أحد خيارين: إما القبول والإذعان لما يطلب منه، وإما الدمار، وفي ذلك تهديد للسلام في العالم؛ لأن من أَمِنَ العقوبةَ أساء الأدب.

والإذعان لهذا الوضع والقبول به والاستسلام له، معناه تحوُّل أمتنا إلى أمة تابعة لا تملك الدفاع عن نفسها أو مقدساتها، ولو كانت أمتنا الإسلامية تصنع سلاحها الذي تحتاج إليه بيد أبنائها كما كانت في الماضي، لما تجرأ عَبَدَةُ الصلبان على الاستخفاف والطعن في أفضل الناس وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

إنه ليس هناك ما يُسوِّغ لأحد التقاعس أو الإهمال في إعداد العدة المناسبة لعصرها، وقد تبين لنا جميعاً أنه لا يمكن الاعتماد أو الركون إلى ما يسمونه تطمينات أو وعود أو نحو ذلك؛ فالخطط معدة، والانقضاض على بلادنا ليس إلا مسألة ظرف مناسب؛ فالبدارَ البدارَ؛ فإن الندم بعد وقوع المصاب لا يجدي، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015