أم تقدير حكيم؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس
في العشرين من ديسمبر من السنة الماضية أصدر قاضٍ أمريكي بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة حكما بأن تدريس النظرية المسماة التصميم الذكي (?) في المدارس الحكومية (وهي نظرية معارضة لنظرية التطور) أمر مخالف للدستور. وكان السبب الذي علل به حكمه هو أن النظرية نظرية دينية لا علمية؛ لأنها تشير إلى الخالق.
ماذا تقول هذه النظرية؟ وعلامَ يدل هذا الحكم؟ ثم ما العلاقة بين الداروينية والمعتقدات الدينية؟
هذا ما سنعرض له بإيجاز في هذا المقال.
أما النظرية فإن أكثر من اشتهر بها من علماء الأحياء في الأيام الأخيرة، ودافع عنها دفاعاً علمياً أقر به خصومه، هوMichael رضي الله عنهehe الأستاذ في علم الأحياء الكيماوية في كتاب له صدر في عام 96 بعنوان (صندوق دارْوِن الأسود: التحدي الأحيائي الكيماوي للتطور) (?) .
قال المؤلف في كتابه هذا إن الأحياء الدقيقة مثل الخلية كانت بالنسبة لدارْوِن أمراً مجهولاً ـ صندوقاً أسود لا تعرف محتوياته، وأن نظريته لا تفسر أشياء مهمة مثل الخلية التي هي أساس الكائنات الحية. وكانت حجته الجوهرية أن تركيب هذه الكائنات يدل على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت، وأنها صممت منذ البداية لتؤدي وظيفتها، وأنه لا بد أن يكون قد صممها مصمم حكيم (?) .
وذكر في كتابه بأن دارْوِن نفسه كان قد قال إنه إذا أمكن أن يقام دليل على وجود كائن حي مركب ما كان من الممكن أن يتكون من تغيرات كثيرة طفيفة متتالية، فإن نظريتي ستنهار انهياراً كاملاً (?) . ما طبيعة هذا الكائن الأحيائي الذي تنطبق عليه هذه الصفات؟ يقول المؤلف بإيجاز: إنه النظام المكون من أجزاء متفاعلة متوائمة يسهم كل منها في الوظيفة الأساسية للنظام، بحيث إنه لو أزيل واحد منها توقف النظام عن العمل. إذا وجد نظام أحيائي بهذه المثابة فإنه سيمثل تحدياً عظيماً للداروينية؛ لأن الاختيار الطبيعي إنما يعمل على كائنات فاعلة، ومثل هذا الكائن لا يفعل، لا يؤدي وظيفته إلا إذا اكتمل تركيب أجزائه كلها.
وأعطى في مقدمة كتابه فكرة مبسطة لمفهوم التركيب المعقد الذي ليست له أجزاء بسيطة. ضرب المؤلف مثلاً لنوع هذا التركيب بشَرَك اصطياد الفئران. هذا الشَّرَك مركب من خمسة أجزاء لا يعد أي منها شركاً في مرحلة بدائية؛ فالقاعدة الخشبية مثلاً لا تؤدي وحدها أي وظيفة من وظائف الشرك، وكذلك الحال بالنسبة للزنبرك وسائر الأجزاء. إن هذه الأجزاء لا تكون شَرَكاً إلا بتركيبها هذا التركيب المعين الذي قصد منه أن يجعل منها شركاً.
أما الكائنات التي يمكن أن تتطور والتي اعتمد عليها دارون في نظريته؛ فإن كل مكون من مكوناتها يمثل طوراً من أطوار تطورها، ويؤدي شيئاً من وظيفتها وإن كان بدائياً. ومهمة النظرية الداروينية هي أن تفسر لنا الطريقة التي ينتقل بها هذا الكائن من طور إلى طور بما أسماه الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي.
فالكائنات التي يمكن أن تصلح لتفسيرها نظرية دارون هي كائنات من هذا النوع الذي يمكن أن يتطور. أما الذي لا تنطبق عليه هذه الصفة، والذي لا تكون أجزاؤه مرحلة من مراحل نموه كالشَّرَك، فإن النظرية لا يمكن أن تفسره، بل إن تركيبه ليدل على أنه جاء نتيجة تقدير لموجد حكيم.
لم يكتف المؤلف بهذا بل أضاف إلى أن مما يثبت قوله بأن نظرية دارون لا تستطيع تفسير مثل هذه الكائنات الجزيئية أن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يفسرها بها. فمن بين آلاف البحوث التي كتبت في موضوع الكيمياء الحيوية، لم تكتب إلا ثلاثة بحوث في هذا الموضوع، ولم ينجح واحد منها في تطبيق الداروينية عليها.
يبدو من هذا الكلام أن صاحب نظرية التصميم الذكي قد زعم أنه يعتمد في دعواه على حقائق حسية، واستنتاج عقلاني. فعلى الذين يخالفونه أن يبينوا زيف ما قال بحجج مماثلة. وقد حاول بعضهم أن يفعل هذا.
وقد استمع القاضي إلى شهود من أمثال هؤلاء انتقدوا النظرية على أساس علمي. لكن القاضي لم يعتمد في حكمه على مثل هذه الشهادة، بل اعتمد على أيدلجية مادية إلحادية شاعت في عصرنا حتى صارت جزءاً من مفهوم العلم. فحوى هذه الأيدلجية هو أن الكون الطبيعي كون مكتفٍ بنفسه؛ فالتفسير العلمي لما يحدث فيه يجب أن يكون بأسباب من داخله، وأن كل إشارة إلى سبب فوق الطبيعة، كتعليل الحوادث بقدرة الله ـ تعالى ـ تعليل غير علمي. وقد عبر أحد الشهود، وهو أستاذ مختص بفلسفة العلوم عن هذا الرأي؛ إذ قرر أنه بما أن القضية الأساس لنظرية التصميم هي أن معالم العالم الطبيعي أحدثها كائن متعال غير مادي وغير طبيعي؛ فإن نظرية التصميم هي قضية دينية بغض النظر عن كونها سميت بهذا أو لم تسمَّ (?) .
أنا لم أستغرب حجة القاضي هذه؛ لأن هذا هو المفهوم الشائع للعلم، وهو مفهوم فلسفي واعتقادي غالط لا علاقة له بالعلوم، كما كان بعضنا قد قال ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وبنوا عليه الدعوة إلى ما سمي آنذاك بأسلمة العلوم. ولم يكن القصد من الدعوة إلى الأسلمة أن نغير الحقائق العلمية كما ظن بعض من اعترضوا على الفكرة؛ لأن ديننا يقوم على الحق، فلا يحتاج إلى تغيير حقيقة مهما كان نوعها. هو أن توضع الحقائق كلها الطبيعية والاجتماعية والنفسية في إطار إيماني بدلاً من الإطار المادي الإلحادي الذي توضع فيه الآن، والذي يؤدي إلى جعل الدين بالضرورة أمراً مخالفاً للعلم الطبيعي.
- الدارونية ووجود الخالق:
لو أن كل الوقائع التي اعتمد عليها دارون في نظريته كانت صحيحة، ولو أن كل العلاقات السببية الطبيعية التي فسر بها تطور الكائنات الحية كانت أيضاً صحيحة، لم يكن في هذا كله ما يدل على عدم وجود الخالق، أو الاستغناء عنه. فالقول بالإلحاد ـ هو كما قلت ـ اعتقاد لا علاقة له بالعلم، ويمكن لذلك أن يضاف إلى كل نظرية علمية. فكلما اكتشف العلماء سبباً طبيعياً لظاهرة من الظواهر الكونية عزوا سببها إلى ذلك السبب الطبيعي، وزعموا أنه يغني عن القول بوجود خالق، هذا اعتقاد قديم وليس من العلم الحديث في شيء. فالذين روى الله لنا قولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] كانوا يعتقدون مثل هذا الاعتقاد، والذين فسروا التاريخ بقولهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] كانوا أيضاً منكرين لوجود الخالق معتقدين أنه ليس وراء حوادث الكون مدبر وأنها تقع خبط عشواء.
أما المؤمنون فإنهم لا ينكرون فاعلية الأسباب الطبيعية، أو المقدرات البشرية. هل رأيت مؤمناً ينكر أن الطعام يغذي، والماء يروي، والدواء يشفي؟ لكنهم مع اعتقادهم بفاعلية الأسباب إلا أنهم مؤمنون بأن لها خالقاً هو الذي جعلها أسباباً، وأنه لا تنافي بين فاعلية الله وفاعلية الأسباب الطبيعية أو فاعلية الإرادة البشرية؛ لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً، ولأنه ـ سبحانه ـ من عادته أن يفعل بالأسباب كما كان علماؤنا يقولون.
نعود إلى نظرية دارون فنقول:
1 ـ إنها تبدأ بالتسليم بحقائق لا تفسرها، لكنها تعتمد عليها. فهي تبدأ بأن هنالك كائنات حية، وأن هذه الكائنات تتكاثر بالتناسل، وأن المولود يرث بعض خصائص الآباء، وأنه لا يوجد كائنان حيان متماثلات تماثلاً كاملاً في صفاتهما. وإذا كانت لا تفسر وجود هذه الحقائق فأنى لها أن تنفي أن لها خالقاً؟
2 ـ تفترض النظرية أن للكائنات الحية كلها أصلاً واحداً تكاثرت عنه.
3 ـ مهمة النظرية هي أن تفسر هذا التكاثر، أي أن تبحث عن الأسباب الطبيعية التي تجعله ممكناً وبهذه المثابة التي نشاهدها.
4 ـ تقرر النظرية حقيقة مشهودة هي أن الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها الكائنات الحية في وجودها محدودة، ولذلك لا يمكن أن تتكاثر تكاثراً لا يحده شيء، بل لا بد أن ينقرض بعضها ويبقى بعضها.
5 ـ تقول النظرية إن «الميكانزم» الذي يجعل هذا ممكناً هو ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي. أي أن الطبيعة تنتخب بعض الكائنات للبقاء، وتحكم على بعضها بالفناء. لكن عبارة الانتخاب الطبيعي ليست عبارة علمية؛ إذ إنها تعني أن هنالك شيئاً اسمه الطبيعة هو الذي ينتخب، والانتخاب فعل إرادي؛ ولذلك قال دارون إن غيره أسمى هذه العملية بالبقاء للأصلح، ولم يعترض عليه.
6 ـ فحوى الفكرة التي سميت خطأ بالانتخاب الطبيعي هي أن هنالك علاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها. والمقصود بالبيئة كل سبب خارجي يؤثر في حياتها؛ فهي تشمل وجود حيوانات أخرى، كما تشمل المناطق الجغرافية والأحوال المناخية، وغير ذلك. وبما أن الكائنات الحية حتى التي تنتمي إلى مجموعة واحدة كالكلاب مثلاً أو الأرانب، لها صفات مختلفة، فإن ما كانت صفاته مُعِينةً له على العيش في البيئة المعينة التي وجد فيها، كانت فرصته في البقاء أحسن من فرصة من كانت بعض صفاته غير مناسبة مع بيئته. فالحوانات والنباتات تختلف في ألوانها مثلاً؛ فقد يكون لونٌ ما كالبياض مثلاً مناسباً مع بيئة معينة وغير مناسب مع بيئة أخرى، أعني من حيث فرص البقاء أو الفناء. ضرب أحدهم مثلاً بأنه إذا كانت هنالك أرانب برية في الاسكيمو وكان بعضها أبيض اللون وبعضها بنياً، وكان هنالك مصطادون للأرانب، فإنه سيكون من السهل عليهم رؤية الأرانب البنية، وعليه فإن عددها سيقل وربما انقرض إذا استمر الصيد.
إن إنساناً مؤمناً قد يوافق دارون على كل هذا، ويرى فيه تفسيراً طبيعياً لظاهرة بقاء بعض الحيوانات وانقراض بعضها، بل ولتطورها، ولا يرى فيه ما يتناقض مع إيمانه بالخالق، بل يقول: إنه كما أن الله ـ تعالى ـ جعل النار وسيلة للإحراق، والماء وسيلة للإنبات، فقد جعل هذه أسباباً لتطور الحيوانات.
7 ـ حتى القول بأن للحيوان كله أصلاً واحداً نما عنه وتكاثر، ليس فيه ـ سواء كان حقاً أو باطلاً ـ ما يتناقض مع وجود الخالق وفاعليته.
8 ـ إن فكرة التطور التي رأى فيها بعض أهل الأديان غير الإسلامية ما يتناقض مع تصورهم للخلق، لا تتناقض مع التصور الإسلامي له. وذلك لأن الخلق عندنا ليس أمراً يحدث مرة واحدة كما صورته تلك المعتقدات. إن الخلق في التصور الإسلامي أمر مستمر، فما من حادث يحدث في الكون إلا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته. فالله ـ تعالى ـ خالق كل شيء. فكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في بطن أمه مثلاً هي من خلق الله تعالى.
9 ـ الذي يتناقض مع الإسلام في الداروينية هو القول بأن البشر تطوروا عن حيوانات قبلهم. إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يفعل هذا، لكنه أخبرنا بأنه كرم الإنسان فخلقه خلقاً خاصاً، ولم يجعله متطوراً عن حيوان قبله. وقد اعترف بعض من يسمون بالداروينيين الجدد بأن هنالك خطاً فاصلاً بين الإنسان وما سبقه من حيوان، وأن هنالك خصائص إنسانية لا يمكن ردها إلى أصول حيوانية سابقة للإنسان.
لكن القول بخصوصية الإنسان لا يعني أنه مختلف في كل شيء عن سائر الحيوان، ولا يعني اتفاقه معها في بعض الخصائص أنه تطور عنها. بل إن الذي خلقه هو خالق الحيوانات قبله، وهو الذي جعل بينها وبينه شبهاً. ألا ترى أن صانع السيارات ـ ولله المثل الأعلى ـ يمكن أن يصنع سيارة تمتاز عما سبقها من سيارات، لكنها تشابهها في بعض صفاتها؟
دلالة التصميم على وجود الخالق:
الأدلة على أن للكون خالقاً كثيرة؛ لكن من أشهرها ما يسمى بالدليل الكوني ودليل العناية. أما الدليل الكوني ففحواه أن الشيء الحادث لا يمكن أن يخلق نفسه ولا أن يأتي من العدم، بل لا بد أن يكون له صانع من غير نفسه، وأن هذا الصانع لا بد أن يكون غير حادث. المنكرون لوجود الخالق لا يستطيعون أن يفسروا وجود الكائنات الحادثة إلا بأن يقعوا في أحد الخيارين المستحيلين: إما أن يقولوا إن الشيء خلق نفسه، أو يقولوا إنه جاء من العدم.
أما دليل العناية الذي اعتمد عليه صاحب كتاب (الصندوق الأسود) فدليل قديم ومعروف، فحواه أن في الكون تصميماً يدل على أنه لا يمكن أن يكون خبط عشواء وإنما هو تقدير خالق حكيم. هذا التصميم أمر يدركه كل متفكر في الكون وليس قاصراً على الأمثلة التي استدل بها صاحب الكتاب. إن هنالك شمساً، وهنالك بحراً، وهنالك سحاباً، وهنالك أرضاً، وهنالك بشراً، وهنالك حيوانات يقول لك الدليل الكوني إنه لا بد أن يكون لها خالق أزلي، ويقول لك دليل العناية إن هذه المخلوقات منسقة بحيث تؤدي إلى غايات لا يمكن أن تكون قد جاءت بالمصادفة. فالشمس تسطع على البحر فيرتفع منه بخار يتحول إلى ماء تسوقه رياح ينزل على أرض خصيبة تنبت نباتاً يأكله بشر وتأكله حيوانات يكون بعضها غذاء لبعض. المنكرون لوجود الخالق من أمثال بعض الدارونيين يعترفون بهذا لكنهم يصرون على انه جاء مصادفة ولم يأت عن تدبير. ويغلو بعضهم في هذا إلى درجة سخيفة. من ذلك أن عالم دين نصراني اسمه (بالي) كان قد كتب كتاباً نقد فيه فكرة المصادفة وقال: إن وجود هذا التصميم في الكون بالمصادفة كساعة يصنعها صانع أعمى. فكتب رجل من أكبر دعاة الإلحاد الدارويني في أيامنا كتاباً أسماه (صانع الساعات الأعمى) يدافع فيه عن فكرة المصادفة ويزعم فيه أنه وإن كان الكون مصمماً كالساعة فإن تصميمه جاء بالمصادفة فهو كساعة صنعها صانع أعمى!
كتاب الله ـ تعالى ـ مليء بتوجيه الأنظار إلى هذا التصميم الذي يشهد لصانعه بالحكمة والإرادة بل والرحمة بعباده. في مثل هذا التذكير لا يلفت القرآن الكريم الأنظار إلى عجيب صنعه في المخلوق الواحد، وإنما يدعو إلى النظر في العلاقة بين عدة مخلوقات، وكيف أنها علاقة تؤدي إلى نتائج معينة هي في مصلحة الإنسان. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا