إبراهيم بن صالح الدحيم
تشتد الهزيمة ويعظم الخطب حين تُهزم الأمة من داخلها، حين تهتز ثقة الأمة بدينها وعقيدتها ومقدراتها (إن الأزمة الحقيقية لأمتنا الإسلامية هي انعدام الوعي بذواتنا، أزمة فقدان الثقة بقدراتنا على الفعل، وأسوأ ما يمكن أن يصيب أمة هو فقدان الثقة بنفسها وبإمكانياتها وبقدرتها على الفعل والمشاركة الإيجابية في صنع الأحداث وتجاوز المحن والأزمات. وقد تساءل «غوستاف لوبون» في كتابه «حضارة الهند» : كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟! وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لا نراها مختلفة عن جمجمة الإنجليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم، والضعف والاستكانة في آخرين) (?) .
إن أمة تُشعِر نفسها بالضعف فهي ضعيفة، وستظل ضعيفة ما دام هذا الشعور لا يفارقها. لقد بُلي كثير من المسلمين اليوم بالهزيمة النفسية، التي كان من ثمارها الحنظلية العيش مع المجتمعات الأخرى بنفسية المغلوب لا بنفسية الغالب، فحملها ذلك أن انقادت وراء هذه المجتمعات وسلمت لها خطامها وأقرت لها بالتبعية والولاء.
من يهنْ يسهل الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
لقد نكبت الأمة وذلت، وزلت، وضلت، يوم وجهت وجهها نحو الغرب الكافر، فأصبحت تقتات من فتاته، وتتمسح بأعتابه، وتسير في ركابه. زيَّن لها ذلك أصحاب الفكر المغلوب، والعقل القلوب، الذين ما فتئوا يصيحون بالأمة أن تسلم قيادها للغرب، وأن تأخذ كل ما عنده من عادات وثقافات (خيرها وشرِّها، حلوها ومرِّها، ما يُحمد منها وما يُعاب) (?) ، زد عليه ذاك الجهد الكُبَّار من الكفار في تغريب المجتمعات الإسلامية، ومسخ هويتها وعزلها عن منبع عزِّها ومكمن فخرها، حتى خرج جيل بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بعيد في ثقافته، وشخصيته، وسلوكه، ونمط حياته.
وإن الذي ينظر في أحوال المسلمين اليوم يرى عجباً من نتاج التغريب المستمر، يرى ذلك الجهل الظاهر لمهمات الدين في الشعوب المسلمة، بينا تجد جموعاً منها لا تجهل ملابسات (وفاة الكلب سولي أو الكلبة لولي!!) (?) لقد كان من نتاج هذا التغريب أيضاً: الجهل بالتاريخ الإسلامي وأمجاده وأبطاله، وكان من نتاجه أيضاً: السعي المحموم خلف (الموضات) والتقليعات الغربية، حتى أصبح ما يُفصَّل هناك في الصباح يُلبس هنا في المساء، وتسربت إلى البلاد الإسلامية عادات ليست منها بباب. ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الكلاب في إحدى الدول العربية أكثر من مليون كلب (?) !! إنها ليست كلاب حرث أو حراسة أو صيد، إنها كلاب مدللة أحدثها التقليد: «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه» (?) .
إن الأمة التي تعيش على فُتات الغير، وتقتات من موائده، لا يمكن أن تصنع نصراً، أو تبني مِصْراً، بل ستظل أمة ضعيفة هزيلة تابعة لا متبوعة.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان: عير الحي، والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يُشَجُّ فلا يرثي له أحدُ
لما ذلت أمتنا غابت العزيمة من خطابها، ولم يعد في قاموسها غير الرخصة! نسيت {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] وبقيت تردد «يسِّروا ولا تعسروا» ، قرأت {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] وتركت {ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] والشرع يُعرف من مجموع أدلته. لقد أصبحت قراءتنا للنصوص قراءة تناسب ضغط الواقع! لا مقاصد الشريعة.
وحين نريد لأمتنا أن ترقى، ولمكانتها أن تبقى، فلا بد من بعث روح العزة والقوة فيها، وأن يربّى أفرادها على ذلك، ولعل مما يبعث على العزة أمور أذكر منها ما يلي:
1 ـ تحقيق التوحيد وتنقية الاعتقاد:
لقد جعل الله العزة ملازمة للإيمان: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، فمتى استقر الإيمان ورسخ، فالعزة معه مستقرة راسخة؛ حتى في أحرج اللحظات. دخل الإيمان قلوب السحرة فصرخوا في وجه فرعون باستعلاء: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] ألا ما أروع الخطاب يوم يخرج بلغة الإيمان! إنه (الإيمان الذي جعل من بلال الحبشي قوة يتحدى «سيده» أمية بن خلف ويحارب أبا جهل بن هشام.. الإيمان الذي جعل القلة تنتصر على الكثرة، والأميين يغلبون المتحضرين، ودفع العرب البداة، ويقينهم في قلوبهم، ومصاحفهم في يد، وسيوفهم في أخرى، ومساكنهم على ظهور خيولهم يقولون لملوك فارس وأباطرة الروم: نحن قوم بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده) (?) .
وحين انحرف الناس في فهم التوحيد وضلّوا في الاعتقاد، وأطفؤوا بتخليط الشرك نور الوحدانية، كان عاقبة أمرهم خسراً، واستبدلوا برفيع منازلهم أودية وقفاراً، فبارك عدوهم ما هم فيه، وأغمد سيفه مطمئناً لجانبهم، بل ربما أصاب بسهامهم ما لم يصبه هو بسهمه.
ماذا جرَّت الصوفية ـ مثلاً ـ على بلاد المسلمين لما ضلت في الاعتقاد، وصنعت لأتباعها إيماناً مشوهاً مشوشاً لا يصنع العز في النفوس، بل يرسِّخ فيها الذل والهوان كما يصف صنيعهم محمد الغزالي رحمه الله بقوله: (تمارين على الذل) ، ومما قاله أيضاً: (إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة؛ فإذا رأوا أنفة من مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه، وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يحب! ولم يَدْرِ المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها) (?) .
وصدق (توينبي) وهو كذوب حيث يقول: «لقد ظللنا نُخرج المسلم التركي حتى يتخلى عن إسلامه ويقلدنا؛ فلما فعل ذلك احتقرناه؛ لأنه لم يعد عنده ما يعطيه» اهـ.
أما حين يرجع المؤمن إلى دينه ويتمسك بثوابته فإنه سيجد في كتاب ربه ما يغنيه، وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرويه، وفي عقيدته ما يكفيه، ولن يكون بحاجة إلى مخلفات الحضارة الغربية. ورحم الله محمد إقبال حين قال: إن بريق المدنية الغربية لم يُغْشِ بصري؛ لأني اكتحلت بإثمد المدينة النبوية.
2 ـ تحقيق تقوى الله ـ تعالى ـ بلزوم الطاعة واجتناب المعصية:
قال ابن القيم وهو يعدد آثار الذنوب والمعاصي: (إن المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله. قال ـ تعالى ـ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك) (?) ، ويعلِّق ابن القيم على قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] فيقول: (والمعنى: قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقّرها وصغّرها بمعصية الله. فما صغّر النفوس مثل معصية الله، وما كبّرها وشرّفها ورفعها مثل طاعة الله) (?) . وعن جبير بن نفير قال: (لما فُتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى) (?) . إن المعصية ذل وعار وسواد في الوجه، وظلمة في القلب، وبغضة في قلوب الخلق. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (?) ، وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: «أنا العزيز؛ فمن أراد العز فليطع العزيز» . وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
3 ـ التعالي على مطامع الدنيا وشهواتها ولذائذها:
إن النفس حين ترتفع عن المطامع الدنيوية، والشهوات الدنية، فإنها يوماً ما لن تكون أسيرة لها أو ذليلة لوطأتها، بل سترتفع إلى مكان أرقى وجوٍّ أنقى.
إني جواد عصي لا يطوعه بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني وأحرُف الرمل تجري بين خطواتي
أتيت أنتعل الآفاق.. أمنحها جرحي وأبحث فيها عن بداياتي
إن المسلم حين يتعامل مع الدنيا على حذر، ويأخذها على أنها متاع زائل وبُلْغة مسافر؛ فإنه لن يقع عبداً لها، ولن يبيع عزته ومكانته فداءً لها، بل سيتخلى عن دنياه أسهل ما يكون حين تتعارض مع مبادئه وقيمه وثوابته، وحين يساوم على شيء من دينه. وقع عبد الله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ أسيراً في يد الروم، فلجؤوا معه إلى الإغراء فلم يستجب، عرض عليه ملك الروم إن هو ترك دينه أن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- طرفة عين، وفي بعض الروايات: ثم جعلوا له في بيتٍ معه الخمرَ ولحم الخنزير ثلاثاً لا يأكل، فاطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات، فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمِّتك بالإسلام (?) .
أيُّ ثبات هذا الثبات؟! وأيُّ عزة تلك التي امتلأت بها نفس ابن حذافة؟! إنها النفوس حين تتعالى عن مطامع الدنيا، وترتفع عن شهواتها.
4 ـ النظر إلى الكافر نظرة احتقار مشوبة برحمة:
هكذا ينبغي أن يكون نظرنا للكافر، لا أن ننظر له نظرة اعتزاز وإكبار، حتى ولو بلغ من الحضارة كل مبلغ، فقد صغَّر الله شأنهم، وحقَّر أمرهم، فلا يصح أن نرفع منهم، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] وفي الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» (?) ، وإن ذل المعصية لا يفارق جباههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: (إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إلا أن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه) (?) .
إن الذي يعلم حقيقة ما عليه الغرب الكافر اليوم، يرى أنه ليس حقيقاً بالإكبار، بل يرى أنه مجتمع متساقط متهالك، ليس لديه من مقومات البقاء شيء. يقول الرئيس الأمريكي السابق (جون كنيدي) : إن الشباب الأمريكي مائع منحل، غارق في الشهوات، وإنه من بين سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين ـ كل ذلك بسبب انهماكهم في الشهوات ـ. وتقول الإحصائيات: إنه في لندن وخلال (24) ساعة يحدث 332 اعتداء، و314 حادث سطو منزلي، و 530 حادث مرور، وتتم سرقة 116 سيارة و 273 حادث سرقه و 34 اعتداءً جنسياً، وعلى هذا يكون معدل الجرائم في اليوم الواحد في لندن 1599 جريمة!! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] .
كيف نرجو من السجين معيناً وهو في القيد ينشد الإفراجا
سبل الغرب كلها جحر ضبٍّ وسبيل الإسلام كانت فجاجا
5 ـ التعلق بالآخرة وطلب ثوابها:
إن الذي يتعلق بالآخرة تهون الدنيا في عينه، وتهون عليه نفسه فيقدمها رخيصة لله.
تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل
فان عناء المستقيم على الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السراة مُطَهَّم وفي الكف مطرور الشباة صقيل
نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ففعلت هذه الكلمات في نفوس أهل الآخرة فعلها، فقام عمير بن الحُمَام «وقال: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فأخرج تمراتٍ من قَرنِهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل» (?) . لقد رأى أن هذه التمرات ـ والتي كان يتقوّى بها على الجهاد ـ قد تعيقه وتؤخر وصوله إلى الجنة فألقى بها وهو يقول: «إنها لحياة طويلة إن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات» . وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما سمع رجلاً يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: «أرأيت إن قتلت؛ فأين أنا؟ قال: «في الجنة» . ألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» (?) .
6 ـ التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في النفوس:
لا بد من التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في نفوس الأطفال من صغرهم، وأن يحدَّثوا بأمجادهم وتاريخ أسلافهم، قُلْ له: أنت ابن الإسلام، أنت حفيد أبي بكر، ووارث عمر، وصاحب عثمان، وخليفة علي، حدِّثْه عن نور الدين وصلاحه، أعدْ عليه ذكرى بدر، وأخبار القادسية واليرموك وأحداث حطين ونهاوند وبلاط الشهداء.
من أنت؟ فانتفضت حروفي وانتشت في كبرياء
وتطامنت حولي الرؤوس وهب يعليني الإباء
حتى علوت على السُّهى وشربت من ماء السماء
وتساءلت حولي النجوم فضج فيَّ الانتماء
من أنت؟ أي رسالة جعلتك ملتهب الدماء
الشمس تشرق في يديك البيض ما هذا السناء؟
والناس في درب الدجى هلكى وأنت مع الضياء
من أنت؟ أسئلة تراودني الصباحَ مع المساء
تعبت من الأسفار أرجلهم فناموا في العراء
ومضوا يعبُّون السراب ويرشفون الكبرياء
لا تسأليني من أنا؟ «أنا واحد من هؤلاء»
جسدي (بأرضي) ها هنا لكن روحي في السماء
0 عوِّدْ من تقوم على تربيته أن لا يستجدي الناس شيئاً، وأن يستغني بما عنده عما في أيدي الناس، وقد قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
0 عوِّدْه ردَّ الضيم وعدم قبول الذل؛ فإن ذلك ليس من سجية المؤمن ولا من خلقه، بل هو عزيز أبيٌّ. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة وقت خروجه من البيضة فعلِّقه بمنقاره فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة) (?) .
0 عوِّده أن يرفع رأسه دائماً إلى السماء، وأن لا يطأطئ إلى الأرض. روى العسكري: (أن رجلاً مرّ على عمر ـ رضي الله عنه ـ «وقد تخشع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال عمر: ألستَ مسلماً؟ قال: بلى! قال: فارفع رأسك، وامدد عنقك؛ فإن الإسلام عزيز منيع» (?) ورأت الشفاء بنت عبد الله بعض الفتيان يمشون متماوتين فقالت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء النسّاك. فقالت: لقد كان عمر إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذ ضرب أوجع؛ وكان هو الناسك حقاً (?) .
(إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يتَّضع في مكان، أو يكون ذَنَباً لإنسان. هي كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة، وفيها من التعالي بقدر ما فيها من التطامن (?) فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها من الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطِلاب العظمة من أصدق سبلها ... والعز والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنَّ من تعاليم. وإليها يشير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: أحِبُّ الرجل إذا سِيمَ خطةَ خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا. .. «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك! قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله! قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد! قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار» (?) ، نعم! فمن عزة المؤمن أن لا يكون مستباحاً لكل طامع، أو غرضاً لكل هاجم. بل عليه أنت يستميت دون نفسه وعرضه، وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء؛ فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع ... أمَّا تهيُّب الموت وتحمّل العار طلباً للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق؛ فإن الفرار لا يطيل أجَلاً، والإقدام لا ينقص عمراً. كيف؟ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره؛ فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان) (?) .
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جبانا
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين وقاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء