مجله البيان (صفحة 5499)

الشعراء والعيد

شمس الدين حسين درمش

جعل الإسلام يومي الفطر والأضحى عيدين للمسلمين يمتازان عن سائر أيام السنة بمظاهر احتفالية قائمة على معاني الدين الخاصة بحمد الله وشكره على توفيقه ـ سبحانه ـ العبدَ بالقيام بواجب فريضة الصيام في الفطر، وفريضة الحج في الأضحى.

ولصلاة العيدين، وما يحصل من تجمُّع عام فيهما، وما يصحب ذلك من تواصل اجتماعي وصِلات قربى أثرٌ عميق في النفوس لا يوجد في الأمم الأخرى مثيل له.

ومن أبرز مظاهر العيدين احتفالات الفرح، وإظهار الزينة، وتبادل التهاني، وتظهر تلك المظاهر على الصغار بشكل أكبر، حتى إن الكبار يرون العيد في أفراح الصغار وسعادتهم.

والشعراء بطبيعتهم أكثر رهافة في الأحاسيس، وأعمق رصداً للمشاعر، وأكثر قدرة على تصوير ذلك كله بسعة تخيلاتهم. فكيف يستقبلون العيد؟ وكيف ينظرون إلى أحوال الناس فيه؟

يقول الشاعر حسين عرب (?) في قصيدة له بعنوان «فرحة العيد» :

أقبل العيد مستفيض الجلال مستنير الشروق والآصال

أصبحت من صباحه الناس في بشـ ـر وأمستْ من ليله في اختيال

التهاني على الشفاه تراجيـ ـع تغنّت بفرحة الإقبال

والأماني بين الجوانح خفق دائب بالرجاء والابتهال

فهو يصور جمال العيد جلالاً، وأماني القلوب ممتزجة بالابتهالات إلى الله سبحانه.

ويقوم بعد ذلك بجولة في تاريخ الإسلام المجيد، ثم يعود فيخاطب العيد وكأنه شخص يستمع إلى قصيدة الممتلئ بمعاني العزة والإباء، وأمنيات الأمان والسلام فيقول:

أيها العيد قد رجوناك عيداً يغمر النفس بالرضى والجمال

نجتني بعده من العسر يسراً ومن البؤس بالنعيم الموالي

سنة الله في الوجود كما شاء تعالى مبدِّل الأحوال

وعسى أن تتحقق الأماني وتتبدل الأحوال بمشيئة الله تعالى.

ونجد لدى الشاعر محمد إبراهيم جدع (?) عدة قصائد عن العيد، مثل: «تهاني العيد» و «أنشودة العيد» و «بسمة العيد» . فبعد أن يعبِّر في قصيدة «تهاني العيد» عن المعاني العميقة للعيد في الإسلام، ويرسم مظاهر السعادة والفرح، وتصافح الأحباب بالأيدي والقلوب، وشدو الصبية ومرحهم، وفوز الصائمين بالأجر العظيم؛ يقول:

ما العيد لبس الثوب بين نضارة تختال فيه بزهوة وجماح

أو رفع أعناق الرجال ومشيها في بزَّة تزهو مع الأطماح

لكن عوناً للضعيف ومنحة وسداد رأي في هوى وصلاح

العيد أن تعطي الجميل وترتضي سبل السلام وسيلة الأفلاح

فيقدم لنا ما يمكن تسميته فلسفة العيد، وأن مظاهر الزينة والزهو لا تعبر عن حقيقة العيد؛ لأن العيد الحقيقي في الإسلام هو العطاء الجميل، وارتضاء سبل الإسلام وسيلةً للفلاح، وبذل للفقراء والضعفاء، وتقديم النصح الصادق والرأي السديد.

ويرى الشاعر عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيد (?) العيدَ من زاوية أخرى، فهو يفتتح قصيدته «العيد» بجملة نثرية يمهد بها لمعاني قصيدته قائلاً: «ما أجمل أيام العيد لولا القلوب التي تتأوّه، والدموع التي تتهامى، فيستحيل إلى مأساة» . وتأتي قصيدته لتعبِّر عن هذا التناظر المتضاد والتي ترسم الدموع على الوجوه المبتسمة صباح العيد فيقول:

أطلَّ العيد في ثوب جميل يطوف على الروابي والسهول

وجاء الحب يغمر كل قلب يبدِّد قسوة الهجر الطويل

فأسفر في صباح العيد وجهٌ ووجهٌ فيه آذنَ بالأُفول

وكم قلب تأوَّه في صباح وكم دمع تهامى في أصيل

وكم بالعيد من بيت سعيد تذكر فاستحال إلى عويل

لوحات متضادة ومناظر مختلطة، وملهاة ومأساة في مسرح واحد!! ويُتبع الشاعر لوحاته الخيالية تلك بلوحات من الواقع في أفغانستان وفلسطين، وما أكثرها من لوحات متكسرة في أرض الإسلام!

ويستقبل الشاعر عبد الرحمن العشماوي (?) عيداً من لون آخر ممتزج بالأحزان؛ لأن أعياد المسلمين ما عادت تأتي إلا وهم يعانون مزيداً من الجراح الدامية؛ فما عادت الأعياد ـ كما يصورها حسين عرب ومحمد إبراهيم جدع وعبد الرحمن العبيد ـ تُقبل بوجه متهلل وثوب زاهٍ لتجد الناس في الأحزان.

بل العيد نفسه صار حزيناً كئيباً لما فيه المسلمون من مآسٍ فظيعة. ولذلك يختار لقصيدته عنوان «عندما يحزن العيد» ، ويقول فيها:

أقبلت يا عيدُ والأحزان أحزان وفي ضمير القوافي ثار بركان

أقبلت يا عيدُ والرَّمضاء تلفحني وقد شكت من غبار الدًّرب أجفانُ

ويتابع الشاعر العشماوي قصيدته بهذه الصورة القاتمة، ويتوجه إلى العيد بخطابه الدامي الحزين، وكأنه يعاتبه بقوله ـ الذي يكرره في أبيات متعاقبة ـ «أقبلت يا عيد» أو كأنه يعتذر إليه حيث أقبل وحال المسلمين غير الحال التي يستقبلون فيها العيد، ولكن شاعرنا يجد نفسه مضطراً لأن يجامل الناس صباح العيد مبتسماً باشّاً مصطنعاً سروراً غير موجود في داخله، والناس من حوله إذ يعلمون من قوافيه الحزينة ما يعلمون، يتهامسون غمزاً ولمزاً قائلين:

هذا الذي تصدر الآهات عن دمه شعراً رصيناً له وزن وألحان

فيضطر أن يبين لهم أن تلك البشاشة منه صباح العيد تجثو على أحزان وأشجان، ولو أنهم علموا بعض ذلك:

لأغمضوا أعيناً مبهورة وبكوا حالي وقد نالني بؤس وحرمان

ثم يعود إلى مخاطبة العيد مرة أخرى واصفاً حاله مع أحزان أمته:

أقبلت يا عيد والأحزان نائمة على فراشي وطرف الشوق سهران

وهي صورة شعرية مؤثرة ومعبرة عن مدى تغلغل الحزن في حياة الشاعر إحساساً منه بحال أمته حتى إنه لا يفارقه في يقظة ولا منام.

أما الشاعر وليد الأعظمي (?) فإنه ينكر أن يكون العيد عيداً وهذه حال المسلمين؛ لأن تجذر المأساة يلفت لديه غايتها، ويبادر نفسه قاطعاً عليها طريق أي شعور بالفرح بقدوم العيد؛ لأنه ليس عيداً، فيقول:

العيد أقبل يا (وليد) فلا تكن فرحاً به أبداً فما هو عيد!!

ولكن؛ ما العيد في نظر وليد الأعظمي؟

ما العيد إلا أن نعود لديننا حتى يعود نعيمنا المفقود

ما العيد إلا أن يُرى قرآننا بين الأنام لِوَاؤُهُ معقود

ما العيد إلا أن نكوّن أمة فيها محمد لا سواه عميد

ما العيد إلا أن نعدّ نفوسنا للحرب حيث بها هناك نجودُ

ما العيد إلا أن تكون قلوبنا نحو العدو كأنها جلمود

وبأسلوب التكرار يؤكد الشاعر معانيه، وبأسلوب القصر يصر على مفهومه للعيد أنه استعادة أمجاد الأمة الضائعة في زمن «تداعي الأكلة على القصعة» ينتهبونها، لذلك يأتي خطابه بوتيرة متشددة وكأنه ينظر إلى قوله ـ تعالى ـ في وصف المؤمنين في القرآن الكريم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

وعندما يطول الانتظار، وتتكاثف الظلمات يبحث الإنسان عن بصيص ضوء يشعل به الأمل في نفسه، ويخفف عنها شعور الإرهاق حتى لا تيأس فتنقطع، لذلك فإن الشاعر فيصل محمد الحجي (?) لنفسه محطة راحة شعورية يستمد منها دفعة للسير قدماً في الطريق الطويل؛ فالأعياد لا تأتيه بالمسرات، فيتخذ من مناسبة خاصة ملأت نفسه بهجة ومسرة عيداً، هكذا بدا لي الشاعر فيصل الحجي في قصيدته «ما العيد؟» فالعنوان الذي وضعه بصيغة سؤال يفتح لنا كوّة مبصرة إلى أعماق الشاعر ومعاناته مع الأعياد في واقع المسلمين. يقول في قصيدته:

يا دامع الطرف محزوناً ومسروراً إلامَ تبقى كليل الطرف محسورا

ألا ترى العيد قد وافاك مبتسماً وقد أزاح عن العينين دَيجورا (?)

أتعرف العيد أم أُنسيت بهجته لما توالى نزيف الدمع مهدورا

وبعد هذه المقدمة يجيب على سؤاله في العنوان فيقول:

فقلت: ما العيد إلا أن أرى (أَنَسي) وأن يباح لنا ما كان محظورا

العيد في أن أراه اليوم مبتهجاً وأن أشاهد أستاذاً ودكتورا

و (أنس) الابن الأكبر للشاعر وقد طال انقطاعه في دراسته سنوات وبات اللقاء أمنية عزيزة في قلب الوالد، فلما تحقق ذلك كان شعور الفرح طاغياً باكياً، وكان ذلك وحده يساوي العيد.. وأي عيد!!

لكن الشاعر يتابع فيضفي على العيد أبعاداً أخرى؛ إذ كل ما يرضي الرحمن من عمل يُوفَّق فيه المرء فهو (عيد) ، وتمتُّع الإنسان بالصحة والعافية عيد، وفرح الصغار عيد، واجتماع شمل الأحباب عيد.

العيد في أن يكون السعي مزدهراً وأن يكون لدى الرحمن مبرورا

العيد في أن يكون العيش في دعة والجسم في صحة والحال مستورا

العيد في أن أرى (غفران) ضاحكة والبشر يطفح من ألحاظها نورا

العيد في أن أرى حبل الوداد هنا بين الفؤادين موصولاً وموفورا

العيد في أن يكون الشمل مجتمعاً وأن أكون بعطف الجمع مغمورا

فنراه في الشطر الثاني من البيت الأخير يدفع نفسه دفعاً للإحساس بفرحة عيده الخاص (وأن أكون بعطف الجمع مغموراً) ، وبذلك يرسم لنا الشاعر صورة أخرى للعيد، فيأتي بالعيد الذي يريد حين عزّ أن يأتي العيد للمسلمين كما يريدون، فيضيء الدرب بأنوار كثيرة مبثوثة في الحياة اليومية هنا وهناك لتستمر الحياة، ويسود الرضا، ويطرد الضياء جيوش اليأس والظلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015