خالد بن إبراهيم الدعيجي
i المبحث الأول: مفهوم الشراء بالهامش:
يمكن التفرقة بين أسلوبين لسداد قيمة الصفقات في الأسواق المالية، هما: الأسلوب النقدي الكامل، والأسلوب النقدي الجزئي. ويقصد بالأسلوب النقدي الكامل قيام العميل بسداد قيمة صفقاته نقداً والحصول على قيمة مبيعاته نقداً؛ وذلك على النحو المتعارف عليه في المعاملات الأخرى. أما الأسلوب النقدي الجزئي فيقصد به في حالة الشراء قيام العميل بتمويل جزء من صفقاته نقداً، والباقي يتم بأموال مقترضة.
وبناء على ذلك يكون تمويل الصفقات إما كاملاً أو جزئياً، وفي كلا الحالين لا بد من ضمانات حتى يتم التمويل.
والطريقة المعمول بها في الأسواق المالية هي التمويل الجزئي، ويقصد بها: سداد جزء من قيمة الصفقة نقداً، والباقي قرضاً مع ضمان الأوراق محل الصفقة (?) .
وتسمى هذه الطريقة: الشراء بالهامش: ((Margin رضي الله عنهuying
فالشراء بالهامش: شراء الورقة المالية بسداد جزء من قيمتها نقداً؛ بينما يسدد الباقي بقرض، بشرط ضمان الأوراق محل الصفقة.
ويُستخدم في الأسواق المالية نوعان من الهامش:
النوع الأول: الهامش المبدئي:
والمراد به: الحد الأدنى الذي يشترط أن يدفعه المشتري من ماله الخاص عند إرادة الشراء، وغالباً لا تزيد عن 60% من قيمة الصفقة (?) .
النوع الثاني: هامش الوقاية:
يحتفظ بيت السمسرة بالأسهم التي اشتراها لعميله، مسجلة باسمه، إلى أن يقوم هذا العميل بسداد قيمة القرض، وتمثل رهناً لديه يتمكن من بيعه إذا لم يقم المقترض بالوفاء، ولكن نظراً للتقلبات التي قد تتعرض لها قيمة تلك الأسهم، مما يعرض قيمة تلك الأسهم للانخفاض إلى أقل من مبلغ القرض؛ فقد جرت العادة بتحديد هامش آخر غير الهامش المبدئي، يسمى هامش الوقاية؛ بحيث إذا انخفضت القيمة السوقية لتلك الأسهم في وقت ما، وترتب على ذلك إن الهامش الفعلي قلَّ عن هذا الهامش؛ فإنه يلزم المقترض أن يدفع للسمسار ـ خلال مدة محددة ـ مبلغاً إضافياً، أو أن يبيع جزءاً من الأسهم؛ وذلك بهدف زيادة نسبة الهامش الفعلي، ليصل إلى مستوى هامش الوقاية (?) .
ويمكن تعريف هامش الوقاية بأنه: الحد الأدنى الذي يشترط أن لا تقل عنه حقوق الملكية.
والقاعدة في استخراج الحد الأدنى: الفرق بين القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة المرتهنة، وبين المبلغ الذي اقترضه المستثمر.
صورة الشراء بالهامش:
يمكن أن تمر عملية الشراء بالهامش عبر الخطوات الآتية:
1 - يقوم العميل بفتح حساب بالهامش لدى سمسار.
2 - يعين العميل كمية الأسهم التي يريد شراءها ونوعها، ولنفرض أنها (1000) سهم من شركة الأمانة وقيمة كل سهم (100 ريال) فيكون قيمة الصفقة نقداً (100,000) ريال.
3 - الهامش النقدي الذي يدفعه العميل هو 50%، فيكون (50,000 (ريال.
4 - ومن ثم يقترض السمسار المبلغ المتبقي من أحد البنوك، بسعر الفائدة السائد، والمبلغ المتبقي هو (50,000 (ريال، وهذا الاقتراض يلجأ إليه السمسار عندما لا تكون الأسهم المطلوبة موجودة عنده، فأما إذا كانت موجودة فإنه لا يقترض.
5 - ومن ثم يقوم السمسار بإقراض العميل المبلغ المتبقي لإتمام صفقته وهو (50,000 (ريال، بسعر فائدة يزيد عن سعر الفائدة الذي دفعه السمسار للبنك.
6 - يقوم السمسار بعد ذلك بشراء الأوراق المالية المطلوبة، وتسجل باسم السمسار، وتكون مرهونة لديه حتى يقوم العميل بسداد قيمة الصفقة كاملة.
وحيث إن أسعار الأسهم المرهونة عرضة للتقلب؛ فإن الهامش الفعلي سيتغير من يوم لآخر، تبعاً للتغير الحاصل في القيمة السوقية لتلك الأسهم؛ ولذا فإن بيوت السمسرة تقوم ـ في نهاية كل يوم ـ بحساب نسبة الهامش الفعلي، على أساس سعر الإقفال؛ لمقارنته بالهامش المطلوب، ولا تخلو نتيجة المقارنة من واحدة من أربع حالات، بيانها على النحو الآتي (?) :
الحال الأولى: ارتفاع نسبة الهامش الفعلي عن الهامش المبدئي:
وهذا يحصل عندما ترتفع القيمة السوقية للأسهم المرهونة، عن السعر الذي اشتُرِيَتْ به.
وفي هذه الحالة، فإن بإمكان العميل أن يفعل أحد أمرين:
الأمر الأول: سحب جزء من القيمة التي سبق أن دفعها من أمواله الخاصة، على أن لا تقل نسبة الهامش الفعلي عن الهامش الابتدائي.
الأمر الثاني: شراء أسهم جديدة، تمول بقرض جديد يحصل عليه العميل من السمسار.
الحال الثانية: وقوع الهامش الفعلي بين الهامش المبدئي وبين هامش الوقاية:
وهذا يحصل عندما تنخفض القيمة السوقية للأسهم المرهونة، لكن بقدر لا يقل معه الهامش الفعلي عن هامش الوقاية.
ومن ثم لا يحق للسمسار مطالبة العميل بزيادة مساهمته وذلك بدفع أموال إضافية؛ كما لا يكون من حق العميل شراء أسهمٍ جديدة إلا عن طريق النقد، ولهذا يصنف حساب العميل في هذه الحالة من ضمن الحسابات المقيدة.
الحال الثالثة: انخفاض الهامش الفعلي عن هامش الوقاية:
وهذا يحصل عندما تنخفض القيمة السوقية للأسهم المرهونة انخفاضاً كبيراً.
وحينئذ فإن على العميل أن يفعل واحداً من أمرين:
الأمر الأول: دفع مبلغ إضافي، يودع في حسابه لدى السمسار، أو يستخدم لتسديد جزء من القرض.
الأمر الثاني: بيع جزء من الأسهم، واستخدام ثمنها في سداد جزء من القرض؛ ليترتب على ذلك انخفاض مبلغ القرض، ومن ثم ارتفاع نسبة حقوق الملكية إلى القيمة السوقية للأسهم؛ لينبني على ذلك ارتفاع نسبة الهامش الفعلي إلى مستوى هامش الوقاية.
الحال الرابعة: إن تثبت قيمتها.
فلا ضرر على كِلا الطرفين، بينما المستفيد في هذه الحالة السمسار؛ حيث إن الأسهم محل الصفقة مرهونة لديه، وكل ما تحصل عليه هذه الأسهم من أرباح فهي له (?) .
i المبحث الثاني: الحكم الشرعي للشراء بالهامش:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار والحكم الشرعي لها.
وهي لا تخلو من حالين:
الأولى: عقد قرض.
ويشترط لصحة هذا التكييف على عقد القرض أن تكون الأسهم محل الصفقة ليست مملوكة للسمسار وقت العقد، ومن ثم يقوم السمسار بإقراض العميل القيمة المتبقية للأسهم محل الصفقة.
الثانية: عقد بيع.
ويشترط لصحة هذا التكييف أن تكون الأسهم محل الصفقة مملوكة للسمسار؛ ومن ثم فإن السمسار يبيع عليه الأسهم محل الصفقة، بدفع جزء من قيمتها، والباقي يكون ديناً في ذمة العميل.
ولكل من التخريجين صور متعددة، ولكل واحدة من هذه الصور حكم خاص، وبيان هذه الأحكام يكون في الفرعين الآتيين.
الفرع الأول: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار على عقد القرض:
ويشترط لصحة هذا التكييف على عقد القرض أن تكون الأسهم محل الصفقة ليست مملوكة للسمسار وقت العقد.
ولهذا التكييف صورتان:
الصورة الأولى: القرض بشرط الاقتراض:
مثاله: أن العميل إذا دفع هامشاً نقدياً قدره 60%، فسوف يقترض 40% لإتمام الصفقة من السمسار بشرط كتابة جميع أسهم الصفقة باسمه، فتكون ملكاً له يتصرف فيها بما يشاء كما سبق بيانه.
فالعميل اقترض من السمسار 40% من قيمة الصفقة، والسمسار اقترض جميع الأسهم محل الصفقة من العميل.
فاشتراط عقد قرض آخر من المقترض للمقرض في مقابل القرض الأول، تسمى عند فقهاء المالكية بـ «أسلفني وأُسلفَك» .
وقد نص المالكية والشافعية والحنابلة على عدم جواز هذا الاشتراط، وعلى المنع منه (?) ، ولم أجد للحنفية نصاً في هذه المسألة ويتخرج على قواعدهم القول بالمنع أيضاً (?) .
قال في المغني: (وإن شرط في القرض أن يؤجره داره، أو يبيعه شيئاً أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يَجُز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقداً في عقدٍ فلم يجز) (?) .
ويدل على عدم جواز اشتراط عقد قرض آخر في القرض من المقترض في مقابل القرض الأول ما يأتي:
أن هذا الاشتراط يجر منفعة للمقرِض، وقد أجمع العلماء على أن كل قرض يجر منفعة مشروطة للمقرِض فهو حرام (?) .
ووجه هذه المنفعة المشروطة في الشراء بالهامش:
أن السمسار عندما أقرض العميل 40% من قيمة الصفقة، كان مشترطاً عليه أن يقرضه جميع أسهم الصفقة؛ فالسمسار سوف ينتفع بـ 60%، وهذه هي المنفعة المشروطة في عقد القرض الأول، بالإضافة إلى أنه في القرض الأول قد اشترط عليه أن يرده بفائدة.
فيتلخص من ذلك أن السمسار انتفع من هذا العقد - القرض - منفعتين:
المنفعة الأولى: الفائدة الربوية بسبب القرض الأول.
المنفعة الثانية: أن يقترض جميع أسهم الصفقة من المقترض الأول، لينتفع بها.
الصورة الثانية: القرض بشرط الرهن.
وهي نفس الصورة السابقة لكن يشترط السمسار رهن الأسهم محل الصفقة، وفائدة الرهن أن ينتفع السمسار بما تدره هذه الأسهم من أرباح.
ولا خلاف بين الفقهاء أن المرتهن متى شرط على الراهن الانتفاع بالرهن بلا عوض فيما لا يحتاج حفظه إلى مؤنة، وكان المرهون به دين قرض، فالشرط فاسد؛ لأنه قرض بمنفعة (?) .
الفرع الثاني: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار على عقد البيع:
ويشترط لصحة هذا التكييف أن تكون الأسهم محل الصفقة مملوكة للسمسار، ولهذا التكييف ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يجتمع في العقد الواحد بيع وقرض.
مثاله: أن يشتري العميل من السمسار الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% نقداً من قيمة الصفقة، والباقي مؤجل، ومن ثم يقوم العميل بإقراض السمسار جميع الأسهم محل الصفقة.
وقد اتفق الفقهاء على عدم جواز الجمع بين القرض والبيع في عقد واحد (?) ، واستدلوا على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك» (?) .
وجه الدلالة منه:
أن السلف في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل سلف وبيع» بمعنى القرض، والحديث يدل على عدم جواز الجمع بين القرض والبيع في عقد واحد.
الصورة الثانية: أن يجتمع في العقد بيعتان في بيعة.
مثاله: أن يقوم العميل بشراء الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% من قيمتها نقداً، والباقي مؤجلاً، ومن ثم يقوم السمسار بشراء جميع الأسهم محل الصفقة بثمن مؤجل أكثر منه، فيكون السمسار مديناً للعميل بكامل قيمة الصفقة (?) .
وهذه الصورة تُخرج على «عكس مسألة العِينة» .
والعِينة: بيع سلعة بثمن مؤجل، ثم شراؤها ممن اشتراها بأقل منه نقداً (?) .
وقبل أن نذكر حكم العينة، يحسُن ذكر مواطن الاتفاق في هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق:
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على تحريم بيع العِينة إذا كان هناك شرط مذكور في نفس العقد الأول على الدخول في العقد الثاني (?) .
وإذا باع البائع السلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بعَرَض، أو كان بيعها بعَرَض فاشتراها بنقد، أن ذلك جائز، قال الموفق: «لا نعلم فيه خلافاً» (?) .
أما إذا باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها من مشتريها بنقد، ولم يكن ثمت شرط بين العاقدين، فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: التحريم.
وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة (?) .
القول الثاني: الجواز.
وهو قول الشافعية والظاهرية (?) .
والقول الراجح هو قول الجمهور، وهو اختيار ابن القيم، رحمه الله (?) ، ويدل على ذلك:
1 - ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (?) .
وجه الدلالة منه:
أن الحديث دل على أن التبايع بالعِينة سبب لإنزال البلاء والذل بينهم حتى يرجعوا إلى دينهم؛ فنزول هذه الأمور والتوعد عليها مما يدل على أنها تحرم بنص من الشارع، وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج عن الدين المرتد على عقبه، ولا يكون ذلك إلا لذنب شديد، والذنب الشديد هو البيع بالعينة (?) .
2 ـ ما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» (?) .
وجه الاستدلال:
أن هذا يشمل بيع العِينة؛ فإن فيها بيعتين؛ إذ يباع المبيع مرتين والعاقد واحد وهو المطابق لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فله أوكسهما أو الربا» فإنه إذا باعه السلعة بمائتين مؤجلة ثم اشتراها منه بمائة فقد باع بيعتين في بيعة؛ فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا وإن أخذ بالناقص أخذ بالأوكس (?) .
3 - ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته أنها قالت: «إن عائشة أم المؤمنين قالت لها أم محبة أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين! إني بعت زيد بن أرقم عبداً إلى العطاء بثمانمائة درهم، فاحتاج إلى الثمن فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئس ما أشريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد بطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب. فقالت: أرأيتِ إن تركتُ وأخذتُ الستمائة؟ قالت: نعم! {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] (?) .
(ووجه) الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيداً لا يوقف عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة؛ فالظاهر أنها قالته سماعاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية، فدل على فساد البيع؛ لأن البيع الفاسد معصية (?) .
والثاني: أنها ـ رضي الله عنها ـ سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح، وسبب الفساد أن هذا البيع يؤدي إلى الربا (?) .
أما مسألة «عكس العِينة» :
فصورتها: أن يبيع السلعة بنقد يقبضه، ثم يشتريها البائع من المشتري بأكثر من الثمن الأول من جنسه نسيئة.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم مطلقاً.
وهو مذهب الحنابلة (?) .
واستدلوا بأدلة مسألة العينة، ولهذا قال في الفروع عند كلامه عن العينة: «وعكس العينة مثلها» (?) .
ولهذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا؛ فهو كمسألة العينة سواء، وهي عكسها؛ وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقداً، لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، فلا فرق بينهما» (?) .
القول الثاني: الجواز إذا لم تكن حيلة على الربا.
وهو رواية عن أحمد ـ رحمه الله ـ اختارها الموفق (?) .
القول الثالث: الجواز.
وهو جار على أصول الشافعية؛ لأنه إذا جازت عندهم العينة فعكسها من باب أوْلى.
والقول الراجح:
التحريم مطلقاً، سداً لباب الربا.
ومما سبق يتبين أن السمسار إذا باع العميلَ مجموعةً من الأسهم ثم رجع واشتراها منه بثمن مؤجل أكثر منه فهي تنطبق على مسألة عكس العِينة.
الصورة الثالثة: أن يجتمع في العقد بيع ورهن.
مثاله: أن يقوم العميل بشراء الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% من قيمتها نقداً، والباقي مؤجلاً، ومن ثم يقوم السمسار برهن جميع الأسهم محل الصفقة، إلى أن يسدد العميل المبلغ المتبقي عليه.
وتكاد أن تكون هذه الصورة هي الغالبة في التعامل في الأسواق المالية إذا كانت الأسهم مملوكة للسمسار.
وفائدة العميل من هذا العقد: ترقُّب الأسعار؛ فإن ارتفعت ربح، وإن نزلت خسر.
وفائدة السمسار: ما تدره هذه الأسهم من أرباح أثناء تربُّص العميل وانتظاره.
ولبيان حكم هذه الصورة من الشراء بالهامش لا بد من معرفة الحكم الشرعي لثلاث مسائل:
الأولى: حكم حبس المبيع على ثمنه.
الثانية: حكم رهن الأسهم.
الثالثة: حكم انتفاع المرتهن بالرهن؛ وذلك من خلال انتفاعه بما تدره الأسهم من أرباح.
المسألة الأولى: حكم حبس المبيع على ثمنه.
وسبب ذكر هذه المسألة: أن السمسار حبس الأسهم - العَيْن المبيعة - حتى يقوم المستثمر بقضاء الدين الذي عليه بسبب البيع، علماً أن ثمن المبيع منه ما هو حالٌّ ومنه ما هو مؤجل، كما سبق بيانه.
والفقهاء تارة يعبرون عن هذه المسألة بحبس المبيع على ثمنه، وتارة برهن المبيع على ثمنه.
فهل يجوز للبائع أن يشترط على المشتري حبس العين المبيعة على ثمنها؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز حبس المبيع على ثمنه، وهو مذهب الشافعية (?) .
القول الثاني: جواز اشتراط حبس المبيع على ثمنه.
وهو قول الجمهور من الحنفية (?) ، والمالكية (?) ، والحنابلة (?) .
والقول الراجح هو قول الجمهور واستدلوا بما يلي:
1 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
ووجه الدلالة من الآية: أن كلمة «رهان» في الآية نكرة في سياق الشرط فتعم كل ما يمكن أن يوثق به سواء كان مبيعاً أو غير مبيع.
2 - ولأنه يصح رهن المبيع عند غير البائع، فيصح عند البائع من باب أوْلى (?) .
3 - ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه من باب أوْلى (?) .
4 - ولأن الأصل في الشروط الصحة واللزوم.
وعليه يجوز للسمسار أن يحبس الأسهم محل الصفقة إلى أن يسدد المستثمر جميع دينه.
المسألة الثانية: حكم رهن الأسهم.
أما على القول بأن السهم يأخذ حكم العروض؛ فإن رهن السهم يأخذ حكم رهن العروض، وهذا لا إشكال فيه، بل هو الأصل في الرهن.
أما على قول الجمهور بأن السهم يمثل موجودات الشركة، فهذه الموجودات مشاعة أي غير مفرزة، فيأخذ حكم رهن المشاع.
فيُخرّجُ رهن السهم على مسألة «رهن المشاع» .
وقد اختلف العلماء في حكم رهن المشاع على قولين:
القول الأول:
عدم صحة رهن المشاع مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية (?) .
القول الثاني:
جواز رهن المشاع مطلقاً.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية (?) ، والشافعية (?) ، والحنابلة (?) ، والظاهرية (?) .
والقول الراجح هو قول الجمهور. واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
1 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
ووجه الدلالة من الآية: أن كلمة «رهان» في الآية نكرة في سياق الشرط فتعم كل ما يمكن أن يوثق به، فتشمل المشاع والمقسوم، وحتى على قول من يرى من الأصوليين أن النكرة في سياق الشرط لا تعم؛ فإنها حينئذٍ مطلقة، فلم تقيد بكونها مشاعة أو مقسومة، وما أطلق فلا يصح تقييده إلا بدليل (?) .
2 - أن موجب الرهن استحقاق البيع في الديْن، والمشاع عين يجوز بيعها فيصح رهنها كالمقسوم (?) .
المسألة الثالثة: حكم انتفاع المرتهن بالرهن.
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن إذا لم يكن للرهن مؤونة.
قال ابن قدامة: «ما لا يحتاج إلى مؤونة، كالدار والمتاع ونحوه، فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأن الرهن ملك الراهن، فكذلك نماؤه ومنافعه، فليس لغيره أخذها بغير إذنه» (?) .
وقال السرخسي: «لا خلاف أن المرتهن لا يملك الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن» (?) .
واشترط الشافعية والمالكية في المنفعة أن تكون مقيدة بمدة، وكذلك مشروطة في العقد.
قال في نهاية المحتاج: «وإن نفع الشرط المرتهن وضر الراهن كشرط منفعته من غير تقييد للمرتهن بطل الشرط وكذا الرهن في الأظهر؛ لمخالفته لمقتضى العقد كالشرط المضر بالمرتهن، والثاني لا يبطل بل يلغى الشرط، ويصح لأنه تبرع فلم يؤثر فيه» (?) .
قال في شرح الخرشي: «يجوز للمرتهن أن يشترط منفعة الرهن لنفسه مجاناً بشرطين: الأول: أن تكون مؤقتة بمدة معينة ... الثاني: أن يكون الرهن في عقد بيع لا في عقد قرض» (?) .
وسبب اشتراط الشافعية والمالكية التأقيت لأمرين:
الأول: عدم الإضرار بالمشتري.
الثاني: أنهم خرَّجوا هذه المنفعة بأنها إجارة، والإجارة يشترط لها العلم بالمدة، فإذا جهلت المدة لم تصح.
والذي يظهر أن المنفعة تُخرَّجُ على عقد الهبة؛ فهي هبة من المشتري للبائع، وهي من عقود التبرعات فلا يشترط لها التأقيت.
وعليه فيجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بشرطين:
الأول: أن يأذن الراهن؛ لأن الرهن مُلك له، ومن ملك شيئاً ملك تمليكه.
الثاني: أن لا يكون سبب الرهن قرض؛ إذ كل قرض جر نفعاً فهو ربا (?) .
ومن ثَم فإن الصورة الثالثة من الشراء بالهامش تكون جائزة ولا بأس فيها؛ لأن الراهن قد أذن للمرتهن أن ينتفع بالرهن، ولأن سبب الرهن هو البيع وليس القرض.
فإذا كانت هذه الصورة الوحيدة الجائزة من الشراء بالهامش فإنه قد يصاحبها بعض التصرفات من السمسار والعميل عندما ترتفع قيمة الأسهم محل الصفقة، أو عندما تقل عن هامش الوقاية الذي سبق بيانه في المبحث الأول، وذكرنا أن القيمة السوقية للأسهم لا تخلو من أربعة أحوال، ويهمنا منها حالتان وهما المؤثرتان في التصرفات، والحالتان هما:
الحال الأولى: ارتفاع القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
الحال الثانية: انخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
وفي كل من الحالتين يخير العميل بأنواع من التصرفات، وهذه التصرفات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، وبيان ذلك في المطلب القادم.
المطلب الثاني: أحكام التصرفات المصاحبة للشراء بالهامش أثناء ارتفاع وانخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: التصرفات المصاحبة لارتفاع القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
ولإيضاح هذه الصورة نضرب مثالاً:
لو فرض أن مستثمراً أراد شراء ألف سهم بسعر (100 ريال) للسهم الواحد، فإن عليه إيداع مبلغ (50 ألف ريال) في حسابه ويقوم السمسار بإقراضه (50 ألف ريال (أخرى ليتمكن من شراء كامل الأسهم المطلوبة.
فلو ارتفعت القيمة السوقية فأصبحت (120 ريالاً (للسهم الواحد، فإن القيمة السوقية لجميع الصفقة ستكون (120 ألف ريال) . فيلاحظ هنا أن المستثمر ربح (20 ألف ريال) .
وما سبق ذكره يظهر في الشكل الآتي:
وفي هذه الحالة، يخير العميل بين تصرفين:
الأول: سحب جزء من القيمة المدفوعة مسبقاً.
الثاني: شراء أسهم جديدة.
وبيان ذلك في المقصدين الآتيين:
المقصد الأول: سحب جزء من القيمة المدفوعة مسبقاً.
فالمستثمر عندما ترتفع قيمة أسهمه يقوم بسحب جزء من المبلغ المرهون لدى السمسار، يتصرف فيه بما شاء، بشرط أن يكون المبلغ المتبقي بعد السحب لا يقل عن الهامش الفعلي للصفقة.
فهنا مسألتان نحتاج إلى تكييفهما:
الأولى: تكييف هذه الزيادة.
الثانية: تكييف السحب النقدي.
المسألة الأولى: تكييف الزيادة النقدية.
في المثال السابق كانت قيمة الأسهم المرهونة (100 ألف ريال) ، ولكن ارتفعت قيمتها فأصبحت تساوي (120 ألف ريال) .
فالزيادة الحاصلة وهي (20 ألف ريال) تحتمل أحد تخريجين:
التخريج الأول: أن تكون زيادة في الرهن من قِبَل الراهن.
وصورة ذلك كما قال البهوتي: « (وتجوز الزيادة) فيه أي في الرهن بأن رهنه عبداً بمائة، ثم رهنه عليها ثوباً؛ لأنه زيادة استيثاق» (?) .
وقد ذكر ابن المنذر إجماع الفقهاء على جواز الزيادة في الرهن. قال ـ رحمه الله ـ: «وأجمعوا على أن للراهن أن يزيد المرتهن رهناً مع رهنه أو رهوناً» (?) .
ونَقْلُ الإجماع في هذه المسألة فيه نظر؛ فقد خالف في هذه المسألة زُفَر من الحنفية (?) ، وبعض الحنابلة وقالوا بعدم الجواز (?) .
ولكن ذهب جماهير أهل العلم من الحنفية (?) ، والمالكية (?) ، والشافعية (?) ، والحنابلة (?) إلى جواز الزيادة في الرهن..
واستدلوا:
بأن الرهن الثاني إنما هو زيادة استيثاق، فصحت الزيادة، كما لو رهنهما معاً (?) .
التخريج الثاني: أن تكون الزيادة من نماء الرهن.
ونماء الرهن لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون متصلاً كالسِّمَن، وتعلُّم الصنعة، وكبر الشجر.
الثاني: أن يكون منفصلاً كالولد، والثمرة، والصوف، ونحو ذلك.
والنماء سواء كان متصلاً أم منفصلاً فهو ملك للراهن.
فهذه الزيادة في قيمة الأسهم سواء قلنا إنها متصلة أم منفصلة فهي ملك للراهن.
والذي يظهر للباحث أن التخريج الثاني أحسن من التخريج الأول؛ لأن الزيادة هنا تابعة للأصل غير منفكة.
المسألة الثانية: تكييف السحب النقد:
يحتمل في هذا السحب أن يُخرج على ثلاث مسائل:
الأولى: أنه استرجاع لنماء رهنه.
فما يسحبه المستثمر من نقد إنما هو نماء رهنه، ومن ثَم كأنه استرجع جزءاً من رهنه.
الثانية: أنه استرجاع لجزء مما دفعه سابقاً.
وهذه نص عليها من كتب في آلية ونظام الأسواق المالية؛ فقد قال الدكتور منير هندي: «أما إذا ارتفعت القيمة السوقية للأوراق المالية محل الصفقة، فحينئذ يحق للعميل إما سحب جزء من القيمة التي سبق دفعها من أمواله الخاصة، أو زيادة مشترياته من الأوراق محل الصفقة» (?) .
وفي كِلا الحالين يكون ملكه رجع إليه، وهذا التصرف وقع بإذن من المرتهن فلا بأس بذلك.
الثالثة: وقد يقال: إن هذا السحب يكيف بأنه قرض من السمسار للمستثمر، ويكون الرهن الموجود رهناً بالدينْين الأول والثاني.
والذي يظهر أن هذا التكييف لا يستقيم لأمور:
أولاً: أن المعروف في نظام السوق أن هذا السحب إنما هو استرجاع لما دفعه المستثمر سابقاً.
ثانياً: أن هذا السحب لا يكون إلا عند زيادة القيمة الاسمية للأوراق محل الصفقة، وما ذلك إلا لأن صفقته ربحت؛ فهو يستحق أن يأخذ الربح وهذا من ربحه.
ثالثاً: أن السمسار عندما رهن هذه الأسهم اشترط أن ما تدره من أرباح فهي له، فيقابل ذلك أنه إذا ارتفعت قيمتها فإن للمستثمر أن يسترجع ما دفعه مسبقاً؛ فهذه بتلك.
رابعاً: أننا لو خرجنا السحب النقدي على القرض فإنه سيطرأ على المعاملة الفساد؛ لأن الانتفاع بالرهن مقابل القرض محرم ولا يجوز، وقد سبق بيان هذه المسألة، فتصحيح العقود أوْلى من إفسادها.
المقصد الثاني: شراء أسهم جديدة.
وهذا هو التصرف الثاني المتاح للمستثمر أثناء ارتفاع القيمة السوقية لأسهمه.
وشراء الأسهم إما أن يكون نقداً بالكامل أو يكون بالهامش، وكلا الأمرين سبق الكلام عنهما.
فالشراء بالهامش إن كانت الأسهم غير مملوكة للسمسار فالعقد عقد قرض، ولا بأس برهن الأسهم محل الصفقة بشرط أن لا ينتفع السمسار بالرهن؛ لأجل ألا يكون قرضاً جر نفعاً.
وإن كانت الأسهم مملوكة للسمسار، فالعقد عقد بيع، وأما رهن الأسهم ففيه تفصيل:
فإن كانت الصفقة الثانية مستقلة عن الأولى، فلها حكم الصفقة الأولى جملة وتفصيلاً.
أما إن كانت الصفقة الثانية غير مستقلة عن الأولى، أي أن الرهن في الصفقة الأولى يكون رهناً كذلك في الصفقة الثانية، فهذه الصورة تُخرج على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
الزيادة في دَيْن الرهن، والمراد بذلك: «أن يقول الراهن للمرتهن: زدني مالاً يكون الرهن الذي عندك رهناً به وبالدين الأول» (?) .
ومثاله: أن يقترض منه (1000) ريال، ومن ثم يرهنه ساعة وأقبضها إياه، ثم اقترض منه (1000) ريال أخرى، وجعل الساعة رهناً بالدينيْن.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم جواز الزيادة في الديْن.
وهو مذهب الحنفية (?) ، والشافعية (?) ، والحنابلة (?) .
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
أنها عين مرهونة، فلم يجز رهنها بدين آخر؛ لأن الرهن اشتغل بالدين الأول والمشغول لا يشغل (?) .
ويناقش:
أن هذا الاشتغال لا محذور فيه شرعاً، إنما هو زيادة استيثاق، والعقود مبناها على الرضى، فإذا رضيا بذلك وكان لهما فيه مصلحة فلا يمنع من ذلك.
القول الثاني: جواز الزيادة في الديْن.
وهو مذهب المالكية (?) وبه قال أبو يوسف من الحنفية (?) .
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
عموم قوله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، حيث جاء الأمر في الآية بالرهن، من غير أن يخص ذلك بكون الرهن غير مرهون بدين آخر.
الدليل الثاني:
أن الرهن في مقابلة الديْن؛ فلما جاز أن يزاد في الدين الواحد رهناً على رهن، جاز أن يزاد في الرهن الواحد ديْناً على دين (?) .
الترجيح:
الذي يترجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني؛ وذلك لقوة أدلته، ولأن الأصل في العقود الصحة، ولم يَرِد دليل صريح على المنع، ولا يترتب على القول به محظور شرعي.
الفرع الثاني: التصرفات المصاحبة لانخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
لو فرض أن مستثمراً أراد شراء ألف سهم بسعر (100 ريال) للسهم الواحد، فإن عليه إيداع مبلغ (50 ألف ريال (في حسابه ويقوم السمسار بإقراضه (50 ألف ريال (أخرى ليتمكن من شراء كامل الأسهم المطلوبة.
وسبق في المطلب الأول أن هناك هامشين يتعامل بهما في السوق:
هامشاً مبدئياً: وهو المبلغ النقدي المدفوع ويمثل نسبة 50% من قيمة الصفقة.
هامش وقاية - صيانة -: وهو شرط يضعه السمسار على المستثمر بأنه إذا انخفضت قيمة الأوراق محل الصفقة 25% فإن له أن يتدخل لصيانة الحساب، وبيان ذلك:
لو انخفضت القيمة السوقية فأصبحت (65 ريالاً (للسهم الواحد، فإن القيمة السوقية لجميع الصفقة ستكون (65 ألف ريال) . فيلاحظ هنا أن المستثمر خسر (35 ألف ريال) .
وما سبق ذكره يظهر في الشكل الآتي:
وبالرغم من أن القيمة ما زالت كافية لتغطية المبلغ المقترض، إلا أن العرف في الأسواق المالية يقضي بأن يقوم السمسار في هذه الحالة بإصدار أمر صيانة على الحساب ليصبح صافي الحساب على الأقل (17,000) ريال مثلاً، أي أن على المستثمر إيداع (2000) ريال على الأقل، وفي حالة عدم قدرته على إيداع المبلغ يقوم السمسار ببيع كامل الأسهم أو جزء منها لتصحيح الوضع.
فالتصرفات المصاحبة لانخفاض القيمة السوقية لا تخلو من تصرفين:
الأول: دفع مال لسداد جزء من الدين السابق.
الثاني: بيع جزء من الأسهم المرهونة لاستيفاء ديْنه من ثمنها.
وبيان ذلك في المقصدين الآتيين:
i المقصد الأول: دفع مال لسداد جزء من الدين السابق.
الديْن - كما يعرفه الأحناف -: «مال واجب في الذمة بالعقد أو الاستهلاك أو الاستقراض» (?) .
وهو عند الجمهور: «ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته» (?) .
وهو أعم من الأول؛ لأنه يشمل كل الالتزامات المالية، ما كان منها حقاً لله ـ تعالى ـ كالزكاة، وما كان حقاً مالياً للعباد، وسواء كان بإلزام الشارع، أم بالالتزام الإرادي من المدين، وسواء ما ثبت في نظير عين مالية أم ثبت في نظير منفعة (?) .
وعلى كِلا التعريفين ـ تعريف الأحناف وتعريف الجمهور ـ فإن الالتزام الناشئ من الشراء بالهامش داخل في مسمى الدين.
وهذا الالتزام إما أن يكون بقرض أو ثمن مبيع، وكِلا الحالين الأجل فيهما غير محدد، والمتعارف عليه في السوق أن الديْن لا يجب الوفاء به إلا إذا بيعت الأسهم محل الصفقة، لكن إذا نقص سعرها نقصاناً ظاهراً فإن السمسار يعطي المستثمر فرصة البقاء في السوق ومزاولة الاستثمار أو المتاجرة بشرط أن يدفع مبلغاً معيناً - هامش صيانة - وهذا المبلغ يُكيف على أنه سداد لجزء من الديْن السابق على المستثمر للسمسار.
واشتراط السمسار هذا الشرط على المستثمر لا بأس به، ويجب الوفاء به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلمون على شروطهم» (?) .
لكن إذا لم ينص على الشرط، ولم يكن متعارفاً على هذا العمل، أو أن المستثمر اشترط على السمسار أن لا يسدد الدين إلا بعد بيع الأسهم؛ فهل يجوز للسمسار أن يطالب المستثمر بسداد جزء من الدين مع أن الدين لم يحل وقت سداده؟
أما إن كان الدين بسبب ثمن مبيع فلا يحق له ذلك، للحديث السابق.
وأما إن كان الدين بسبب قرض فهذه المسألة تُخرجُ على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
هل يجب الوفاء بالقرض حالاً أو يتأجل بالتأجيل؟ وإليك ما قيل في هذه المسألة:
اتفق الفقهاء على جواز التأخير في وفاء القرض من غير شرط (?) .
واختلفوا في مسألتين:
الأولى: هل الوفاء بالقرض يكون حالاً أو مؤجلاً؟
الثانية: لو شرط التأجيل هل يجب الوفاء بالشرط أو لا؟
وإليك بيان الخلاف في هاتين المسألتين:
المسألة الأولى: هل الوفاء بالقرض يكون حالاً أو مؤجلاً؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يتأجل الوفاء بالقرض بالتأجيل، بل يكون حالاً.
وهو قول الجمهور، من الحنفية (?) ، والشافعية (?) ، والحنابلة (?) .
فعلى هذا القول: يحق للسمسار مطالبة المستثمر بسداد جزء من الديْن ولو لم يحلَّ أجله.
واستدلوا بما يلي:
1 - أن القرض عقد يمتنع فيه التفاضل؛ فمنع فيه الأجل كالصرف (?) .
ويناقش من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يُسَلَّم بأن القرض يمتنع فيه التفاضل مطلقاً؛ وذلك لأمرين:
أ - أن الزيادة في الوفاء من غير اشتراط جائزة؛ لما روى أبو رافع «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بَكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكرة، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أعطه إياه؛ إن خيار الناس أحسنهم قضاء» (?) .
ب - أن اشتراط الوفاء بالأقل جائز عند بعض العلماء، وهو وجه عند الشافعية (?) وقول عند الحنابلة (?) .
الوجه الثاني:
أن قياس القرض على الصرف غير صحيح؛ لأنه قياس مع وجود الفارق، وذلك أن القرض عقد تبرع وإرفاق؛ وأما الصرف فعقد معاوضة.
2 - أن القرض سبب يوجب رد البدل، فأوجبه حالاً كالإتلاف (?) .
ويناقش من وجهين:
الأول: أن القياس على الإتلاف غير صحيح؛ إذ القرض تبرع، والإتلاف جناية.
الثاني: أن بعض أنواع الإتلاف لا توجب رد البدل معجلاً، بل يكون مؤجلاً، كما في دية شبه العمد والخطأ (?) .
3 - القياس على العارية؛ وذلك: «أن القرض يسلك به مسلك العارية، والأجل لا يلزم في العواري» (?) .
ويناقش:
أن هذا القياس غير صحيح؛ لأن حكم الأصل وهو لزوم الأجل في العارية محل خلاف فلا يصح القياس عليه.
جاء في الكافي لابن عبد البر: «ومن أعار شيئاً عارية مطلقة فليس له عند مالك أخذه من المستعير حتى ينتفع به الانتفاع المعهود بمثله في العواري في تلك المدة» (?) .
القول الثاني: يتأجل القرض بالتأجيل.
وهو مذهب المالكية (?) ، ووجه عند الحنابلة اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (?) .
وعلى هذا القول لا يحق للسمسار مطالبة المستثمر بدفع جزء من الديْن قبل حلول الأجل.
واستدلوا بما يلي:
1 - قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
وجه الاستدلال: أن القرض دين، فيدخل في عموم الآية، والمراد من الكتابة حفظ قدر الدين وأجله، وهذا يدل على أن القرض يتأجل بالتأجيل؛ فالآية لم تفرق بين القرض وسائر المداينات.
2 - ما ثبت من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً. قال فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى ... » الحديث (?) .
وجه الدلالة من الحديث: أن التأجيل في القرض ذكر في الحديث من باب المدح للمقرض، وهذا يدل على مشروعيته.
ويناقش:
أن هذا شرع من قبلنا فلا يحتج به.
ويجاب:
أن شرع من قبلنا ليس بحجة إذا خالفه شرعنا، أو لم يوافقه، وفي هذه المسألة لم يرد في شرعنا ما يخالفه، بل جاء شرعنا بموافقته، فيكون حجة ودليلاً على جواز تأجيل القرض.
الترجيح:
بعد عرض الخلاف في المسألة نجد أن الجمهور استدلوا بأقيسة مناقشة، ولم يستندوا لأدلة من الكتاب ولا السنة، بينما المالكية استندوا إلى الكتاب والسنة.
فالراجح ـ والله تعالى أعلم ـ هو القول الثاني لقوة ما استدلوا به، ويعضدهم كذلك الأصل في المعاملات الإباحة، كما أن التأجيل فيه مصلحة للمقترض وهو من تمام التبرع.
وعليه: إذا لم يحدد الأجل، ولم يكن هناك عرف متبع، فليس للسمسار أن يطالب المستثمر بسداد الديْن، لا سيما أن الأسهم مرهونة لديه.
المسألة الثانية: الثانية: لو شُرط تأجيل الوفاء بالقرض، هل يجب الوفاء بالشرط أو لا؟
هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة؛ فالخلاف فيها كالخلاف السابق، ولهذا اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: لا يجوز اشتراط الأجل في القرض، وللمقرض المطالبة بقرضه في أي وقت، ويلزم المقترض الوفاء عند طلب المقرض له.
وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة (?) .
واستدلوا بأدلتهم في المسألة السابقة.
القول الثاني: أن اشتراط الأجل في القرض جائز، ويجب الوفاء به.
وهذا مذهب المالكية (?) .
يلزم من ترجيح الباحث قول المالكية في المسألة السابقة ترجيحه لقولهم أيضاً في هذه المسألة؛ إذ لا فرق بين المسألتين، والله ـ تعالى ـ أعلم.
ومما سبق فإن تحديد أجل وفاء القرض وعدمَه لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يُحدَّدَ أجلٌ للوفاء، وسواء كان هذا الأجل حدد بمدة كشهر أو شهرين، أو بوصف كنزول القيمة السوقية للأسهم نزولاً شديداً؛ ففي هذه الحالة يجب الوفاء به في وقته على كِلا القولين.
الثانية: أن لا يُحدَّدَ أجلٌ للوفاء، فهنا إن كان هناك عرف متبع وجب العمل به، وإلا فيُنْظَر المقترض إلى الميسرة على القول الراجح.
المقصد الثاني: بيع جزء من الأسهم المرهونة لاستيفاء دينه من ثمنها.
التصرف الثاني الذي يُخيَّرُ به المستثمر عند نزول القيمة السوقية لأسهمه: بيع جزء من أسهمه المرهونة، وهذا التصرف يُخرجُ على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
بيع الرهن لاستيفاء دين المرتهن من ثمنه.
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
اتفق الفقهاء على المسائل الآتية:
1 - إذا حل الدين لزم الراهن الإيفاء؛ لأنه دين حالٌّ فلزم إيفاؤه كالذي لا رهن به.
2 - فإن امتنع الراهن من وفاء الدين فإن أذن للمرتهن في بيعه، وكان البيع بحضور الراهن صح البيع اتفاقاً.
3 - وإن لم يكن بحضوره ولكن حدد له ثمناً صح البيع اتفاقاً.
واختلفوا فيما إذا:
أذن الراهن للمرتهن ببيع الرهن، ولم يحدد ثمناً أو كان غائباً، على قولين:
القول الأول: لا يصح البيع.
وهو القول الأصح عند الشافعية (?) .
القول الثاني: إذا أذن الراهن ببيع الرهن صح البيع مطلقاً.
وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (?) ، والمالكية (?) ، والحنابلة (?) ، وقول عند الشافعية (?) .
وهو القول الراجح، واستدلوا بما يلي:
1 - أن من جاز أن يشترط له الإمساك، جاز اشتراط البيع له، كالعدل (?) .
2- أن ما جاز توكيل غير المرتهن فيه، جاز توكيل المرتهن فيه، كبيع عين أخرى (?) .
3 - أن الراهن مالك، له أن يوكل من شاء من الأهل ببيع ماله معلقاً ومنجزاً؛ لأن الوكالة يجوز تعليقها بالشرط؛ لكونها من الإسقاطات؛ بدليل أن المانع من التصرف حق المالك، وبالتسليط على بيعه أسقط حقه، والإسقاطات يجوز تعليقها بالشروط (?) .
وعليه: فيجوز للسمسار بيع جزء من الأسهم إذا حل أجل الدين، لاستيفاء ثمن دينه منها، ولكن يشترط في ذلك أن يبيعها