مجله البيان (صفحة 5479)

الكوارث الطبيعية وهلاك الصالحين

إبراهيم الأزرق

إن من رحمة الله بالخلق أنه لا يعذبهم بعذاب عام ينال المسيء والمحسن إلاّ إذا فشا فيهم الخَبَث، وابتعدوا عن منهج الله. «قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات وعيدٌ من الله ـ تعالى ـ لأهل الأرض. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي، ألا ترى أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين زلزلت المدينة في أيامه قال: يا أهل المدينة! ما أسرع ما أحدثتم! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم (?) . فخشي أن تصيبه العقوبة معهم» (?) .

حينها يكون الهلاك خيراً عند أهل الإيمان المغلوبين على أمرهم من الحياة وسط بيئة يُحارَب فيها الله صباح مساء، ويجاهَر فيها بمعصيته ومحادّته.

وعلى هذا جرت سنَّة الله في خلقه؛ فمتى استشرى السرطان في الجسد وتمكن منه فغلب عليه وساد أعضاءه؛ بعث الله برحمته ملك الموت ليقبض المصاب على الرغم من صلاح الكبد والطحال أو غيرها من الأعضاء، فيموت المريض وله قلب ينبض، وعقل يحمد، ولو مدَّ الله في أجله لفسدا تأثُّراً بالبيئة السرطانية.

وهكذا إذا استشرى الفساد في المجتمعات، وأبى مفارقتَها أهلُ الصلاح، أوشك أن يعمهم العذاب، إما عقوبة لهم على بقائهم، أو رحمة بهم قبل أن ينالهم الفساد الذي أحكم قبضته فحال بينهم وبين المفارقة.

وفي حديث أنس المتفق عليه: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت من ضر أصابه؛ فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (?) ، فدلَّ هذا بمفهومه على أن الوفاة قد تكون خيراً للمسلم. قال ابن عبد البر ـ عند هذا الحديث بعد أن قرر النهي عن تمنِّي الموت لبلاء نزل ـ: «وقد يجوز تمنِّي الموت لغير البلاء النازل، مثل: أن يخاف على نفسه المرء فتنة في دينه» (?) ، قال النووي: «فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا؛ فأما إذا خاف ضرراً في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث وغيره، وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم» (?) .

وما ضُرُّ مشتاق إلى لقاء ربه، طامع في النظر إلى وجهه، أن تعجلت له بوادر ذلك، بأمر الله إذا فسد الناس؟

ذكرت هذه المقدمة حتى لا يقال: كيف تعدون هذه الزلازل وتلك الكوارث والحوادث عقوبات من الله وقد يهلك فيها الصالحون؟ أو كيف يجوز نزول العذاب على الصالحين عندكم؟ ومع أن هذه المقدمة تشير إلى الجواب، بل إن النص النبوي فيها صريح، غير أن بسطه من الأهمية بمكان؛ لأن التشغيب بنحو هذا من قِبَل أولياء الباطل من أجل تقرير أن الزلازل والفيضانات والبراكين التي تصيب بعض الأمم الباغية لا علاقة لها ولا مدلول يشير إلى صلاح أو فساد نجمت عنه الكارثة، والحجة عندهم أن تلك الكوارث ـ بعينها ـ تصيب أهل الإسلام فيهلك من الصالحين أناس؛ مع أن الله ـ تعالى ـ يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 14] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وقال لخير القرون ـ رضي الله عنهم ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .

أنهلك وفينا الصالحون؟

فإذا قيل: أيهلك القوم وفيهم الصالحون؟ أجيب أن الله قد أعذر فأنذر عباده. قال ـ عز سلطانه ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] ، وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟

قال: نعم! إذا كثُر الخَبَث (?) .

قال أبو الوليد الباجي وهو من علماء القرن الخامس (?) : «فهذا مع الصالحين؛ فكيف مع قلّتهم أو مع عدمهم؟! نسأل الله أن يتجاوز عنا بفضله ويتغمد زللنا برحمته» (?) ، ولا يسعنا إلاّ أن نقول: آمين!

وفي صحيح البخاري بابٌ: إذا أنزل الله بقوم عذاباً (?) .

قال ابن حجر: «حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث» (?) ، ثم ساق حديث يونس بن زيد: «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بُعِثوا على نياتهم» قال ابن حجر: «والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم، قوله: «ثم بعثوا على أعمالهم» أي بُعث كل واحد منهم على حسب عمله، إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلاّ فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين» . ثم ذكر آثاراً عدة في هذا المعنى، وقال: «والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يُجازى كل أحد بعمله على حسب نيته» ، ثم ذكر قول ابن أبي جمرة في سبب إهلاك الصالحين فقال: «إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً، لا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، ويدل على تعميم العذاب لمن لم يَنْهَ عن المنكر وإن لم يتعاطاه قولُه ـ تعالى ـ: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ، ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يُعِنْهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره -صلى الله عليه وسلم- بالإسراع في الخروج من ديار ثمود.

وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيراً لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم؛ فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يُبعث كل منهم فيجازى بعمله.

وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة. قلت: فأتى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي في التذكرة» (?) اهـ.

ثم مال ابن حجر إلى أنه ليس من شرط إهلاكهم سكوتهم عن الإنكار فقال: «وما قدمناه قريباً أشبه بظاهر الحديث وإلى نحوه مال القاضي ابن العربي» .

ولعل هذا القول قريب من قول ابن قتيبة - رحمه الله - في تأويل مختلف الحديث: (فأما عقاب الله ـ تعالى ـ إذا هو أتى فيعم وينال المسيء والمحسن، قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ، يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره. وقال ـ عز وجل ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 14] ، وقالت أم سلمة (?) : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نعم! إذا كثُر الخَبَث» ، وقد تبين لهم أن الله ـ تعالى ـ أغرق أمة نوح ـ عليه السلام ـ كلها ـ وفيهم الأطفال والبهائم ـ بذنوب البالغين، وأهلك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصاعقة، وقوم لوط بالحجارة، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، وعذّب بعذابهم الأطفال. قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: إن الضب في جحره ليموت هزلاً بذنب ابن آدم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف» (?) ، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين، حتى أكلوا القد والعظام.. فنال ذلك الجدب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ... ) إلخ.

ثم عقَّب ـ رحمه الله ـ بكلمة تَسَطَّر بماء الذهب، رأى صوابها كل من له عينان، فقال: «وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار؛ فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار، والأطفال والصغار، أصابته الرجفة، فهلك به البر والفاجر، والمسيء والمحسن، والطفل والكبير؛ كقومس ومهرجان وقذق والري ومدن كثيرة من مدن الشام واليمن، وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله ـ عز وجل ـ من أهل الديانات وإن اختلفوا» (?) ، وما حل مؤخراً بأجزاء من أرض الباكستان عنا ببعيد.

مناقشة الخلاف في إهلاك المصلحين وأممهم:

لعل ما اختاره ابن أبي جمرة من عدم وقوع العذاب على المصلحين بل دفع الله بهم العذاب عن العاصين أقرب للصواب، وتشهد له أدلة كثيرة، منها:

1 - تقييد الإهلاك العام في النصوص التي احتج بها المخالف بالسكوت عن الإنكار في أحاديث أخر، كما في حديث الترمذي الذي صححه هو وغيره، عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أيها الناس؛ إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (?) ، وكما في حديث السفينة (?) وغيرهما.

2 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وما في معناهما.

3 - عموم الأدلة في حفظ الله مَنْ حفظه، كحديث ابن عباس: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ... الحديث» (?) . قال ابن رجب: «وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ... النوع الثاني من الحفظ ـ وهو أشرف النوعين ـ: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه ثم موته فيتوفاه على الإيمان» (?) .

4 - النصوص الواردة في حفظ الله للقرى وأهلها الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كقول الله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117] .

5 - نصوص الوعد بالسلامة والنجاة للأنبياء والمؤمنين إذا نزل العذاب، كما في قول الله ـ تعالى ـ: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 102 - 103] .

6 ـ إخبار الله عن إنجائه الذين ينهون عن المنكر ويدعون إلى المعروف في مواطن عدة، إذا نزل العذاب، كشأن كثير من أنبياء الله ورسله وأتباعهم من المؤمنين. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] ، {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66] ، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] ، وكما في خبر نوح، ولوط، وغيرهم من رسل الله، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 7 - 9] ، وقال الله ـ عزوجل ـ عن أصحاب السبت: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] ، ولهذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: «لم يُعذب أهل قرية حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أُمروا» (?) .

فهذه وغيرها أدلة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لمنع العذاب العام، فإذا قيل: فما بال القرى ترتجف فيهلك فيها الصالح والطالح؟ أجيب بأن الصالح لا يلزم أن يكون مصلحاً، وإن كان صالحاً؛ فإنَّ تركه الأمر والنهي قد يكون معصية لا ترفع عنه وصف مطلق الصلاح، وخاصة مع تأوله وتركه الهجرة، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: «كان يقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم» (?) . قال أبو الوليد الباجي: «يريد قول الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وقول عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: «ولكن إذا عُملَ المنكر جهاراً» يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به، وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المنكر له مستضعفاً لا يقدر على شيء فينكره بقلبه، فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحشر على نيته» (?) .

وقال ابن العربي في قول الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] : «وتحقيق القول في ذلك أن الله قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بَيْدَ أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاصٍ؛ هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله» (?) .

كما أنه ربما قام بعضهم بالأمر والنهي ولكن قام بهم مانع يحول دون تحقق وصف الصلاح أو الإصلاح فيهم، وإن خفي هذا على البشر فليس بخاف على الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وقد يكون السبب المانع من العذاب قائماً متحققاً؛ كأن يكون الأمر بالمعروف لا يكل عنه المصلحون، والنهي عن المنكر لا يمل منه الطيبون، ومع ذلك ينزل الله العذاب، فيكون هذا من قبيل تخلُّف النتيجة مع تحقق السبب بقدر الله وأمره لاقتضاء الحكمة له في ذلك الموطن، كتخلف الولد على الرغم من حصول سببه وهو الزواج، ونحو ذلك مما هو مخالف للأصل، فيقدر بقدره.

والأصل هو أن الإصلاح من أسباب نجاة الداعين، وتقليل خبث المخبثين، وتأخير العقوبة عن عامة الناس أجمعين.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يُسْتَجب لصاحبه فقد يكون سبباً لإكرام الله له بالنجاة عند حلول العذاب.

ويمكن تقسيم تعلق النجاة بالأمر والنهي إلى أقسام:

- فإن قام المصلحون بالمعروف، ورفعوا المنكر بأمرهم ونهيهم، سلموا وسلم الناس جميعاً.

- وإن تركوا الأمر والنهي هلكوا وهلك الناس، ومثال صورة هذين الفريقين هو المذكور في حديث السفينة؛ حديث النعمان ابن بشير في الصحيح والذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (?) .

- فإن أمروا ونهوا وبذلوا ما في وسعهم فلم يُستجب لهم، ففارقوا قومهم وفاصلوهم، كما فعل كثير من أنبياء الله قبل حلول العذاب بأقوامهم، حينها تكون المفاصلة نجاة لهم، كما كانت نجاة لأنبياء الله ورسله، وعندها يكون البقاء محرماً لوجوب الهجرة، وهذا المعنى يمكن انتزاعه من حديث السفينة؛ فقد ضربت صورة للمسألة وبُيّن المآل لاحتمالين، وسكت عن تبيين المآل إذا ما حاول الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الأخذ بأيدي الواقعين في محارم الله فلم ينتهوا وأصروا على الخرق بالوقوع في المحارم، فهنا يتعين على الآمرين والناهين المفارقة لينجو بأنفسهم قبل أن يدركهم الغرق، وقد استدل غير واحد من أهل العلم على وجوب المفارقة إن استشرى الفساد بالآثار المؤذِنة بحلول العذاب العام. قال الزرقاني: «وفي الاستذكار هذا يقتضي أنه لا ينبغي المقام بأرض يظهر فيها المنكر ظهوراً لا يطاق، والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب» (?) . أما إن لم يأنِ أوان المفاصلة فيظل الإنكار والقيام بأمر الله صارفاً للعذاب، قال الله ـ عزوجل ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، ولذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا» (?) .

- وقد يأمر أهل الخير بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يستجاب لهم، ويستشري الفساد فلا يمايزون قومهم، وقد يكون هذا بعذر كعدم القدرة على المفارقة مع سعيهم لها، أو بغير عذر غير استمرارهم في الأمر والنهي طمعاً في أن يغير الله حالهم، فيدأبون على ذلك حتى ينزل العذاب؛ فهؤلاء قد يكرمهم الله بالنجاة وبالأخص إن سعوا في التمايز وبذلوا أسبابه، كما أكرم الله ـ سبحانه ـ موسى وقومه بالمعجزة الباهرة يوم فرق البحر فأنجاهم، ثم أغرق عدوهم ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. وقد يأخذهم الله مع الهالكين وبالأخص إن لم يعمدوا إلى مفاصلة قومهم، ولم يسعوا في مفارقتهم، رحمة بهم وتداركاً لهم قبل أن تصلهم يد الباطل المفسدة، ثم يبعثهم على نياتهم. ولعل من لطف الله بعباده المخلصين أنه يقدر لهم في مثل هذه الأحوال ما هو خير لهم فيكتب النجاة لمن كانت الحياة خيراً له، ويقبض إليه من كان قبضه خيراً له.

وبهذا يظهر وجه احتجاج نبي الله الحليم إبراهيم ـ عليه السلام ـ على الملائكة بقوله: {قَالَ إنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت:32] ، أثناء مجادلته عن قوم لوط طمعاً في تأخير العذاب عنهم، فجاءه الجواب: {نحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] .

فكان اعتراضه صحيحاً، ومراده منه تأخير العذاب عن القوم لعلهم يرجعون، كما قال الله ـ تعالى ـ في الآية الأخرى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 74 - 75] ، فاعتراضه بلوط كان من أجل قومه؛ ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] ، فجاءه الرد أن ما اعترض به لن يناله السوء هو وأهله المؤمنون به، فلم تبق حجة تمنع حلول العذاب بالمفسدين. وفي هذا إقرار لصحة الاعتراض الأول القاضي بمنع إهلاك الأنبياء بعذاب يعمهم وأقوامهم، وكذلك في أمر المؤمنين من أتباعهم، وقد أورد أهل التفسير ما يدل على هذا أثناء حكايتهم لمجادلة إبراهيم، ويشهد له ما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما.

شبهة عصرية:

إن الزلازل ونحوها آيات كونية يجريها الله لحِكَم عظيمة وأسباب كثيرة، إلاّ أن بعض الماديين الذين أعرضوا عن آيات الله السمعية، تمادوا فأعرضوا عن الآيات الكونية؛ فإذا رأى أحدهم كسوفاً أو خسوفاً جلّى أسنانه الصفراء بابتسامة مثلها فرحاً بما عنده من العلم، وبصدق ما تنبأت به أرصاده، ولأنه علم أسبابه.

وهكذا حال بعضهم مع غير الشمس والقمر من الآيات الكونية كالزلازل؛ فأسبابها عندهم معروفة، كما أن التنبؤ بها ورصدها لم يعد أمراً شاقاً في ظل العلم الحديث.

وقد تجرأ بعضهم فعزا الحوادث الكونية إلى أسبابها التي علمها، ثم استطال فقال: إن فكرة الخالق لم تعد ضرورية.

يعني لأجل تفسير الحوادث. وربما كان هذا المنطق حجة على من ينكر قانون الأسباب، أما أهل الإسلام الذين يعلمون أن الله ـ تعالى ـ قد أجرى هذا الكون على نواميس، وجعل النتائج متعلقة بأسبابها، فلا ينبغي أن يرد عليهم هذا، فإذا قال المسلم: إن الله هو الرزاق، فلا يعني ذلك نفيه أسباب الرزق المختلفة.

وكذلك إذا قالوا: الزلازل أو البراكين أو الخسوف أو الكسوف آيات يخوِّف الله بها عباده، أو أنها من خلقه، فلا يلزم من ذلك ألا يكون له سبب أو قانون تجري عليه. أما من قصر نظره على السبب ـ فمتى وجد أسباباً أو قوانين مطردة تمسّك بها، ورفض أن ينسب الفعل إلى ما عداها، وغفل عن مسببها ـ فهؤلاء في الحقيقة لا يختلفون عن بعض الحمقى الذين وجدوا طفلاً تائهاً في البرية يتحدث بغير لسانهم فلم يفهموا منه شيئاً، فقال بعضهم: هذا خَلْقُ الله؟ ثم بحذق بعضهم أو بفضل مترجم عابر تمكنوا من معرفة أبيه فاستنتجوا من ذلك أنه ليس له خالق.

وهؤلاء كذلك فجميعهم عزا الأمر الحادث إلى سبب عرف طريقة عمله، وغفل عن أنه يفتقر هو بدوره إلى سبب آخر ينتهي في سلسلة تنتهي عند مسببها الذي أجراها لحكمة ومراد.

وإذا تأملت هذا المذهب وجدت أن له أصولاً قديمة قدم البشرية، فجلُّ الأمم التي أخذها الله بذنوبها جاء أخذها بعد أن بعث الله إليهم رسله فأنذروهم بالآيات السمعية، ثم بعث عليهم الآيات المرئية في أثر السمعية، فلما لم يرتدعوا دمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها. ولعظم غفلة هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه مقتصرين على قولهم بالأسباب.

ولم يُذكر في القرآن أن الله أنجى قوماً بعد أن رأوا الآية الكونية المرئية إلاّ قوم يونس. قال الله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] . فما أعقلهم من قوم آبوا جميعاً ورجعوا إلى ربهم مذعنين عندما رأوا الآية؛ بينما قال غيرهم: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] !.

قد يتعجب المرء: ما بال أولئك المكذبين؟ أليست لهم عقول؟ أوَ لا يرون الآيات؟ فما بالهم لا يتعظون ولا يرجعون؟! أيُعقل أن يرى فرعون تسع آيات ثم يصر مستكبراً؟ ألا يَعقِل؟

والجواب: بلى كانت لهم عقول، وكانت لهم حضارة، وكانت لهم علوم، ولكنهم اغتروا بها، فاقتصر نظرهم على الأسباب القريبة ولم يتعدّاها إلى مسبباتها وحقائقها وما وراءها. وتأمل معي قول العزيز الحكيم: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 81 - 85] .

نعم! قد سمعوا بالآيات التي نزلت بالأمم كما سمعنا بها، ورأوها كما شهدناها، وعلموا أن الهالكين أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض كما علمنا، وفوق ذلك كله قد جاءتهم الرسل بالبينات كما جاءتنا، ولكن ... {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] ، فكانت النتيجة الطبيعية: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] ، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] .

لقد كانوا يرون الآيات، ولكن ما عندهم من العلم قد قادهم إلى بطر الحق، فإذا رأوا عارضاً في أفق من آفاق السماء، قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] . ومن أُهلكوا بالريح قالوا عنهم: غضبت عليهم الطبيعة؛ وفق علومهم إثر تقلبات جوية سببتها تخلخلات في الضغوطات الجوية بفعل تغيرات في السخونة والبرودة. وهكذا تنتهي الآية فلا ينظر عاقل في مسبب الأمر وموقته ومدبره، سبحانه وتعالى.

بل من أصبح على فراشه ميتاً حتف أنفه بغير علة فموته موت طبيعي، ومن أُهلك بالريح العقيم مات موتاً طبيعياً أيضاً.

كان أحدهم يرى الخسوف فيقول: من الطبيعي: انعكاس ظل الأرض على القمر؛ وينسى الذي أوجد هذه الطبيعة بعد أن كوكب الكواكب وأجراها على ناموس مطَّرد فلا يتساءل: من أوجده؟ وما باله اضطرب هنا؟ ولماذا؟

وإذا أُهلك قوم بالطوفان، ورأوا الآية فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: هزة أرضية ناجمة عن تخلخل للصفائح في قعر المحيط أدى إلى ارتفاع مد البحر، وتنتهي القضية دون نظر إلى من أوجد تلك الصحائف وأرساها وجعل بها صدوعاً في ذلك المكان، ودون اعتناء بأمرِ مَنْ أمر تلك الصحائف أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت؛ فتلك سنة الله التي خلت في عباده تجري اليوم في هؤلاء.

فإذا تساءلت عن كل تلك العوارض وقلت: من المسبب لتلك الأسباب؟ وما هي الحكمة وراء تسبيبها؟ يخرس متفلسفة كل عصر، وينطق العجاج؛ من عاصرَ الجاهلية الأولى ثم منّ الله عليه بالإسلام:

الحمد لله الذي استَقَلَّتْ

بإذنه السماءُ واطمأنتْ

بإذنه الأرض فما تَعَنَّتْ

وَحَّى لها القرارَ فاستقرتْ

وشَدَّها بالراسيات الثُبَّتْ

رَبُّ العبادِ والبلادِ القُنَّتْ

لقد رأى فرعون طوفان النهر أو البحر أحد تسع آيات ذكرت في القرآن فلم يعتبرها آية، بل ثورة كونية! وفرصة سانحة لكي يطارد أتباع الأنبياء، ويرى اليوم بعض الناس الزلازل المودية بالآلاف والفيضانات والأعاصير، فلا يعدها آيات بل هو غدر الطبيعة القاسي.

ثم يصر على عزو الحوادث إلى أسباب تفتقر إلى أخرى لا تنتهي إلاّ عند مسببها الغافل عنه، المصر على إنكاره بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا برهان تجريبي أو عقلي واحد، فليس معه حجة في إنكاره غير الجهل، مع أنه يرى الحوادث تترى. وقد تقرر في ميزان العقول أن كل ما هو جائز الحدوث من نحو هذه العوارض الأرضية وأسبابها التي يذكرونها، من الممكن أن تكون، ومن الممكن ألا تكون؛ فكونها جائزة قضى باستواء طرفي الوجود والعدم فيها، فلا يترجح أحد الطرفين فيكون موجوداً أو يكون معدوماً إلاّ بمرجح خارجي ليس بجائز، بل هو واجب تختلف صفاته ونعوته عما يدركه البشر من الموجودات الجائزة فلا تجري فيه مقايسهم.

إن المسلم لا ينكر الأسباب والنواميس التي أجراها الله في الكون، ولكنه ينكر على بعض القائلين بها اقتصارهم عليها، ونسيانهم لمسببها وجهلهم بحكمته منها؛ فإن الله قد أجرى الدنيا على قانون الأسباب، فلا يقتضي القول بها إنكار الخالق، ولا يقتضي إثبات الخالق إنكاراً لها.

إن من فرح بما علمه من أسباب كونية وأصر على قصر تفسير الظواهر الأرضية بها فسينتهي به المطاف إلى الحيرة أو الاتِّكاء على سبب هشٍّ لن يجد له مسبباً إلاّ إن أقرّ بالخالق الرازق المدبر، واعترف بعلمه وقدرته ومشيئته، وعلم أنه لا يحيط به علماً.

وعندها حري به أن يلهج بدعاء الأنبياء: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] ، {وَذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .

أسأل الله أن يرفع الضر والبأس عن المسلمين، وأن يتداركهم برحمته فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم على نبينما محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015