بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعندما نُكبت الأمة منذ نحو ربع قرن، بغزو الروس الشيوعيين لأرض أفغانستان المسلمة، تداعى المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي بكل شرائحه وطوائفه لنجدة الشعب الأفغاني والوقوف معه بالمستطاع من الجهد والمال والرجال، حتى يستطيع أن يرد ذلك الاجتياح الذي كان ـ على ما ظهر ـ مقدمة لاجتياحات إمبراطورية أخرى، كان يتطلع من خلالها الروس أن يصلوا إلى نفط الشرق الأوسط، ومن ثم سَبْق الولايات المتحدة إليه.
وللحقيقة فإن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في تسعير ذلك الحرب ضد غريمها العنيد ـ الاتحاد السوفييتي السابق ـ لا لمشروعية هذه الحرب وبسالتها ضد العدوان، بل كان ذلك استغلالاً وانتهازية لفرصة تاريخية، يمكن للولايات المتحدة أن تتمكن فيها من صد عدوها من وراء أرواح ودماء وأموال المسلمين.
وقد حدث ما حدث من انكسار العدو الروسي وانتصار الجهاد الأفغاني الذي أجمع علماء الأمة وقتها على مشروعيته ووجوبه، مع اختلاف فقط في كون ذلك الوجوب وجوباً عينياً أم كفائياً.
وقد عُلم من وقتها أن الحرب ضد الروس في أفغانستان، والتي نزلت فيها الولايات المتحدة بثقلها بطرق مباشرة وغير مباشرة، تمكنت أمريكا فيها من حشد حلفائها من الدول لتأييدها في قهر روسيا، وقد سَهَّل هذا كثيراً مهمة المجاهدين في ذلك الوقت؛ إذ كان كيداً من الله لأوليائه ضد أعدائه {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 15 - 17] .
واليوم تتبدل الأحوال، وتتغير الظروف، ويجد المسلمون أنفسهم في مواجهة أخرى مفروضة ضد الولايات المتحدة وحلفائها في عدد من بلدان العالم الإسلامي، لأطماعٍ إمبراطورية أخطر من الأطماع الروسية السابقة.
وكانت أفغانستان نفسها ثم العراق، أولى محطات هذه المواجهة، مع ما يدبر الآن من وراء الجدران، لكل من سوريا، ولبنان، والسودان، وغيرها من البلدان.
ولكن المشهد اليوم اعترته اختلافات ومفارقات عجيبة وغريبة عن مشهد الأمس؛ فالبلدان التي تعرضت للعدوان الذي لا شك في وجوب صده ورده، قامت فيها هبات جريئة من مجموعات مخلصة، حاولت أن تقوم بمثل ما قام به المجاهدون الأفغان أيام الحرب في أفغانستان، ولكنها وجدت نفسها في بيئة دولية مغايرة، وإقليمية متنافرة ومحلية متناقضة، مما أثمر صدوداً شبه عام عن قبول هذا الجهاد رسمياً فضلاً عن دعمه، وزاد الأمر شدة أن الإسلاميين أنفسهم بدعاتهم وعلمائهم مختلفون حول الكثير من مسائل هذا الجهاد وقضاياه لأسباب علمية أو سياسية أو حزبية أو حتى عنصرية، وما كان لهم أن يختلفوا، وهو ما أوقع مسيرة هذا الجهاد في ورطات متعددة، وبخاصة في العراق.
ü ومع هذا نقول:
إن الغزو الأمريكي الحاصل اليوم في العراق، أخطر بمراحل من غزو الروس لأفغانستان لاعتبارات كثيرة:
- منها: هذا الانصراف الواضح عن التصدي له إقليمياً وعالمياً، رسمياً وشعبياً، بسبب أن الولايات المتحدة هي طرفه الرئيس، ولهذا لم تجرؤ الكثير من الأنظمة على الاعتراض عليه، بل إن الولايات المتحدة نفسها وجدت من الأنصار ضد المقاومة في العراق ـ عالمياً وإقليمياً ومحلياً ـ ما كاد يشعرها ويصورها على أنها هي الضحية المجني عليها، مما زادها غطرسة وجرأة في المضي في خططها التي جاءت من أجلها.
- ومنها أن غزو العراق ـ ومن قبله أفغانستان ـ إنما جاء وفق خطط أسبق من التهديدات الوهمية لصدام، والتداعيات المبالغ فيها لأحداث سبتمبر، والأخطار المضخمة لما تسميه أمريكا بالإرهاب؛ إنها الخطط التي يتوالى الكشف عنها والتي تستهدف ضمان تفرد أمريكا بالسيطرة على زعامة العالم طيلة القرن القادم.
- ومنها أن غزو العراق ـ ومن قبله أفغانستان ـ إنما جاء في أكثر ظروف العرب والمسلمين ضعفاً وتشتتاً، وفي أشد الأوقات تعرضاً لتداعي الأمم؛ حيث نجح الأعداء في تحويل اهتمامات الشعوب إلى الداخل، لتنكفئ كل دولة على همومها ومشكلاتها غير عابئة بالحريق المجاور لها الذي يوشك أن يطالها فيلتهمها.
- ومنها: أن شرائح كبرى من الإسلاميين في العالم، وعلى عكس ما كان منطقياً وطبيعياً في زمان تداعي الأمم عليهم، قد تغيرت اهتماماتهم، وبردت حميتهم، وانصرف بعضهم إلى الهموم الصغرى، بل التحق بعضهم بالخنادق المعادية، في وقت لا تزال النيران مفتوحة على الأمة من هنا وهناك.
- ومنها: أن العلمانية في العالم الإسلامي التي أضاعت الأعمار في أقوال بلا أفعال، وأفكار بلا ثمار، تنتقل الآن بأقوالها وأفعالها وأفكارها إلى الحصون المعادية للأمة، والأوكار المحادَّة للدين تاركة الشعوب تلقى مصيرها، الواحد بعد الآخر.
- ومنها أن العراق أصبح ساحة لتصفية الحسابات والأخذ بالثارات القديمة والحديثة، من الإيرانيين مرة، ومن اليهود مرة، ومن بعض دول الجوار مرات، وهو ما جعل المقاومة في العراق تواجه أصنافاً من الأعداء الظاهرين والباطنين إلى جانب العدو الرئيس المتمثل في الاحتلال.
ü ولهذا نؤكد:
أن قلوب الغيورين في سائر الأمة تحترق، وأكبادهم تكتوي، كلما رأوا تعثراً يعرقل مسيرة هذه المقاومة، أو تشوُّهاً يشوبها، أو وهناً يدخل عليها فينفذ إلى سائر الجسد الذي يتداعى لها. ولهذا فإن هناك أموراً لا نرى مناصاً من المناصحة فيها، ودواعي قلق لا يسوغ السكوت عنها ومن أهمها:
أولاً: أننا أمة دعوة؛ فعقيدتنا دعوة، وجوهر عبادتنا وشريعتنا دعوة، بل نحن في محبتنا وعداوتنا حَمَلة دعوة، بل حتى جهادنا وقتالنا دعوة، بل هو ذروة سنام الدعوة.
ودعوة الجهاد وشرعته، لها هيبتها ووضاءتها وسماحتها التي عَرَفَنا بها العالم المنصف عبر التاريخ، ودخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وواجبنا أن نحافظ على هذا السمت وتلك السمعة وهذه السيرة، حتى لا نضر بأصل دعوتنا.
دعوة التوحيد، هي التي يحملها منا العالم في مجلسه، والداعية على منبره، والمقاتل في ميدانه، وكل مختص في مجال تخصصه؛ فهي ليست حكراً على أحد، ونصرها ونشرها ليس مسؤولية أحد دون أحد.
ثانياً: إذا كان تكثير الأنصار لنصرة الدين أمراً محموداً مطلوباً، فإن تكثير الأعداء وزيادة الجبهات يعد أمراً مذموماً مرفوضاً، وإن من أولى مبادئ علم الاستراتيجية العسكرية مبدأ (لا تكثِّر أعداءك) ؛ فما بال أقوام أعداؤهم أكثر من أصدقائهم وأنصارهم، ومع ذلك يبحثون بحثاً عن مزيد من الأعداء، لا بل ينقبون عن مسارات يخسرون بها العديد من المؤيدين والمتعاطفين!
نرى في هذا الشأن خطراً جسيماً على مستقبل الجهاد، لا في العراق فحسب، بل في أماكن أخرى ساخنة من العالم الإسلامي، ولقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينازل قوماً من أعدائه ويترك ـ ولو مرحلياً ـ منازلة قوم، وكان ينشغل بأناس من المحاربين ويتشاغل عن أناس منهم، وأحياناً كان يتألف ويعالج قلوب فريق، بينما يعاجل بالحرب والضرب فريقاً آخرين، ونحو ذلك مما تعج به سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الخلفاء والأتباع السائرين على هديه؛ فما كان -صلى الله عليه وسلم- ينازل الجميع ـ ولو كانوا جميعاً من المحاربين ـ في ظرف واحد، ولا كان حريصاً على فتح جميع الجبهات في كل الأوقات شفقة منه وحكمة ورحمة؛ لأنه أمين على مصلحة المسلمين، حريص عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم.
ولهذا ينبغي ألا ينقل المقاومون للمحتل الغاصب معركتهم خارج مكانها الصحيح كما حدث للأسف في أكثر من ساحة، حتى لا تضيع الأهداف وتفسد الثمرات.
ثالثاً: الخطاب الإعلامي، من أخطر المؤثرات في توجيه مسار المعركة؛ وخطورة هذا الخطاب لا تأتي من سرعته وصدقه ومواكبته للأحداث فحسب، بل من لهجته وطبيعته ومفرداته المراعية لكل من يتوجه إليه من صديق أو عدو، من عالم أو جاهل، وعندما يكون هذا الخطاب الإعلامي قاصراً فإنه يضر بالمعركة على الأرض، ويشيع الوهن والإحباط لدى المراقبين لها، وبخاصة إذا تجاهل المشاعر، وتغافل عن الحساسيات، وضرب عرض الحائط بتعارض المصالح والمفاسد، واختلاف الطباع وتباين الانتماءات والولاءات. وإن من أشد أضرار الخطاب الإعلامي غير المتزن: الإخلال بوحدة الأمة واجتماع قلوبها على قضاياها الكبرى؛ فالجهاد إذا توجه إلى غير ساحاته، أو تجاوز غير استحقاقاته من أفراد أو منشآت أو مصالح؛ فإنه قد يثير حفيظة شعب على شعب، وينكأ جراح جماعة على جماعة، بل وقد يُحدِث الانشقاقات في الصف الواحد على الجبهة الواحدة، ومن عجيب الأمر أن هذا الخطاب أحياناً ما يتجاهل مستوى وعي الناس، فيفترض أنهم جميعاً على مستوى فهم دقائق الأحكام الفقهية والاختلافات العقدية التي ينطلق منها (هذا إن كانت صحيحة في كل الأحوال) . فالحاصل أن الغالبية العامة لا تفهم إلا الظواهر الواضحة، ولا تعي ما تخبئه العقول وتستره القلوب؛ فالقاتل عند الناس قاتل، والمقتول عندهم مقتول، وللدماء بشاعتها وللحرائق رهبتها وكل هذه البشاعة تحتاج إلى تفسير لا إلى مزيد من التسعير، ولنعترف بأن توجه آلة الإعلام عالمياً وإقليمياً ليست لصالح المسلمين، ولا هي في حيز قدرتهم على التحوير والتأويل، فلا ينبغي إعانة الأعداء على الأمة بتقديم خدمات مجانية إعلامية، تستغلها آلة شيطانية، لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على أن تكون سمعة المسلمين حسنة. والصورة لا تكون حسنة إلا إذا كان الأصل حسناً. وصورة الحدث ينبغي أن تعكس حقيقة الحدث دون حاجة للتعسف في تفسيرها أو التكلف في تأويلها، ولما أشير عليه -صلى الله عليه وسلم- بقتل من يستحق القتل من أعدائه المنافقين قال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (1) .
نعم! ونحن لا نريد أن يتحدث الناس أن الجهاد في العراق أو في غيره من الساحات المشروعة قد فقد بوصلته، أو حاد عن سبيله، أو أن المجاهدين قد فقدوا الإنسانية، أو خرجوا عن الضوابط الشرعية والقيم الإسلامية.
رابعاً: اختيار ميدان الشهادة مسؤولية جسيمة؛ فهو ليس مجرد قرار بدخول أعلى درجات الجنة في أسرع وقت ومن أقصر طريق.. لا؛ فالشهادة منزلة سامقة، تستهدف بذل الروح بعد إراقة الدم، بغية دخول الجنة بلا سابقة حساب ولا عذاب، وهذا أعلى درجات قدرة الإنسان على الفعل، ولكنَّ هناك أفعالاً لا بد أن تسبق هذا الفعل حتى يتوج بغايته ويصل المرء به إلى بغيته، وأعلى هذه الأفعال إخلاص النية والاجتهاد في إصابة الصواب. أما النية فظنُنا أن أكثر من يوفق إلى هذا المستوى من الرغبة في البذل؛ وراءه نية صافية صادقة، ولكن نية الصادق لا تكفيه حتى يضم إليها الفعل الصائب، المنضبط بضوابط الشريعة، ومع علمنا بأن الحرب حرب، يحدث فيها ما لم يكن وارداً أو مراداً من الأخطاء والأخطار، إلا أنَّ الأصل العام أن الجهاد ليس مجرد حرب وضرب، فليس كل القتال جهاداً، وليس كل الجهاد معصوماً، بل ليس كل من مات مقتولاً كان شهيداً مقبولاً؛ فدون كل ذلك تصحيح النوايا وتصويب الأعمال، ولهذا فإن التغرير بالنفس لدفعها لميدان الشهادة، لا ينبغي أن يتحول بهذه النفس من مقام المقاتل في سبيل الله، إلى مقام القاتل لعباد الله، ولا ينبغي أيضاً أن يتحول عن جبر كسور الأمة، إلى كسر قلبها وإدخال الحزن عليها، ولا ينبغي كذلك أن يصير فرحاً وشماتة عند الأعداء، بدلاً من كونه نكاية بهم وإضعافاً لصفهم؛ فكم سمعنا عن أعمال فرح بها الأعداء المحاربون، وشَرِقَ بها المسلمون المشفِقون.
خامساً: ذلك التساهل المخيف في الدماء أمر مستهجن وبخاصة دماء المسلمين؛ لأن شأن سفك الدم بغير حق؛ مما جاءت شريعتنا وكل الشرائع قبلها باستنكاره وتجريمه، وهل هناك أعظم من قول الله ـ تعالى ـ المسطور في الكتب السابقة، والمنقول إلى الكتاب الخاتم: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، ووصية الله ـ تعالى ـ في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] .
ولذلك جاء حرص الشريعة على التحرز في أمر الدماء، حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، أكبَّهم الله في النار» (1) . ولنلحظ هنا التعبير بـ (مسلم) ، أي: مسلم واحد؛ فما بالكم إن كان عشرة أو عشرين أو مائة؟ لقد بلغ شأن التحرز من الدماء المعصومة أن قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] .
أي: ولولا أنَّ بين المشركين في مكة قبل الفتح من يكتم إيمانه ويخفيه، لسلط الله المسلمين عليهم فلقتلوا المشركين وأبادوا خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين أقوام لا تعرفونهم حالة القتال، ولهذا أخر الله عقوبة المشركين حتى يخلِّص من بين أظهرهم المؤمنين (2) .
فهذا إن وطئوهم وتسببوا في قتلهم بغير علم؛ حيث لم يعلموهم؛ فكيف إذا كانوا يعلمون.. وكيف إن كانوا يتقصدون؟ إن المعرَّة أي الإثم والغم والغرم والشدة لا بد أن تلحق بالمسلمين بسبب هذا القتل. قال الشيخ ابن عاشور: «فتصيبكم منهم معرة: أي ما تكرهونه من ضر أو غرم أو سوء قالة، ومن إثم يلحق القائلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه، ومن قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينجُ أهل دينهم من ضرهم، ليكرِّهوا الناس في الإسلام وأهله» (3) . و (المعرة) لا بد أن تصيب المؤمنين، عندما يرون قتيلاً لا يدري فيمَ قُتل، أو قاتلاً لا يدري فيمَ قَتَل. ولقد اشتد وعيد الكتاب الحميد على ذنب الوقوع في الدماء، حتى إنه لم يأت وعيد في القرآن بعد الشرك أعظم من الوعيد بقتل المؤمن: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، ومن أجل هذا الوعيد الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً» (4) .
فالتحرز الشديد في أمر الدماء وتحاشي إزهاق الأرواح بغير حق، أهم وأخطر وأوجب من وضع الخطط وحشد الأنصار؛ لأنه مسألة جنة أو نارُ و «لَزوالُ الدنيا جميعاً أهونُ على الله من دم يُسفَكُ بغير حق» (5) . وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من أفعال من لا يتحرز في الدماء ولا يتحاشى في شأن الأرواح بين ظهراني المسلمين فقال: «ومن خرج على أمتي يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه» (6) .
سادساً: ما يقال في التسرع في الدماء، يقال في التسرع في الأحكام من تكفير أو تبديع، أو تحليل أو تحريم؛ فما تسرع متسرع في الدماء، إلا بعد التسرع في الأحكام، والأحكام في المسائل الكبرى من الشريعة والعقيدة، لها أهلها ومتخصصوها الراسخون في العلم، ولا ينبغي تجاوزهم أو الافتئات عليهم، وبخاصة ممن يستمطرون أسباب النصر ويبحثون عن أسباب التوفيق؛ فلا ينبغي الخلط بين فعل المجاهدين للدين والمجتهدين في الدين؛ فالاجتهاد شأن آخر غير الجهاد؛ فهذا ميدان وذاك ميدان، ولهذا رجاله ولذلك رجاله. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
سابعاً: ضعف التأصيل الشرعي والتسرع في تنفيذ الخطط قبل أخذ حقها وحظها الوافي من الدراسة الميدانية والتقنية والشرعية، هما من مظنة الوقوع في إراقة الدماء الحرام، وقد لوحظ في الآونة الأخيرة المبادرة إلى استهداف أماكن غير مشروعة، مثل الفنادق والمقاهي والسفارات، والمدارس والأنفاق والشواطئ ... نحو ذلك من الأماكن التي لا يُؤمَن أبداً خلوُّها من أصحاب الدماء المعصومة مع شكنا فيمن وراء بعض تلك الأعمال. وهؤلاء لا يحل قصدهم بحالٍ مسلمين أو غير مسلمين ما داموا غير محاربين، ولا يمكن الاحتجاج بأن الأعداء يتترسون بالمسلم منهم؛ فهذا ما لم يحدث أبداً في كل ما جرى تنفيذه في بلدان متفرقة من العالم، وحتى صاحب النفس المعصومة لو تترس به الأعداء؛ فإن جمهور الفقهاء على أنه لا يُقتل إلا بشروط مغلَّظة، تُراجَع في مظانِّها، ولهذا فإن المسلمين الصادقين ـ وغُرتهم من المجاهدين ـ ينبغي أن يكونوا على ذكر دائم بأن التهاون في الدماء أمر عظيم، وخطر جسيم، وما يقال عن الدماء المعصومة للمسلمين يقال عنها في غير المسلمين، وهم من قال الله فيهم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
فاللهم أرنا وإخواننا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل