عبد العزيز عبد الله الحسيني
الهزيمة النفسية سقوط حضاري لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن تكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها.
وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل.
أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!
ولأثر هذا الغزو النفسي فقد فطنت بعض الدول إلى أهميته حتى غدا عنصراً مهماً في الحملات الفكرية والإعلامية الموجهة للدول المغزوّة أثناء الصراعات الحضارية، كي يدب فيها الوهن ويدوم اليأس.
- من أسبابها:
لعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحياناً بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية، ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.
وتجاوز الأمر قنطرته وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا ـ الانهزاميين ـ الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والتقنية فحسب.
ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهرياً؛ لكونها أعراضاً للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا؛ إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضاً مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولاً أعمى عن (السبب الأساس) في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمور لا يملكون أدواتها، ولتصدرهم لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين.
وللأسف فإن ذلك الطرح المادي المتكرر، قد أثر على قطاع عريض من شباب المسلمين، وكان سبباً في صرفهم عن عودتهم لهذا الدين، وإصابة غيرهم باليأس والقنوط، وأصبح بعضهم الآخر (يُسقط) تقصيره وأخطاءه على غيره، ويخرج نفسه من مغبّة مسؤولية ضعف أمته وهوانها، فعطلوا طاقاتهم وقدراتهم، بل وجميع أسلحتهم المعنوية الأخرى؛ فهم برأيهم ـ وكما فهموه من أولئك المحللين الانهزاميين ـ لا يملكون شيئاً لمواجهة تلك القوة القاهرة؛ حتى أصبح كثير منهم يعتقد أن هذا الواقع السيئ أمر لا مفر عنه وشر لا بد منه، فأصيبوا بهزيمة نفسية محبطة، وأصبحوا لا يؤمنون ولا يعتمدون ولا يطمئنون ولا يثقون، إلا بالقوة المادية فحسب، وغدوا ينظرون إلى الغرب بنفسية الغالب والمغلوب، وجنت الأمة آثار تلك الهزيمة النفسية المحبطة، وهو ما تعيشه اليوم بكل مآسي الواقع ومرارته.
- من آثار الهزيمة النفسية:
لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بل وسلوكياً.
وإنه ليصعب على المسلم أن يُشخّص الآثار المترتبة للهزيمة النفسية على أمته دون أن يصاب بحشرجة يصعب معها مواصلة حديثه، ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، يجد أن الأمة الإسلامية بلغت ـ بسبب عجزها ويأسها ـ حداً لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها، إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.
ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى (الانحطاط والتخلف) (1) ، وأصبحنا نعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر (الغثائية) التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» (2) .
نعم! مليار ومئتا مليون مسلم، ولكن لا وزن لأكثرهم ولا قيمة، معظم دُولهم ضعيفة تعاني الفساد وتشكو الفقر، وأكثر شعوبهم مسكينة تعاني الجهل وتشكو القهر.
وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت (3) .
- فقه الضعف والقوة:
القوة المادية ـ في كل زمان ومكان ـ هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد ـ حسب سنن الله ـ عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته سبحانه؛ فالله ـ تعالى ـ جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته (4) .
فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها؛ إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن ما هم فيه من الذل والهوان، إنما هو بسبب ضعف قوتهم المادية، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن ـ فقط ـ في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من السلبيات المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحرافاً كبيراً في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية ـ كما سيأتي ـ فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم من حيث بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وعدم إشعارهم بأثر ذلك في ضعف أمتهم وهوانها، كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم، كما أن التركيز على القوة المادية فحسب استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى؛ إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية؛ فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر ولو بعد عدة قرون أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم ـ إلا أن يشاء الله تعالى ـ.
ومع أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وكانت السبب الأول في نهضتها وعزها في ذلك الوقت، وهو ما نؤمِّل أن يكون سبباً في نهضتنا وعزتنا مرة أخرى.
ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و (ضرورة) ذاتية لوجودنا وتقدمنا، و (حاجة) ملحة للذبّ عن ديننا ومواجهة عدونا (1) .
والله ـ تعالى ـ أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال ـ سبحانه ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي مهما أمكنكم» (2) ، والإعداد حسب الاستطاعة ـ مع الإيمان ـ من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة. وحينما ذكر الله ـ سبحانه ـ القوة فقد أطلقها دون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.
ولذا يجب عدم الاستسلام للعدو وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع) ، إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، بحجة عدم كفاية الإعداد، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يُدفع بحسب الإمكان» (3) .
وإذا رأى علماءُ أهلِ بلدِ النازلةِِ عدمَ قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية، وإنما عبر وسائل كثيرة: علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم ـ والأهم جداً ـ في هذا العصر، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد؛ فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.
ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها آحاد العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمَن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماءُ أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا، بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا» (4) .
ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية، أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:
- فبعضهم يهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها والعمل على امتلاكها، لدرجة أن بعضهم يرى قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ويتناسى ما بعدها: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.
- وبعضهم الآخر، ضخّم قضية القوة المادية وبالغ في أثرها، وعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع» (5) .
والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب؛ فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها، وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب: ما نتائجه وعواقبه؟ لقد كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعُدّة من عدوهم، وكان اعتمادهم بالنصر على الله ـ تعالى ـ وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداًَ، فاعتمدوا ـ في البداية ـ على ذلك، حتى قال قائلهم: «لن نُهزَم اليوم من قلة» ، فوكلهم الله ـ تعالى ـ إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاًَ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] .
فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب؛ وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا ـ كما يزعم بعض الانهزاميين ـ أن نعد قوة كقوة العدو، وألا نقاتله حتى نماثله في القوة، فالمسألة توازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي (مهمّاً) وهو كذلك؛ فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني (أهمُّ) وأوْلى. فمن المسلّم به أن المقدمات إذا صحّت، أعقبها نتائج مثمرة بإذن الله.
والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب؛ وإلا فما كان لموسى أن يصارع فرعون، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين، ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه أن يقاتلوا قريشاً والقبائل العربية وفارس والروم. ولولا الخيانات لما سقط (العراق) حتى وإن تفوَّق الأعداء في العدد والعدة، وبالرغم من تلك القوة القاهرة؛ فإن المقاومة العراقية ما زالت صامدة ثابتة، ولو تمكنت من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي يمتلكها العدو لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم. قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
ومن يستقرئ التاريخ يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل؛ فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم أو أقوى عدداً وعدة منهم.
بنو إسرائيل، كانوا يعيشون في مصر، وكانت بالنسبة لهم بيئة قاتمة خانقة، قد أطبقت عليهم كل الإطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب؛ فهم يعيشون في حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد وعدة، وفقر وذلة، وفي ظل هذه الظروف يولد موسى ـ عليه السلام ـ وولادته وحياته كلها تحدٍٍّ لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء: أراد فرعون ألا يولد فوُلد، وأراد ألا يعيش فعاش. يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ عند عدو قاهر، وسُخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي؛ فيجد الضيافة الكريمة، ويزوجونه إحدى بناتهم، ويرجع بأهله فيلفُّه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها، فيجد نوراً يسعد به بنو إسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها، ويكرم بالنبوة والرسالة، ويدخل على فرعون في أُبهته وسلطانه، وفي ملئه وأعوانه. وهكذا يهلك فرعون وقومه (الأغنياء الأقوياء) ويملك بنو إسرائيل (الضعفاء الفقراء) : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] .
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي (القوة) التي قهر بها موسى (أعظم قوة) في عصره ومصره؟! وما سر انتصار بني إسرائيل على أعدائهم؟! وما (سلاحهم) الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر (1) ؟
وماذا لو كان موسى ـ عليه السلام ـ يفكر تفكير كثير من المسلمين اليوم، ويستعرض الإمكانات والقوة التي يملكها هو وقومه، ويوازنها بما يملكه فرعون وجنده، بنظرة مادية محضة، هل كان سيواجه فرعون ويدخل معه في حرب لا هوادة فيها؟!
ومثال آخر: أرجو أيضاً أن يكون في ذكره ما يبدد اليأس ويزرع الأمل والثقة:
فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات، السياسية والعقدية والاجتماعية والسلوكية والحربية.
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون حتى في المنام بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً على الانتصار عليها، حتى إن فارس والروم (الدول العظمى في ذلك الوقت) لم تفكرا مجرد تفكير في فتح الجزيرة والاستيلاء عليها، وذلك لقلة خيراتها ومواردها، وهوان أهلها عليهم.
ولكن الله ـ تعالى ـ امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً -صلى الله عليه وسلم -، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون، بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية؛ فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم.
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله.
لماذا سموه لغزاً؟
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد، والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد.
أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً وعدة: بدر ـ أحد ـ الأحزاب ـ المريسيع ـ مؤتة ... إلخ، عدا معركة واحدة، كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلن تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم ـ ومن بعدهم إلى قيام الساعة ـ أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم، ولا بقوتهم، وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.
أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن بعضهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمح ولا سيف ولا مركب {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92] (1) . ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.
فما هي القوة التي قهر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم (فارس والروم) تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟
والجواب: ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل؛ فنحن معشر المسلمين نعرف أن الإيمان هو السبب الذي عز به المسلمون وسادوا.
وتصوروا ماذا لو كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يملكونه بما يملكه أعداؤهم من القوة المادية فحسب؟ وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت: لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟
لو قالوا مثل ذلك، فهل كانوا سيُخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟
ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا، وذلها، وهوانها، وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً وتقنياً وحربياً وعسكرياً ـ وإن كان لذلك أثر ولا شك ـ إلا أن السبب ـ الرئيس ـ لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها في النواحي العلمية وغيره من المجالات إلا أعراض للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً» (2) .
ولذا فإنه لا مخرج من الحالة المتردية والأوضاع المأساوية التي تعيشها أمتنا، إلا بالرجوع إلى هذا الدين القويم.
الهزيمة النفسية داء عضال لم يتسلط على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
وأمتنا اليوم لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطّمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان؛ حيث ألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق للعدو ما أراد من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة نفسياً ومن ثَم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
- حتى لا نيأس:
في عصور مضت دانت القوة والغلبة للأمة الإسلامية واستمرت قروناً طويلة، وحينما بدأ المسلمون بالتخلي عن دينهم بدأ الضعف يدب في أوصالهم حتى دانت القوة والغلبة لغيرهم.
وحينما استكملت أمريكا أسباب النصر من القوة وإقامة العدل وأداء الحقوق وعدم الظلم لرعاياها؛ دانت لهم القوة حسب سنن الله الجارية في التمكين والاستخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة» (3) .
واليوم بدأت تتعالى الأصوات وترتفع من عقلاء أمريكا قبل غيرهم، محذرين من السقوط والزوال، بعد أن فقدت أمريكا تلك الخاصية، وأصبح الظلم والإرهاب والاستبداد وانتهاك حقوق الآخرين والجور والغطرسة، سمة من أهم سماتها. وستسقط حتماً كل دولة تجعل من الظلم والاستبداد والقهر والإرهاب منهجاً لها ومبدأً من مبادئها، فالكون يسير حسب نواميس شرعية ووفق سنن جارية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .
وليس المهم متى سيحدث ذلك؛ إنما المهم أنه سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، والذي أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، قادر على أن يهلك مَنْ دونهم، وأن يسلط عليهم جنداً من جنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ، وأمتنا متى استكملت أسباب النصر والتمكين فإنها حتماً ستعود قوية عزيزة، في هذا الجيل أو الذي بعده، والنصر والتمكين ليس شرطاً أن يراه الداعية بعينه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم - وعد بفتح فارس والشام واليمن، ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين. فدعوة الله لا بد أن تعلو، ودين الله لا بد أن ينتصر ويسود، ولا نقول هذا جُزافاً؛ وإنما هو عقيدة نستقيها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم -.
- المد والجزر في تاريخ المسلمين:
أقول هذا بعد أن بلغ اليأس والقنوط والإحباط ـ من عودة هذه الأمة إلى مجدها ـ منتهاه عند قطاع عريض من المسلمين، ونسوا أن ما تمر به الأمة من ضعف، إنما هو مرحلة سبق أن مر بها ما هو أشد ضراوة وأعنف شراسة؛ فقد تعرضت من قبل وعلى امتداد تاريخها الطويل لمحاولات عديدة للقضاء عليها واستئصال شأفتها وإبعادها عن دينها ومصدر عزها، ولكنها في كل مرة كانت تقوم من جديد، بعزيمة أقوى وشكيمة أشد، ومن يستقرئ تاريخ أمتنا، يجد أنه كان بين مد وجزر؛ فمتى كانت الأمة قوية بدينها وحققت أسباب النصر عزّت وسادت، ومتى ضعف تمسكها به ذلّت واستكانت، وإليك مصداق ذلك:
- قبل وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، كانت الأمة في عز وسؤدد، وقوة ومنعة، وحينما توفي -صلى الله عليه وسلم -، مرت الأمة بأزمة عصيبة، ومرحلة خطيرة؛ حيث عَظُمَ الخطب، واشتد الكرب، وظهر مدّعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، وارتد من ارتد من العرب، حتى إنه لم يبق للجمعة مقام في بلد سوى في مكة والمدينة، وأصبح حال المسلمين كما يقول عروة ـ رضي الله عنه ـ: «كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم» حتى وُجد من المسلمين من بلغ به اليأس أن قال لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «إن هؤلاء جُل المسلمين والعرب على ما ترى قد انقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين» (1) .
في ظل تلك الأوضاع، واليأس قد بلغ منتهاه، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة مرة أخرى؟!
ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يعتره اليأس، ولم يتملكه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث، وهذه البلبلة، وهذه النكبات، بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم، حتى ثبت وحارب مدعي النبوة والمرتدين، وأعاد للمسلمين قوتهم، وللخلافة هيبتها، ولليائسين تفاؤلهم.
وفي القرن الرابع الهجري من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة، حينما قام القرامطة في عام 417هـ باستباحة مكة يوم التروية! «حيث نهبوا أموال الحجاج، وقتلوا في رحابها وشعابها وفي المسجد الحرام بل وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة، والرجال تُصرع من حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام وفي الشهر الحرام وفي يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، وقال: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم (اثنتين وعشرين) سنة» (2) .
وتأمل أي ذلة ومهانة كانت تعصف بالمسلمين في ذلك الوقت: الحجر الأسود يُقلع من مكانه الطاهر، ويُحمل إلى بلد القرامطة ويمضي عندهم اثنين وعشرين عاماً قبل أن يعيدوه بأنفسهم، والأمة الإسلامية كلها لا تستطيع أن تجتمع لاسترداد حجرها الأسود!
وبعد هذه الحادثة المأساوية، التي لم تتكرر في تاريخ الإسلام والمسلمين، قل لي بربك: هل من مجال للمقارنة بين ما مر على المسلمين في ذلك العصر من الضعف والذل والمهانة، وما نمر به في هذا الوقت من أزمات؟
ومع ذلك فقد عاد المسلمون مرة أخرى، ونهضوا من كبوتهم وصحوا من غفوتهم، وعادوا كأقوى ما يكونون.
- وفي أواخر القرن الخامس الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا بأسرها على الخلافة الإسلامية، في تسع حملات صليبية شرسة، فقتلوا وطمسوا معالم الحضارة، واستعملوا جميع مظاهر الاضطهاد والعنف، واستولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وأُغلق المسجد الأقصى ولم تُقم فيه جمعة ولا جماعة، ووضعت الصلبان فوقه ما يقارب (قرناً) من الزمان، حتى ظن كثير من المسلمين في ذلك الوقت، ألاَّ أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألاَّ رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد أكثر من (سبعين ألفاً) .
في ظل هذه الظروف، من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل (صلاح الدين الأيوبي) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العزة والقوة والسيادة ما شرّف التاريخ الإنساني.
ومرة أخرى.. لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا من رحمة الله؛ فقد عادوا ونهضوا من كبوتهم، واستردوا المسجد الأقصى بعد أن رفع النصارى الصلبان فوقه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه أو مجرد دخوله قرابة (قرن) من الزمان. بينما يصاب اليوم كثير من المسلمين باليأس والقنوط وفقد الأمل بالكلية من مجرد التفكير في إمكانية استرداد المسجد الأقصى مرة أخرى رغم أنه لم يمض على احتلاله سوى سنوات معدودة.
وإذا كان المسلمون في ذلك الوقت ـ وحالهم كانت أشد مرارة من حالنا ـ قد نهضوا بعد تلك الكبوة؛ فالأمة اليوم قادرة بعون الله تعالى، ثم بالجهود المنتظرة من أهل الصلاح والإصلاح، أن تعود من جديد؛ وإرهاصاتُ ذلك تبدو في الأفق واضحة جلية بعون الله تعالى.
- وفي القرن السابع الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة، لما خرّب المغول العالم الإسلامي، ونهبوا الأموال، وداسوا القِيَم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً، حتى قيل إن جبالاً وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين؛ حيث كانوا في غاية الهمجية والوحشية، فكانوا يقتلون كل من يقابلهم دون تفرقة، فقتلوا العلماء والمشايخ والكهول والنساء والولدان، وأحرقوا المساجد ودور الكتب، وحطموا كثيراً من معالم الحضارة الإسلامية. وقد ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ عدد قتلى المسلمين إثر ذلك الغزو فقال: «وقد اختلف الناس في كمية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس» (1) .
وبلغ من شدة الحدث، أن المؤرخ ابن الأثير ـ رحمه الله ـ قال: «لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أُقدّم إليه رجلاً وأُؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهَل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً» (2) .
من كان يظن أن بلاد الإسلام ـ بعد هذا ـ ستقوم لها قائمة، أو أنها ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل المقدام (قطز) في معركة عين جالوت الحاسمة، ويعود المسلمون إلى سابق عهدهم (3) .
ومرة أخرى.. هل من مجال للمقارنة بين ما حصل للمسلمين في ذلك الوقت من القتل والإيذاء والتنكيل، بتلك الصورة وتلك الوحشية وتلك الشراسة وذلك العدد الكبير من القتلى، وبين ما يحصل للمسلمين في هذا الوقت!
ومع ذلك كله فقد نهضوا من كبوتهم وصححوا خطأهم وعادوا إلى ربهم، فبنوا حضارتهم وواصلوا مسيرة فتوحاتهم بكل قوة وثبات.
ومن عجائب التاريخ وفرائده، أنه مع هزيمة الأمة في ذلك الوقت عسكرياً، إلا أنها لم تُهزم نفسياً؛ فقد ظل كثير من المسلمين معتزين بدينهم مستمسكين به، لدرجة أنهم أثَّروا بالغالب ولم يؤثر بهم، على خلاف العادة؛ إذ جرت أن المغلوب مجبول على التأثر بالغالب، إلا أن الذي حصل هو عكس ما جرت عليه تلك العادة، فدخل الغالب بدين المغلوب، وهذا من غرائب التاريخ الإنساني. وفي هذا دلالة على أن الأمة وإن هُزمت عسكرياً إلا أن كثيراً منهم لم ينهزموا نفسياً، ولم يفقدوا الأمل، ولم يصابوا باليأس والإحباط كما أصيب به كثير من المسلمين اليوم. فقد صحا أبناء ذلك الجيل من غفلتهم واستيقظوا من غفوتهم، وعادوا إلى دينهم فعاد لهم العز والتمكين مرة أخرى، بعد معركة عين جالوت المشهورة.
- وفي القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، من كان يظن أن الإسلام سيعود من جديد، وقد أُصيب المسلمون بعدة طعنات لو وُجهت لغيره من الأديان لذاب واندرس؛ ففي ذلك القرن: سقطت دولة الخلافة الإسلامية على يد الهالك أتاتورك، وأصبح يُنادَى بالعصبية والقومية، واستُعمرت الدول الإسلامية وقُسمت بين دول الغرب، وعمت البلوى والافتنان بالحضارة الغربية حتى أصبح المثقفون ينادون بضرورة اللحاق بركب تلك الحضارة والانضواء تحت لوائها بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحمد منها وما يُعاب. أما العقائد فقد أصبحت الطرق الصوفية هي السائدة حتى عم الظلام والجهل والبدع والخرافات لا أقول بعض أوطان المسلمين، بل معظمها، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وغابت معظم معالمه التشريعية حتى كاد يندرس في معظم البلدان الإسلامية، وبلغ اليأس منتهاه في إمكانية عودة الإسلام من جديد لدى البقية الباقية من المستمسكين به، بل ظن كثير منهم أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخرى.
ولكن الله ـ تعالى ـ بعث هذه الأمة من جديد، وبدأ الناس يعودون إلى دين الله أفواجاً، وبدأت الأمة تنهض بعد الغفلة، نرى ذلك ونلمس مظاهره في جوانب كثيرة ومجالات عديدة بحمد الله تعالى.
- من بشائر النصر:
إن مما يسر الخاطر ويفرح القلب ويُقوي الأمل في إمكانية عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، ما نراه من الآثار الملموسة للصحوة التي بدأت تؤتي أُكلها ونتنفس ثمرها ونستنشق عبيرها.
هذه الصحوة نتاج طبيعي لإخفاقات متكررة وهزائم متتابعة عاشتها الأمة، ولذا فقد ولدت وترعرعت وهي متعطشة لعز الإسلام وتمكينه، بعد أن جُربت جميع الشعارات الرنانة ولم تفرز إلا النكسات المتعددة، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب.
وقد كانت هزيمة أو نكسة يونيو 1967م، بداية تحول كبير في عقول كثير من شباب الأمة الإسلامية؛ حيث تركت تلك الهزيمة آثاراً موجعة في نفوس ما لبثت أن تجلت على شكل صحوة عارمة بين طلبة الجامعات، ثم امتدت وبسرعة لتعبر عن نفسها في مظاهر كثيرة ومجالات عديدة بين جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
وما تزال إيجابيات هذه الصحوة قائمة ملموسة، تنمو وتزداد مع تقادم الأيام والسنين؛ فقد فرضت نفسها على الأحداث العالمية برمتها، وأصبحت همّاً عالمياً، تُفرِح الأصدقاء وتؤرق الأعداء، وتُقام من أجلها المؤتمرات، وتُعقد بسببها اللقاءات، ما بين محب يسعى لإصلاحها وتقويمها، وكاره يخطط لوأدها وإجهاضها؛ فهي أكبر مشروع حضاري نهضوي في العالم المعاصر، وإن كانت ثمراتها ظاهرة ملموسة، إلا أنها حتماً ستؤتي أُكلها وسيتم جني ثمرها بصورة أكبر في القادم من الأجيال اللاحقة بإذن الله تعالى.
ولعل من أهم مظاهر ثمراتها ما نراه من العودة الجماعية لهذا الدين، حيث عمّت بفضل الله ـ تعالى ـ الصحوة ربوع العالم الإسلامي كله، بل تجاوزت إلى ربوع المعمورة، حتى أصبحت الكنائس تُشترى وتُحوّل إلى مساجد للعبادة.
وأصبحنا نرى ونسمع عن مكتسبات ومستجدات ما كان أحد يظنها قبل بضع سنوات، من انتشار الوسائل الدعوية التربوية المختلفة من فضائيات وصحف ومجلات إسلامية، أصبحت تتكاثر وتتوالد بكثرة العائدين إلى الله.
وهذه الأمة ما تزال حُبلى بالمبشرات، وهي قادرة بعون الله ـ تعالى ـ على النهوض والعودة من جديد إلى سابق عزها ومجدها، ولعل مما يُبشر بذلك:
- تتابع سقوط الشعارات والحركات والنقابات والأحزاب غير الإسلامية، وثقة الناس في المقابل بالأحزاب والمنظمات والحكومات الإسلامية.
- ظهور أطفال الحجارة في فلسطين والعراق والفلبين وكشمير، والشيشان، وأفغانستان وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة وهم يحملون المصحف في يد والبندقية في اليد الأخرى.
- صمود المقاومة العراقية واستمرار ثباتها، بل وتجدد قوتها شهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى، ولولا الخيانات وخذلان الأصحاب لما سقطت العراق ـ ابتداء ـ بهذه السهولة حتى وإن تفوقت أمريكا في العدد والعدة، ولو تمكنت المقاومة من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي تمتلكها أمريكا لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم.
- ولعل من أهم المبشرات التي تدل دلالة واضحة على صحوة هذه الأمة، تنامي العمل الإسلامي في معظم دول العالم وقيامه بدور بارز في نشر رسالته، وهو الأمر الذي جعل حكومات العالم تقف أمامه بقوة للحد منه ومحاولة تجفيف منابعه بدعوى محاربة الإرهاب. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
[الصف: 8 - 9] .
والبشائر بحمد الله كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها أو حصر مظاهرها، وإنما هي أمثلة ونماذج تحيي الأمل وتدفع اليأس؛ فالأمة معطاء، والفأل مطلوب، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، والثقة بالله ـ تعالى ـ هي مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان.
وما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة، ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها ومصدر عزها ومجدها. فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر.