عبد العزيز بن ناصر الجليل
قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
والآيات من كتاب الله ـ عز وجل ـ في ذكر مثل هذه السنن الربانية كثيرة جداً؛ وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم، وإنه لمن الواجب على دعاة الحق والمجاهدين حقاً في سبيل الله ـ تعالى ـ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله ـ عز وجل ـ وما تضمن من الهدى والنور، ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء. وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدي الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ الذين هم أعرف الناس بالله ـ سبحانه ـ وبأسمائه وصفاته، ومن ثَم فهم أعرف بسننه ـ سبحانه ـ وأيامه، وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها، وما ضل من ضل إلا بسبب الإعراض عن كتاب الله ـ عز وجل ـ وما فيه من الهدي والنور. يقول الدكتور محمد السلمي ـ حفظه الله ـ: «التاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها والنجاة منها؛ حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابةً في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق» (?) .
وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية؛ فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله ـ عز وجل ـ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها في العراق وفلسطين وأفغانستان، والشيشان وما صاحبها من فتن ومواقف، وسأقتصر على ذكر ثلاث من هذه السنن التي رأيت أن لها مساساً بهذه الأحداث المعاصرة:
ü السُّنة الأولى: سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل:
يقول الله ـ عز وجل ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
ويقول ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .
وعن عياض بن حمار المُجاشِعي؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدَعوه خبزةً؛ قال: استخرجْهم كما استخرجوك، واغزُهم نغرك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك» (?) .
ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على أنه منذ أن اجتالت الشياطين بني آدم عن دينهم، وظهر الشرك والكفر، وظهر تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ منذ ذلك والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سُنَّة إلهية لا تتخلف؛ ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك، وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى رحمة الله وفضله، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين؛ ولذلك ختم الله ـ عز وجل ـ آية المدافعة في سورة البقرة بقوله ـ سبحانه ـ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ؛ حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس، بل قيَّض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السُّنَّة ـ أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه» (?) .
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة؛ وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لا يكاد يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك مما يوجب نصرتهم ما أمكن ذلك قال الله ـ تعالى ـ: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .
هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصادياً وثقافياً، وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير؛ فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
فقد تقرر فيما سبق من الكلام إن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها؛ فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يُخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله ـ عز وجل ـ ورسوله والجهاد في سبيله تعالى، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .
هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال؛ فما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة، والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟
فلقد قال الله ـ عز وجل ـ آمراً نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم - في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال؛ وذلك في سورة الفرقان؛ حيث يقول الله ـ عز وجل ـ: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغاية ما يمكن» . ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسب علمه وقدرته. يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولله ـ سبحانه ـ على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوَّى بين عباده فيها:
فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
ومَنْ له خبرة بما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المُتحزِّن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتذبَّل (*) وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلُوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل» (?) .
ü السُّنة الثانية: سُنة الابتلاء والتمحيص:
قال الله ـ عز وجل ـ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] . وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 179] .
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عن الآية الأخيرة: «أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر» (?) .
ويقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: «ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله ـ سبحانه ـ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دَخَل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله ـ سبحانه ـ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة» (?) .
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم ـ وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وما صاحب ذلك من التداعيات، أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين ـ أقول: بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنَّة الربانية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها ـ سبحانه وتعالى ـ لتؤتي أكلها الذي أراده الله ـ عز وجل ـ منها؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وقبل هذا التمحيص والتمييز؛ فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله ـ عز وجل ـ عباده المؤمنين لن تتحقق. هكذا أراد الله ـ عز وجل ـ وحكم في سننه التي لا تتبدل: أنَّ محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «أيها أفضل للرجل: أن يُمَكَّن أو يُبتلَى؟ كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله ـ عز وجل ـ أن قال: «لا يُمَكَّن حتى يُبتلَى» ، ولعله فَهِم ذلك من قوله ـ تعالى ـ: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] .
وللدلالة والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السُّنَّة ـ أعني سُنَّة الابتلاء والتمحيص ـ في خِضَمِّ هذه الفتن المتلاطمة، ولم يكن لهذه المواقف أن تُعرف ويُعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السُّنَّة وبداية الابتلاء؛ فكيف يكون الحال في آخر الأمر؟ نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن. وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها، أو المبادرة بالخروج منها لمن وقع فيها.
الموقف الأول: موقف المنافقين والمرجفين:
لم يعد خافياً على أحد ما تطرحه وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله ـ عز وجل ـ أو من الناس؛ وذلك في ما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله ـ عز وجل ـ وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم -، والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود الدلالة على أن سنة الله ـ عز وجل ـ في الابتلاء والتمحيص تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين كما فضح الله ـ عز وجل ـ إخوانهم وسلفهم في عزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزة تبوك التي أنزل الله ـ عز وجل ـ فيها سورة كاملة هي سورة التوبة التي من أسمائها (الفاضحة) ؛ لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحِكَم العظيمة، والفوائد الجليلة لسُنَّة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم؛ فإنهم يشكلون خطراً وتضليلاً للأمة، أمّا إذا عُرفوا وفُضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل، ويتهيؤون لنصر الله ـ عز وجل ـ وتأييده.
الموقف الثاني: موقف اليائسين والمحبَطين والخائفين:
لما كشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف؛ وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر؛ عند ذلك سيطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات، فشكَّت في ظهور هذا الدين، واهتز يقينها بوعد الله ـ تعالى ـ بنصرة دينه، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم ويُخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء. وفئة أخرى لم يساورها الشك في دين الله ـ تعالى ـ بنصرة أوليائه، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان؛ حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافئهم مع عدوهم؛ وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئاً، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم، والحل عند هؤلاء: الاستسلام للواقع وانتظار معجزة ربانية من الله ـ عز وجل ـ كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا يخفى ما في هذا التصور من الانحراف والشطط، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة والجهاد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء.
وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتُعرف لولا سُنَّة الابتلاء والتمحيص؛ وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف، وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلَّهم أن يراجعوا أنفسهم ويُقلِعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السُّنَّة، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها. قال الله ـ تعالى ـ في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] .
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم - لما تحزبت عليهم الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا}
[الأحزاب: 22] .
الموقف الثالث: موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط:
وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة، فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك، بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة: الأصولية، وتارة: المتشددين، وتارة: الإرهابيين؛ والخطير في الأمر في هذه المواقف أنها تغطَّى بشَبَه شرعية، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا مواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع، ولا ملتزمة بمقاصده؛ كاستدلالهم مثلاً بالضرورة وأحكامها، وقواعد التيسير ورفع الحرج، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصلها لكنها فاسدة في تطبيقها (?) .
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالاعتدال أو الوسطية. وهذه المواقف ما كانت لتُعرف لولا سُنَّة الابتلاء التي تمحص وتميز الصفوف ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقاً، لكنه ـ سبحانه ـ يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص، وصدق الله العظيم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] .
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غريباً بين الناس، ووصفه بأنه كالقابض على الجمر؛ وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولو العزم من المؤمنين الصابرين؛ قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس» (?) .
وقال -صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» .
ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيراً من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة التي يحاول أصحابها أن يتشبثوا في الاقتناع بها بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب، بل تعدتها إلى أصول العقيدة وأركانها، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودها، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه. والمقصود أن سُنَّة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف ولله ـ عز وجل ـ الحكمة في ذلك؛ لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها؛ كما أن فيها خيراً أيضاً لغيرهم حتى يحذروها ويحذِّروا منها.
الموقف الرابع: موقف المتعجلين المغيِّرين بالقوة:
وهذا الموقف يقابل الموقف السابق؛ فبينما ينحو الموقف السابق إلى التنازل عن بعض الثوابت والتعلق ببعض الشبهات والشذوذات، يذهب أصحاب هذا الموقف إلى الطرف المقابل؛ حيث لم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات توجه للمسلمين في دينهم وأعراضهم وعقولهم، ورأوا أن الموقف إزاء مثل هذه الابتلاءات هو المواجهة المسلحة دون أن ينظروا إلى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة، ودون أن ينظروا إلى واقعية المصالح التي يسعى لتحقيقها، فنشأ من جراء ذلك أضرار عظيمة عليهم وعلى الدعوة وأهلها في المحيط الذي تدور فيه هذه المواجهات.
وهنا أود التنبيه إلى أنه ليس المعنى في هذه المواقف تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين وديارهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها ممن يقوم بجهاد الدفع عن ديار المسلمين المحتلة، وإنما المعني هنا أولئك الذين يرون المواجهة المسلحة في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك، مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجهٍ مع إخوانهم المسلمين، فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً، كما هو حاصل في الجزائر وما قد حصل في بعض البلدان العربية أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في العراق وأفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس والوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار.
ü السُّنة الثالثة: سُنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين:
قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183] .
وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات؛ وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق؛ وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً، ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان أمريكا؛ حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: «من أشد منا قوة» . وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله ـ عز وجل ـ ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم أمريكا وحلفاؤها هم الآن يعيشون سُنَّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم. قال ـ تعالى ـ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] .
والله ـ عز وجل ـ لا يستجيب لعجلة المستعجلين، بل له الحكمة البالغة والسنَّة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله ـ تعالى ـ لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه الآية السابقة الذكر من سورة آل عمران: «وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله ـ حاشاه ـ يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان، أو يحسبون أن الله ـ سبحانه ـ لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته، أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلِمَ تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر، ثم يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يلجُّون في عتوهم ويسارعون في كفرهم، ويلجُّون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!
وهذا كله وَهْمٌ باطل، وظنٌّ بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وها هو ذا الله ـ سبحانه وتعالى ـ يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه؛ إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة، وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه، فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة ـ غمرة النعمة والسلطان ـ بالابتلاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير؛ فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم ـ ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء ـ فهناك الحكمة المغيَّبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين» .
ومن حكمة الله ـ عز وجل ـ في سُنَّة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم، وقد بدت بوادر المحق في الأمريكان الكفرة وحلفائهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم، ولكن الله ـ عز وجل ـ بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته ـ سبحانه ـ في القوم الكافرين، كما أن من حكمته ـ سبحانه ـ في إملاء الكافرين وظلمهم وتسلطهم على المسلمين تحقيق للسنَّة التي سبق الحديث عنها ألا وهي سُنَّة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين.
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سنَّة الابتلاء أُكُلَها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحصاً عندئذ تكون سُنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها فيحق القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم ـ عز وجل ـ في الأرض ويخلفون في الأرض بعد محق الكافرين.
قال ـ تعالى ـ: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] .
فذكر الله ـ سبحانه ـ التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟ إن الله ـ عز وجل ـ حكيم عليم وما كان ـ سبحانه ـ ليحابي أحداً في سننه ولله ـ عز وجل ـ الحكمة في وضع السُّنَّتين: سنة الابتلاء، وسنة الإملاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران. قال ـ تعالى ـ:
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 179] .
ولعل من الحكمة ـ والله أعلم ـ أن يُعلمنا الله ـ عز وجل ـ أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان، وأن إحداهما تهيئ للأخرى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.