مجله البيان (صفحة 5450)

وقفة على أطلال نيو أورلينز

حكمة الله تتجلى في أقداره

إعداد: المكتب العلمي

إشراف أ. د. ناصر بن سليمان العمر

الحمد لله على ما قضى وقدر، والشكر له على ما امتن به وتفضل، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين، وبعد:

فإن من جملة اعتقاد أهل السنة أن الله يقدِّر ويقضي ما شاءه وأراده، وأن مشيئته وإرادته تعلق بها محبته ورضاه في الأقضية والأقدار الشرعية، لا الكونية التي لا تستلزم الرضا والمحبة.

فالله ـ عز وجل ـ يحب طاعة الطائعين التي قدَّر وقوعها كوناً وشاءها وأحبها شرعاً، فطاعة العبد تحصل بمشيئة شرعية أحبها الله ورضيها، كما أن الله ـ سبحانه ـ يبغض معصية العاصين التي قضاها كوناً وشاء وقوعها قدراً مع أنها غير محبوبة في ذاتها ولكن اقتضت حِكَمه العظام وقوعها، فجرى بها القلم في الأزل لعلم الله التام باختيار خلقه، ولا يظلم ربك أحداً.

وبناء على هذا التفصيل والتفريق من حيث الحب والبغض بين القدر الكوني والقدر الشرعي، انقسم حكم الرضا بالقدر عند المحققين من أهل العلم إلى: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحرم. فتقدير المعايب والذنوب ونحوهما مما لا يحبه الله ويرضاه، ولكن شاء وقوعه لحِكَم خارجة عنها، ينبغي أن لا يرضى بها العبد، بل عليه أن يتسخَّطها (?) .

فالله ـ عز وجل ـ قد يشاء ما لا يحبه كمشيئته وجود إبليس وجنده، وقد يحب ما قد لا يشاء كونه كإيمان الكفار وطاعات الفجار؛ فليس بين المحبة والمشيئة الكونية تلازم؛ ولكن ما شاء الله كونه كان.

وإذا تقرر هذا فالرضا بالقضاء أنواع:

- أما القضاء الشرعي الديني المحبوب إلى الله ـ عز وجل ـ: فالرضا به واجب وهو أساس الإسلام كما قال ـ سبحانه ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

- وأما القضاء الكوني القدري الموافق لهوى العبد: فالرضا به لازم؛ لأنه ملائم للعبد محبَّب لديه، وليس في هذا الرضا عبودية، وإنما العبودية في مقابلته بالشكر، والاعتراف بالمنة، ووضع النعمة في موضعها.

- وأما القضاء الكوني المخالف لهوى العبد فهو قسمان:

1 - قسم يقع بغير اختيار العبد كالمرض والفقر وأذى الناس؛ فالرضا بهذا مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان.

2 - قسم يقع باختيار العبد مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه شرعاً؛ فهذا لا يجوز الرضا به ولا محبته ولا الصبر عليه، بل عكس ذلك هو الواجب.

وإذا تقرر هذا فإن الحادثة المقضية، قد يكتنف الرضا بها أكثر من قسم باعتبارات أو متعلقات مختلفة. وقد يجتمع فيها السرور والحزن كلٌّ من وجه، ومثل هذا يقع كثيراً في عامة الكوارث التي تصيب القرى والمدن والبلدان، فقلَّ أن تخلو أرض من مسلم، أو من صغار وأطفال سبق في علم الله تيسُّرهم لليسرى، وقد يكون بها رجل ربما لم تبلغه الرسالة. وإن كان عامة أهلها ـ في الغالب ـ مأخوذون بذنبهم في الدنيا. والحديث هنا لا يتوجه إلى ما يتوجب تجاه مصاب هذا الصنف الأخير، ولا سيما أهل البغي والعدوان منهم، ولكنه منصبٌّ على مصاب الأصناف الأولى التي تشمل المسلم والصغير ونحوهم.

فقد يبدو لبعض الجَهَلَة مُتَسَخِّطَةِ الأقدار أن أخذ الأطفال والصغار وغيرهم بجريرة الكبار ظلم صنعته يد الطبيعة الغادرة؛ ولعل سبب هذا الظن السيئ غفلتهم عن الحِكَم العظام التي لا تخلو منها مثل تلك الأقدار؛ ولغفلتهم عنها لا تتسع عقولهم لها فيتساءلون: كيف يريد الله ـ سبحانه ـ حصول أمر لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاء وقوعه؟ وكيف تجتمع إرادة الله له مع بغضه لأذى المؤمنين والمعذورين وذلك من مقتضى رحمته وعدله؟

وجواب هذا الإشكال تنكشف به بعض الحِكَم العظيمة في تقدير بعض الأقدار والتي منها مثل إعصار (كاترينا) الأخير، الذي اجتاح (نيو أورلينز) فأهلك أمة، وأضر بآخرين.

وخلاصة الجواب على هذا الإشكال أن يقال: المراد نوعان: مراد لنفسه مطلوب ومحبوب لذاته، لما فيه من الخير. ونوع آخر: مراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، ولكن بالنظر إلى إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الحب والبغض، ولا يتنافيان لاختلاف ما تعلق به كل منهما، فهو بمثابة الدواء المر الذي فيه شفاء، وبمثابة بتر عضو ميت لبقاء سائر الأعضاء.

ومن أمثلة ذلك تقدير الله لكون مثل هذه الفيضانات التي تتسبب في إهلاك الحرث والنسل والأنفس، مع أن الله لا يحب الفساد.

فقد اقتضى عدله وحكمته ـ سبحانه وتعالى ـ وقوعه، وقد يدرك البشر بعض تلك الحِكَم، وقد يغيب عنهم أكثرها، وقد يجهلون لجهلم بالغيب والمستقبل معظمها؛ فعلوم البشر قاصرة كما قال الله ـ سبحانه ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً}

[الإسراء: 85] .

ولعل من الحكم الظاهرة في تقدير أمثال تلك الظواهر الكونية أمور منها:

أولاً: إظهار آية كونية مرئية يخوِّف الله بها عباده حتى يرجعوا للآيات السمعية التي جاءت بها الرسل؛ فكم من إنسان يرى آحاد الناس من حوله يُتخطفون ولا يعتبر، ويقرأ آيات القرآن فلا يدَّكِر؛ فلما رأى هذه الآية قال بلسان الحال أو المقال: {لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .

وَفي شِدَّةِ الدَهرِ اِعتِبارٌ لِعاقِلٍ وَفي لَذَّةِ الدُنيا غُرورٌ لِواثِقِ

وهكذا قد تكون هذه الكارثة سبباً في اتعاظ العقلاء واعتبارهم، سواء أولئك الذين عاصروها فخصهم الله بالنجاة من بين ألوف أهلكهم.

أو أولئك الذين سمعوا بها ورأوا المَثُلات وهم في منأى عنها. وقد قيل: رب ضارة نافعة، ومصائب قوم عند قوم فوائد.

فهذه الآية قد تكون عبرة لأولي الألباب، وأصحاب العقول فيدَّكر بها قوم، وبالمقابل يحق بها العذاب على آخرين لا يعتبرون ولا يتعظون ولا يرعوون.

والسؤال الذي يطرح نفسه بين أيدينا:

هل هذه المَثُلاتُ وهي روائعٌ فيها لنا عِظَةٌ وفصل خطابِ؟

ماذا نُعِدُّ لذودها عن حوضنا يكفي الدِعابُ فلات حين دعابِ!

أوَ يبقى بعدها عذر للغافلين في لهو باطل أو لعب محرم؟ {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] .

ثانياً: يُهلك الله بمثل هذه الأقدار أمماً من أهل مُحادَّته ومعصيته، وقد جرت سنته ـ سبحانه وتعالى ـ في الأمم الماضية بهذا، {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] ، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] ، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 - 15] ، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 96 - 98] ، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 8 - 10] .

فهذه الكوارث من تعجيل العقوبة بالذنب، ولا يظلم ربك أحداً. قال ـ سبحانه ـ: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] ، وقال ـ تبارك وتعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] ، وقال ـ عز في علاه ـ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

[يونس: 13 - 14] .

وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}

[القصص: 59] .

وقال ـ عز شأنه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وقال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] .

وهنا يرد سؤال يكرره بعض الجهال: إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا الكوارث تجتاح كافة البلدان، وقد رأينا كيف أصاب «التسونامي» قريباً أمماً فيهم المسلم، وفيهم المساكين والضعفاء، فهلك فيه أضعاف من هلكوا «بكاترينا» فكيف يقال إن تلك الكوارث عقوبات مقدرة؟ ثم إن أمم الغرب في الجملة أقل تعرضاً لمثل هذه الحوادث من الأمم الشرقية التي لم تعلُ عُلُوَّ الدول الغربية؛ فلماذا لا يحل بالغرب ما حل بأولئك إن كنتم صادقين؟ وحاصل هذا الاعتراض: ألا يرى الله أمم الكفر في الغرب؟ لماذا لا تحل بها المثُلات إذا كان ما حل بهؤلاء أخذاً لهم بذنوبهم؟

والجواب على هذا الاعتراض من ثلاثة طرق لكل طريق عدة أوجه: فأما الطريق الأول: فطريق التنزُّل على فرض التسليم بأن دول الغرب الكافر لم يحلَّ بها ما حل بأهل المشرق، والطريق الآخر: دفع للدعوى بالصدر؛ فمن قال بأن أمم الغرب الكافرة لم ينزل بها من العذاب ما نزل بأمم الشرق؟ وحاصل الطريق الثالث: أنه بصرف النظر عن الأمرين؛ فربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

وكل واحد من هذه الطرق يمكن تقريره بأوجه عدة، أقتصر هنا على ذكر واحد منها هو من أظهرها في تقديري.

أما الطريق الأولى: فلعل من أوجهها أن سنَّة الله جرت بإمهال المدن والقرى إلى أجل يقدره ربها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] ، وفي الصحيحين: «إن الله ـ عز وجل ـ يملي للظالم؛ فإذا أخذه لم يفلته» (?) ، وأمم الغرب أمم لا تزال فتية إذا ما قيست بأمم الشرق، سواء من حيث وجودها، أو من حيث بلوغ الرسالة لها. أما من حيث وجودها؛ فإذا نظرت في تاريخ نشوء الدول الأوروبية وجدته لا يقاس بما يروى ويذكر عن نشوء الحضارات في الأمم الشرقية، ومن المشهور أن قارة أمريكا كلها كان اكتشافها عام 1492م؛ بينما اجتاح المغول من أقصى المشرق العالم الإسلامي قبل ذلك التاريخ بنحو قرنين ونصف، ثم كان تأسيس الولايات المتحدة بعد اكتشاف القارة التي كانت نسياً منسياً بنحو ثلاثة قرون.

ومما يدل على حداثة نشوء تلك البلاد عموماً أن الرسالات السماوية التي جاءت بالديانات الكبرى والتي يملأ أتباعها الآفاق كان منشؤها بعيداً عن دول الغرب، في الأرض المباركة وجزيرة العرب وما تاخمهما؛ حيث عاش أبو البشر ـ عليه السلام ـ ابتداءً، وتتابع الأنبياء بعده، فقد ورد أن أول من بنى البيت الحرام آدم عليه السلام (?) ، ثم جدده إبراهيم -صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت تلك الرقعة وما جاورها أرض المعجزات النبوية، ومجال الرسالات السماوية، والحضارات القديمة؛ ففيها بلد سبأ، وسدُّ مأرب، وعرش عظيمٌ، وبئرٌ معطلة، وقصر مشيد، بل سائر بلاد عاد؛ إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمودُ الذين جابوا الصخر بالوادي، وأصحابُ الرس، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الأخدود، وقبر هود، ودعوة إبراهيم، وحجر صالح، ومدين شعيب، وأرض بابل، وبيت لحم، والخليل، والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله بكثرة من دُفن بجواره من الأنبياء، وهذا مؤشر يدل على حداثة الغرب بشكل عام، وصِبا أمريكا بشكل خاص، ولا سيما إذا ما قيست أعمارهم بأعمار البلاد المشرقية.

أما من حيث بلوغ الرسالة فقد ساد الإسلام الهند قبل اكتشاف قارة أمريكا بأسرها، بل بلغ الصين منذ قرن الإسلام الأول، ولعل هذا هو السبب في حمل بعض أهل العلم حديث ثوبان عند مسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ مُلك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» (?) ، على واقعه في القرن الخامس، فقال: «فكان كذلك؛ فقد بلغ ملكهم من أول المشرق: من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر، ولم يتسعوا في الجنوب ولا في الشمال ـ كما أخبر -صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء» ، بل قال النووي: «فيه إشارة إلى أن مُلك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب؛ وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب» (?) . «قال الخطابي: توهم بعض الناس أن (من) في (منها) للتبعيض، وليس ذلك كما توهمه، بل هي للتفصيل والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة، فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزءاً فجزءاً حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها. قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض» (?) ، وهذا النمط من توسع المد الإسلامي نمط طبيعي؛ فالإسلام انبثق من أرض الجزيرة ثم شرَّق وغرَّب، فدخل بلاد فارس وتعداها شرقاً، كما دخل بلاد أفريقيا وتعداها غرباً، ولعل من أسباب تأخره عن البلاد الأوروبية الطبيعة المناخية والجغرافية وما تتضمنه من مسطحات مائية تقصي جل القارة الأوروبية شيئاً ما؛ فضلاً عن الأمريكتين وأستراليا.

أما الطريق الثاني في رد اعتراض القائل بأن الذنوب في أمم الغرب الكافر أعظم وأكثر منها في دول المشرق، ومع ذلك لم يأخذهم الله بذنوبهم كما تزعمون، فبأن يقال: بل أخذهم! ولهذا الطريق أوجه كثيرة أيضاً تشهد له، وأقتصر كذلك على أظهرها، ولا أود البحث عن إحصائيات وأرقام تبين أن بعض تلك الأمم مهددة بالانقراض، لولا الهجرة، وفقاً لإحصائيات معدل نمو السكان، بل أكتفي بالتذكير بحقيقتين تاريخيتين ظاهرتين، وهما الحربان العالميتان: الأولى والثانية؛ فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م بين الدول الأوروبية لتحصد قرابة ثلاثين مليون نسمة ما بين عسكري ومدني جلهم من أوروبا، ثم نشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرت ست سنوات عجاف أهلكت ما يربو على أربعين مليون إنسان كان نصيب آسيا بما فيها الصين واليابان التي سقطت عليها قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أقل من أربعة ملايين، والبقية أوروبيون وأمريكيون.

وحتى لا يتوهم إنسان أن هذا الوجه يقضي على الوجه الأول في الرد بالبطلان وليس كذلك؛ أنبه إلى أن الأول ضَرْبٌ من التنزُّل مع المعارض في مقدمته ليستبين أن النتيجة التي بناها عليها باطلة، وهذا الوجه الثاني اعتراض على المقدمة نفسها.

أما الوجه الثالث في رد هذا الاعتراض فبأن يقال: الله خلق الخلق، وهو أعلم بما عملوا، وبما كانوا عاملين، يؤاخذ من شاء فيعجل له العقوبة بعدله، ويؤخرها لآخرين وفق حكمته وعلمه، ولا يستطيع أحد من البشر أن يقول: هؤلاء أجدر بالعذاب من هؤلاء وهم به أوْلى إلاّ إذا أحصى أعمال وأقوال واعتقادات هؤلاء وهؤلاء، ثم حكم أيها عن منهج الله أبعد، وإذا لم يكن هذا في طاقة البشر فليعترف الإنسان بجهله، وليُمسك عليه لسانه، وليسلم أمر الخلق لخالقهم الذي يعلم السر وأخفى.

وبعد هذا الاستطراد نعود إلى ذكر بعض الحِكَم التي تنطوي عليها مثل هذه الأحداث.

فمنها وهي الثالثة:

أن الله يكتب بها شهادة لأهل طاعته، ومحبته فيرفع بها درجاتهم، ويعلي بها منازلهم. روى الإمام البخاري حديث مالك في الجهاد وعقد له باباً: (الشهادة سبع سوى القتل) ثم ساقه بسنده إلى أبي هريرة: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والمقتول في سبيل الله» (?) ، بل روى أبو داود في سننه عن أم حرام عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والغَرِق له أجر شهيدين» (?) ، قال المناوي: قال المظهر: هذا إن ركبه لنحو طاعة كغزو وحج وطلب علم وكذا التجارة ولا طريق له غيره، وقصد طلب القوت لا زيادة ماله» (?) ، وهذا يلمح إلى أن من مات في البحر أثناء سفر معصية فليس له ذلك الأجر المشار إليه، بخلاف من مات غريقاً في سفر مندوب، ويفهم منه كذلك استثناء صاحب السفر المباح من أجر الشهيدين، وإن لم يخرجه ذلك عن أجر الشهيد الواحد الثابت في الصحيح، على أن الجزم بإخراج من هلك في البحر في سفر مباح لا يتناوله أجر الشهيدين محل نظر؛ فالنص قد جاء مطلقاً، والتقييد بغير مقيد لا يسوغ، وقد ورد نظير هذا في من مات بالطاعون صابراً محتسباً؛ فله أجر شهيدين؛ فليكن شهيد البحر وإن مات في سفر مباح صابراً محتسباً مثله طالما أن النص ثبت في حق الجميع.

والخلاصة: أن الذين هلكوا في هذا الطوفان من أهل الإيمان هم شهداء عند ربهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 19] ، فهنيئاً لهؤلاء أجر من جنس أجر شهداء المعترك وإن لم تجرِ عليهم أحكامهم في الدنيا (?) .

رابعاً: يُظهِرُ الله بمثل هذه الآيات عظيم قدرته وقوَّته وعزته، وتمام ملكه وسلطانه، فخُلُوُّ الوجود عن مثل هذه الظواهر تعطيل لحكمة الخالق وكمال قدرته وتصرفه وتدبيره مملكته، كما أنه تُفِيق بها فئام نسيت قدرة الله فأذعنت لمن خافت سطوتهم من البشر، فتدعوها هذه الأقدار لمراجعة توحيدها وتحقيق إخلاصها، برجوعها إلى ربها؛ فلا تشرك معه في قوَّته وقدرته وسلطانه أحداً، ويُفِيق كذلك بعض من غرتهم قوتهم فيتذكرون أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؛ فأوْلى لهم أن لا يجحدوا آياته، وأن يتجنبوا أسباب سخطه وعقابه.

وعندها يقرأ المتعظ المعتبر بقلب واع قول الله ـ عز وجل ـ: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16] .

وكم من جمل اسْتَنْوَقَ، وحمار اسْتَأْتَنَ، وكم من أمة كانت نُشْبَة، فأضحت لما صال الدهر صولته عُقْبَة، فاستعيذوا بالله من الحَوْر بعد الكَوْر.

خامساً: ومن حِكَم مثل هذه الأقدار ظهور بعض آثار أسماء الواحد القهار، كالمنتقم، والضار والنافع، وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد، ولا شك أن لذلك أثراً في ازدياد الإيمان عظيم.

فلِتعرُّف العبد على تلك الأسماء والصفات وما تتضمنه تأثير في نفسه يقوده إلى الخوف من ربه، كما أن لشهود النعم والأفضال التي تترى ليل نهار أثراً في نفس العبد يقوده إلى حب الرب المنعم المتفضل. وبعبادة الخوف والحب والرجاء يتحقق الإيمان في قلب العبد؛ فالخوف يمنع من مقارفة ما يُغضِب الرب، كما أن الحب يدفع لفعل ما يرضاه، ولهذا أُثِرَ عن السلف قولهم: «مَنْ عبدَ اللهَ بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومَنْ عبدَ اللهَ بالخوف وحده فهو حروري، ومَنْ عبدَ اللهَ بالحب وحده فهو زنديق، ومَنْ عبدَ اللهَ بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن» (?) ، وقد استحب السلف أن يقوِّي العبد جانب الخوف في حال الأمن والصحة حتى لا يغتر، وقالوا: إذا غلب الرجاء على القلب فسد.

سادساً: ومن حِكَم هذه الأقدار حصول بعض العبادات المحبوبة كالتوبة، والاستغفار، والإنابة، والرجوع إلى الواحد الغفار؛ فكم من إنسان رأى ما حل بغيره من البشر، وعلم أنه ليس بينه وبين الله نسب، فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً، لا إله إلاّ أنت تبت إليك سبحانك إني كنت من الظالمين. وكم من غافل أفاق يوم أن حلت به المثلات التي نزلت بالأمم السالفات.

ولما رأيت الدهر تسطو خطوبه

بكل جليد في الورى ومهانِ

ولم أرَ مِن حِرزٍ ألوذُ بظله

ولا مَن له بالحادثات يدانِ

فزعت إلى من تمْلِك الدهرَ كفُه

ومن ليس ذو ملك له بمدانِ

وأعرضت عن ذكر الورى متبرماً

إلى الرب من قاص هناك ودانِ

قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «قال قتادة: إن الله ـ تعالى ـ يخوِّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذَّكَّرون ويرجعون، ذُكِرَ لنا أن الكوفة وَجَفَتْ على عهد ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أيها الناس! إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه» (?) ، وقد روي مرفوعاً ولم يصح «قال أبو عمر: لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سُنَّة، وقد كانت أول ما كانت في الإسلام على عهد عمر فأنكرها، وقال: أحدثتم والله! لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم» (?) ، والأمر كما قال ابن عبد البر؛ فلم تصح سنَّة بأن زلزلة شهدها النبي -صلى الله عليه وسلم -، بل قال عبيد الله بن النضر: حدثني أبي قال: كانت ظلمة على عهد أنس، قال: فأتيت أنساً، فقلت: يا أبا حمزة! هل كان يصيبكم مثل هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ قال: معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة القيامة (?) ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، وهذا استدلال بطريق الأوْلى.

ثم قال ابن كثير بعد أن ذكر قول قتادة الآنف: «وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مرات، فقال عمر: أحدثتم والله! لئن عادت لأفعلن ولأفعلن كذا» (?) ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله ـ عز وجل ـ يخوِّف بهما عباده؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذِكْرِه ودعائه واستغفاره» (?) .

وقد أشار الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في معرض كلام له إلى هذه الحكمة، فقال: «فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم» (?) ثم أشار إلى شيء من الآثار الآنفة.

سابعاً: ومن تلك الحكم أن يتعبد الناسُ ربَّهم، بالاستعاذة به مما يحاذرون، وكذلك بصدق دعائه ورجائه فيما يأملون، من نحو طلب نجاة حبيب، أو سلامة قريب، أو إغاثة مستغيث، أو رزق معوز لم يكن يخطر بباله سؤال الرزق يوماً.

ثامناً: ومن تلك الحِكَم أن يبتلي الله آخرين فينظر كيف يعملون: هل يبذلون أموالهم ويغيثون إخوانهم المسلمين، أم يقبضون أيديهم ويكتفون بموقع المتفرج؟ فتكون تلك الأقدار سبباً في حصول عبادات بدنية ومالية يقوم بها من يهبُّ لإغاثة إخوانه، ويُحْجِم عنها آخرون، فيستحق كل منهما دعاء المَلَك: «اللهم أعطِ منفقاً خلفاً! اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً!» .

تاسعاً: استفادة بعض الناس منها بفتح أبواب رزق لم تكن لتُفتح لهم، وأعظم من ذلك بلوغ أسباب خير لم تكن لتبلغهم، وكذلك امتحان آخرين في دينهم ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، الذين إذا أصاب أحدهم خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

وفتح هذه الكوارث لمجالات عمل دنيوي وعمل ديني ظاهر لا يخفى؛ فالمنظمات التي تُعنى بهذه الكوارث تعد ولا تحصى، وكِلا المجالين الديني والدنيوي يدخل فيهما أصحاب الحق وأصحاب الباطل، في محاولات للاستفادة من النازلة لأجل ترويج تجارتهم المادية أو المعنوية.

عاشراًً: ـ وأختم به ـ ما ذكره الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في حِكمَ خَلْقِ بعض من لا يحبه الله ويرضاه؛ فعدَّ منها: «أن خَلْقَ الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن كمال الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب، لكنَّ خَلْقَها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته؛ فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال وموجب من موجباته؛ فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته.

وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه ـ سبحانه وتعالى ـ من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.

فإن قلتَ: فهل كان يمكن وجود تلك الحِكَم بدون هذه الأسباب؟

قلتُ: هذا سؤال باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب» .

والخلاصة: أن الله ـ تعالى ـ منزه عن العبث، بل أقداره لحِكَم، علم منها شيئاً من علم، وجهل أكثرها الناس.

ومن عقيدة أهل السنة أن الله لا يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، بل قد يكون ذلك المخلوق شراً ومفسدة ببعض الاعتبارات، وفي خلقه مصالح وحِكَم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده.

بل الواقع منحصر في ذلك؛ فلا يمكن في جناب الحق ـ جل جلاله ـ أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ هذا من أبين المحال؛ فإنه ـ سبحانه ـ بيده الخير، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير؛ والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة إليه سبحانه؛ فالله وإنْ خَلَقَهُ وشاءه غير أنه لا يحبه من جهة كونه شراً ولا يرضاه، وإنما يسَّره بحكمته لما علمه من طبيعته؛ فلم يمده بمادة الخير ولم يصرفه فيما ينفع فأحدث ما أحدث، ولله الحكمة البالغة في أقداره، وله الشكر على توفيقه وأفضاله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015