مجله البيان (صفحة 5436)

الدستور العراقي الجديد عامل توحيد أم عامل تمزيق؟

إبراهيم العبيدي

لا زالت لجنة صياغة الدستور العراقي الجديد ـ حتى كتابة هذا المقال ـ تتبادل النقاش والحوار حول الخلافات الكبيرة بين الكتل السياسية العراقية ومن ورائهم الضغط الأمريكي، وحتى كتابة هذه السطور لم يتوصل المجتمعون المختلفون إلى حل مُرضٍ لجميع الأطراف بخصوص القضايا العالقة والخلافية فيما بينهم، وهو الأمر الذي يصفه كثيرون بأنه يندرج تحت قائمة الإخفاق السياسي الذي مُنيت به الحكومة المؤقتة؛ حيث أوكلت المهمة إلى ما يسمى بلجنة صياغة الدستورالمكونة من (71 عضواً) جُلُّهم غير متخصصين، والتي يغلب عليها طابع التحاصص الطائفي والعرقي. هذه اللجنة ومن خلال خطواتها الركيكة في إعداد وصياغة الدستور (الذي كتبه بريمر الحاكم المدني السابق للعراق، وأقره مجلس الحكم الانتقالي) 70% من الدستور منجَز، ولم يبقَ سوى 30% فقط يراد مناقشته لإنهائه، كما يفتخر به بعض أعضاء لجنة صياغة الدستور.

ومن الجدير بالذكر أن قانون إدارة الدولة الذي أقره الحاكم المدني الأمريكي للعراق «بول بريمر» والذي وقَّع عليه أعضاء مجلس الحكم الانتقالي «المعيَّن» آنذاك، هذا القانون هو الذي أوجد الأرضية والمرجعية القانونية لكل القضايا المختلف عليها الآن بين الكتل السياسية، بداية من الفيدرالية، ومروراً بهوية العراق، ونهاية بمصدر التشريع في البلاد، إلى آخره من أمور قد أسس لها هذا القانون المشبوه، وهو ما يقودنا إلى القول بأن الأمريكان هم الذين وضعوا هذا القانون الذي من شأنه أن يمزق العراق ويجعله دويلات صغيرة ومتناحرة تحت مسمى «الفيدرالية» ليكون عراقاً ضعيفاً لتحقيق ما يسمى بنظرية (أمن إسرائيل) ! وهو من الأهداف الرئيسة والهامة من عملية الغزو الأمريكي للعراق أصلاً، والذي يراد تحقيقه على كل حال. لذلك فإنه ليس مستغرباً أن تواجه لجنة صياغة الدستور خلافات كبيرة لا يمكن حلها إطلاقاً، وهي مستعصية بسبب غاياتها ومراميها الخطيرة لدى أصحابها من الكتل الحزبية التي جاءت من الخارج وولاءاتهم ليست للعراق إطلاقاً، وهم الذين يتعاملون مع العراق وكانه «سرقة» يجب تقسيمها بين اللصوص ومَنْ وراءهم الذين كان لهم النصيب الأوفر في التخطيط والتنفيذ لسرقة العراق وتدميره، وهو مؤشر خطير في مثل هذا الدستور على مستقبل العراق الجديد. فمثلاً لو نظرنا إلى مطالب الأكراد الرئيسية والتي لا يمكن المساومة عليها كما يقول (مسعود البرزاني) ، فسنجدها مطالب تعجيزية لا يمكن أن تقبلها أي حكومة وطنية ديمقراطية تكون في بغداد، وهي على النحو التالي:

1 ـ أن الدستور الجديد يجب أن يتضمن ما يشير إلى حق تقرير المصير للأكراد بعد مرور ثماني سنوات من العمل به وفي الحالات التالية: إذا تغير النظام الديمقراطي الفيدرالي أو إذا تعرض للعدوان أو للاضطهاد أو استقطاع أية منطقة منه تعرف وفق الحقائق الجغرافية والتاريخية بأنها جزء من كردستان العراق أو الامتناع عن إلحاقها به «في إشارة إلى مدينة كركوك الغنية بالنفط» والتي ستشكل عقبة كأداء أمام أي تسوية مع الأكراد دون أن تمنح المدينة لهم، وهو الأمر الذي سيتم ترحيله مع القضايا المرحَّلة خشية الاصطدام في الوقت الحاضر، وسيبقى الأمر كالقنبلة الموقوته يتفجر في أي لحظة.

2 ـ أن يكون اسم الدولة جمهورية العراق الفيدرالي أو الاتحادي، وأن يكون نظام الحكم جمهورياً برلمانياً اتحادياً فيدرالياً ديمقراطياً تعددياً، ويجري تقاسم السلطة بين الحكومة الاتحادية وبين حكومات الأقاليم، وأن يكون النظام الفيدرالي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية وليس على أساس عرقي أو مذهبي.

3 ـ أن تتكون دولة العراق من قوميتين رئيسيتين: العربية والكردية، وأن الشعب العربي جزء من الأمة العربية، والشعب الكردي جزء من الامة الكردية؛ مع إقرار الحقوق المشروعة للتركمان والكلدوآشوريين.

4 ـ يجب أن تخضع القوات المسلحة للسيطرة المدنية، وتحديد ميزانية للقوات المسلحة بحيث لا تتجأوز 4% من ميزانية العراق، وأن يحتفظ كل إقليم فيدرالي بقواته المسلحة، في إشارة إلى قوات (البيشمركة الكردية) التي يرفض الأكراد حلها واعتبارها ميليشيا وإنما يجب اعتبارها جيشاً قائماً في كردستان العراق.

5 ـ أن يمثل إقليم كردستان مسؤول في وزارة الخارجية العراقية لرعاية شؤون الإقليم في وزارة الخارجية، إضافة إلى ممثلين في سفارات العراق في الخارج.

6 ـ أن تكون الثروات الطبيعية والنفطية ملكاً للإقليم، وأن تتولى حكومة الإقليم عملية الاستخراج والإدارة والتوزيع، وتخصيص نسبة 5% من واردات الثروة للمحافظة، ونسبة 60% لحكومة الإقليم و35% للحكومة الاتحادية.

هذه هي مطالب الأكراد الرئيسية المعلنة والتي تمثل حقوق الأكراد وطموحاتهم كما يقولون، وهي كفيلة بان يرفض الأكراد التصويت على الدستور إذا تم تجاهلها، وكما قال في تصريحات أطلقها مؤخراً مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق مؤخراً برفض الدستور العراقي الذي تجري صياغته حالياً في حال عدم تلبيته طموحات الأكراد ومطالبهم مشيراً إلى أن الدستور إذا لم يعترف بحقوق الأكراد؛ فمن غير الممكن أن نقبل به. (إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هناك مادة في قانون إدارة الدولة تنص على إمكانية رفض الدستور من قِبَل أي ثلاث محافظات مجتمعة بأغلبية الثلثين) وهو أمر يمكن استخدامه من قِبَل الأكراد والشيعة والسنة، وهو ما يقودنا للقول بأن هذه الخلافات قطعاً سوف تعصف بمسودة الدستور قبل أن يجف الحبر الذي يكتب به؛ ولا سيما إذا لم تتضمن هذه المسودة مطالب الجميع وهو أمر بطبيعة الحال غير ممكن بسبب طبيعة هذه الطلبات وغاياتها، التي بعضها «مشبوه وغير وطني أصلاً» .

أما عن المطالب الشيعية فهي الأخرى مطالب يغلب عليها طابع الطائفية، ومن أبرزها:

1 ـ مطالبتهم بان يكون للمرجعية «الشيعية» دورها الإرشادي في البلاد.

2 ـ وكذلك ضمان احترام العتبات المقدسة في الدستور، وواردها المالي يكون خاصاً بالمرجعية الدينية.

3 ـ وأن تكون جمهورية العراق إسلامية (طبعاً على النمط الإيراني) .

4 ـ وآخر هذه المطالب الطائفية ما طالب به (عبد العزيز الحكيم) مؤخراً «بوجوب قيام إقليم شيعي في الجنوب والفرات الأوسط من العراق» أسوة بإقليم كردستان وتحت غطاء الفيدرالية المقيت، وهذه الدعوة من قِبَل المذكور رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ذي الولاء الإيراني الخالص، جاءت بعد إعلان المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في تعليقه على الفيدرالية بقوله: «لا باس بها إذا كانت خيار الشعب» وهو الأمر الذي طالب به الحكيم والأمين العام لفيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الاعلى للثورة الإسلامية المدعو: (هادي العامري) مؤخراً في جمع حاشد من الشيعة الموالين لإيران (أثناء حفل مناسبة مرور السنة الثانية على مقتل محمد باقر الحكيم الرئيس السابق للمجلس الأعلى) المذكور.

أما مطالب السنة العرب أو بالأحرى «التحفظات والمآخذ» على طلبات الفرقاء السياسيين فهي على النقيض من المطالب الكردية والشيعية؛ حيث تتسم بالموضوعية والحس الوطني المجرد للعراق بعيداً عن كل تأثير حزبي، أو طائفي، أو عرقي. ومن أبرز هذه المطالب والتحفظات على مسودة صياغة الدستور الجديد ما يلي:

1 ـ التحفظ على مسالة الفيدرالية التي يراد منها بحسب قول السنة العرب (تقسيم العراق إلى «كانتونات» منفصلة للأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب على أساس طائفي وعرقي) ؛ بحسب ما أشار إليه عضو لجنة صياغة الدستور عن السنة العرب الدكتور صالح المطلق، ويطرحون مشروعاً بديلاً عنها هو «اللامركزية» مع إعطاء صلاحيات أوسع للمحافظ في كل محافظة بالعراق.

2 ـ التحفظ على عدم ذكر هوية العراق العربية والإسلامية؛ حيث يراد إخراج العراق من عمقه العربي التاريخي والحضاري، وسلخه ليكون عراقاً دون هوية.

3 ـ التحفظ على جعل القومية الفارسية إحدى القوميات العراقية «كما يطالب بذلك المجلس الأعلى (الحكيم) » وهو مطلب غريب يفتقر إلى العلمية والموضوعية؛ حيث لا توجد أي قومية فارسية في العراق في كل دساتير العراق السابقة.

4 ـ التحفظ على الدور الإرشادي للمرجعية «الشيعية» وكذلك استقلال ما يسمى بالعتبات المقدسة بموارها المالية الكبيرة للمراجع الدينية يتصرفون بها كيف يشاؤون وضمان ذلك في الدستور، كما يطالب به الشيعة.

5 ـ ضرورة ترحيل القضايا المهمة والكبيرة العالقة مثل (الفيدرالية، ومسألة كركوك وغيرها) إلى ما بعد الانتخابات القادمة والجمعية الوطنية الجديدة التي يتوقع أن تكون أكثر تمثيلاً للشعب العراقي.

لذلك وبناءً على هذه المعطيات والمطالب والاختلافات الكبيرة بين الفرقاء السياسين العراقيين؛ فإنه يصبح من الصعب بل المستحيل الاتفاق طوعاً بين هذه الأطراف لتسوية جميع الخلافات العالقة، ولا سيما التي أشرنا إليها من بين الثماني عشرة نقطة «الخلافية» وهو الأمر الذي يرجح لنا السناريوهات التالية:

- ترحيل القضايا العالقة «التي ستبقى دون التوصل إلى اتفاق» إلى ما بعد الانتخابات العامة القادمة التي ستجري في ديسمبر/ كانون الأول لاختيار حكومة وجمعية وطنية جديدة «عسى أن تكون هذه الجمعية أكثر تمثيلاً للشعب العراقي عما عليه الآن» وهذا يتطلب بالضرورة مشاركة سُنِّية فاعلة في الانتخابات المقبلة. ومن ثَم سوف تتسم قرارات هذه الجمعية بنوع من القوة بسبب هذا التمثيل الذي سيفرض نفسه على الجميع على أنه قرار الشعب.

- انسحاب كردي مفاجئ من الحكومة المؤقتة، فيما إذا احتدمت الخلافات حول مطالبهم وهو ما يعني بالضرورة سقوط الحكومة الحالية المؤقتة وحلها. وهذا ما ألمح إليه قبل أيام الزعيم الكردي مسعود البرزاني في معرض حديثه في لقاء خاص مع قناة العربية.

- وبما أن مقترح التمديد للجنة صياغة الدستور قد رُفِضَ من قِبَل الأمريكان على لسان الرئيس جلال الطالباني وإن مُدِد مؤخراً أمام عدم الاتفاق وخشية الإخفاق الذريع؛ فهذا يعني حل الحكومة والاستعداد لإجراء الانتخابات العامة في البلاد كما هو مقرر نهاية العام. ومن ناحية أخرى يرى محللون أن قرار عدم التمديد هذا هو مؤشر قوي على التفكير الجدي للإدارة «الأمريكية والبريطانية» بوضع جدولة للانسحاب تدريجياً من العراق، ولحفظ ما تبقى من ماء الوجه للإدارتين، والقول بأن مهمتنا قد انتهت بوضع دستور للبلاد، والهروب من المأزق السياسي والأمني الذي تعيشه هذه القوات، وتوفير خسائرهما المتزايدة بفضل ضربات المقاومة الوطنية العراقية الباسلة.

- استخدام حق (الفيتو) من قِبَل العرب السُّنة إذا ما مُرِّرت القضايا التي تحفظوا عليها والتي أشرنا إليها آنفاً، عند عملية الاستفتاء على مسودة الدستور المزمع إجراؤها في اكتوبر. (وهو حق مشروع نص عليه في قانون إدارة الدولة) .

ويبقى السؤال الكبير الأهم الذي ينبغي أن يطرح وهو: هل الدستور العراقي الجديد والمرتقب، سيكون عامل توحيد وأستقلال للعراق أرضاً وشعباً وثروة، تُحفظ فيه الحقوق، وتُصان فيه الحرمات، وتُحترم فيه العقائد؟ أم سيكون دستوراً لتمزيق العراق أرضاً، وشعباً وسلباً لثرواته؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة في العراق الجديد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التدخل الأمريكي السافر في إعداد وكتابة هذا الدستور، وما يراد له أن يكون دستوراً لعراق جديد «مشرذم» أرضاً وشعباً وثروة، يحقق الأهداف الأمريكية التي تم غزو العراق من أجلها، وعلى رأس هذه الأهداف حماية أمن العدو الصهيوني.

وقد يخطئ الأمريكان مرة أخرى إذا ما اعتقدوا أن الانتهاء من مسودة الدستور «المرضي عنه أمريكياً» سوف يكون البلسم الشافي لمأزق العراق الأمني والسياسي والأقتصادي والخدمي، وهو تكرار للخطاً الذي ارتكبته الإدارة في نتائج الانتخابات العراقية الأولى «الناقصة» والذي نتج عنها ولادة حكومة مشوهة، وما أعقبها من تدهور أمني وحالة عدم استقرار شامل، وهذه المرة سيكون الوضع أشد سوءاً؛ حيث سيوضع العراق كله في مرحلة جديدة من العنف والاقتتال الداخلي الذي ربما يتجاوز مداه الجغرافي. نسأل الله أن يحفظ العراق وأهله وأن يوفقهم لما فيه الخير والتوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015