مجله البيان (صفحة 5424)

أثر القرآن الكريم في ضبط نفسية الإنسان

د. أحمد بن محمد العمراني

يتمحور هذا الموضوع حول مفهومين أساسيين: أولهما: النفس البشرية، وثانيهما: أثر القرآن في ضبطها وانضباطها.

فالإنسان مكوَّن من ثلاث لطائف: «العقل، والقلب، والنفس» حيث إن دين المرء محكوم بعقله، فلا دين لمن لا عقل له، وبعض الأفعال التي تقتضيها صورة الإنسان ـ كالغضب والرضا، والجرأة والخوف، والجود والشُّح، والسخط والقبول ـ محلُّها القلب، وبالنفس يشتهي الإنسان ما يستلذُّه من المطاعم والمشارب والمناكح.

- النفس البشرية، قواها وأنواعها:

حديثنا إذن يهم النفس؛ الهوية الحقيقية للإنسان، ومحتواها الحقيقي هو الذي يحدد وجهة الإنسان نحو السعادة، ويبين مصيره المستقبلي.

فالنفس في الإنسان هي صورته وهواه ورغباته وشهوته، وهي أثر من آثار الروح التي تمنح النفسَ القوةَ لأداء خواصِّها بأمر الله ـ تعالى ـ كما ورد عن بعض السلف: «إذا دخلت الروحُ الجسدَ سُمِّي نفساً، وبها تحسُّ النفس وتشعر وتبصر وتسمع وتشمُّ وتتذوق» .

فالنفس ترى بالعين، وتسمع بالأذن، وتحسُّ بواسطة مسام الجلد، وتتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في اللسان. هذه الأحاسيس والإدراكات العقلية ـ بمجموعها ـ غير المادية هي ما يسمى بالنفس الإنسانية؛ فإذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها، انقطعت تلك الطاقة عن الأسلاك العصبية، وفقدت تلك الحواس، فماتت النفس التي عبَّر القرآن عنها في قوله ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] .

فعن طريق النفس ينصرف الإنسان إلى أمانيه المادية وشهواته الدنيوية، فينحطُّ بقدر اشتغاله في تلبية ذلك، وانصرافه عما يسمو به من فضائل وطاعات، أو يعلو ويسمو بانصرافه للفضائل الإيجابية، فيرتقي بقدر إعمال نفسه في الدرجات.

وهذا يعني ويبين أن للنفس مراتب، وأنها تخضع للتغيير والتبديل من حالة إلى حالة، كما حقَّق القرآن ذلك في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .

فإذا نظرنا إليها في تقلُّباتها هذه وجدناها تمرُّ عبر قوى أساسية تتمثل في:

قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة العقل. فبالعفة تهزم الشهوة، وبالشجاعة ينهزم الغضب، وبالحكمة والحرص عليها يسمو العقل، ولجميعها يحتاج الإنسان؛ فلو كان عقلاً فقط لكان ملَكاً، لكن الله خلق الإنسان الذي يخطئ ويصيب، ولو كان غضباً فقط لكان سَبْعاً، لكنه يحتاج إلى القوة الغضبية ليدافع عن نفسه، ولو كان شهوةً فقط لكان بهيمة، لكنه يحتاج إلى الشهوة ليعيش ويتناسل. وحسب استخدام هذه القوى المذكورة تمرُّ النفس الإنسانية بمراحل تتصف فيها بصفات ثلاث، هي:

- أولاً: النفس اللَّوَّامة:

قال ـ تعالى ـ: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1 - 2] . حيث أقسم سبحانه بيوم عظيم؛ لتحقيق وقوعه وبيان هوله، وإيقاظ النفوس النائمة الغافلة عنه، فتصحو وتنتبه من سُباتها.

وقد ذكر الله ـ تعالى ـ النفس اللَّوَّامة إثر قسمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير؛ فهي نفس تفعل الخير وتحبه وتعمل المعصية وتكرهها، نفس تعيش في داخلها صراعاً بين الخير والشر.

فالإنسان في بداية أمره إذا ارتكب ذنباً أو خطيئة ابتداءً، شعر في داخله بإحساس يؤنِّبه، وتمنَّى لو لم يفعله، وإذا عاد إليه ثانية ضعُفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة، وانتقل صاحبها إلى مرحلة الميل إلى المعصية واستحسانها، لتنتقل نفسه من لوَّامة إلى أمَّارة بالسُّوء.

- ثانياً: النفس الأمَّارة:

حيث تميل النفس إلى السوء وحب العصيان، والغفلة عن الطاعة والعبادة، ويُطلق عليها: النفس الأمَّارة بالسوء؛ نفسٌ استحوذ عليها الشيطان وسيطر على سلوكها وذوقها، وقتل فيها الحياء والعفَّة. هذه النفس تعلِّل فجورها واستمرارها في المعصية بنسبة كل ما يفعله الإنسان إلى البيئة والآباء أو المجتمع، قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] . فتستكبر وتقع في الظلم لتقع في الخسران الأبدي. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى: 45] . وسبب ذلك حدَّده الشارع في قوله ـ تعالى ـ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} [الفرقان: 21] .

- ثالثاً: النفس المطمئنَّة:

نفس راضية استسلمت لخالقها برضىً وقناعة، لا تفعل إلا ما تيقَّن لها صلاحه، نفس تحقق لها الورع والإخلاص، وسمت عن الدنيا وشهواتها، واشتغلت عنها بعمارة عالم الآخرة الباقية الخالدة المحدَّدة في قوله ـ تعالى ـ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، نفس استحقت الذكر والتمجيد في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] .

- مفهوم الضبط والانضباط:

الارتقاء بالنفس والنهوض بها ـ باعتبار طبيعتها التغييرية ـ يحتاج إلى ضبط وانضباط خاصَّين، يستمدَّان أصولهما من كتاب الله، الذي تحدَّث عن مراتب النفس، وبيَّنها من خلال سوره وآياته. وقبل تحديد ذلك نحتاج إلى بيان مفهوم الضبط والانضباط.

فالضبط هو لزوم الشيء وحبسه، والضابط هو الذي يلازم ما يضبطه، ويصبر نفسه معه حفظاً وحزماً، والأضبط الذي يعمل بيديه جميعاً، و «ضبط» فعل يتعدَّى بنفسه، بمعنى أنّ له فاعلاً ومفعولاً، فالفاعل هو الضابط والمفعول هو المضبوط، أي الموضوع والمجال الذي يقع فيه أو به أو عليه الفعل والعملية الضبطية (?) . فإذا انصرف المعنى إلى ضبط النفس وانضباطها دلَّ على حبس النفس عن الشر وإلزامها بالخير مع الصبر عليها والحزم معها. وهو ما أطلق عليه علماء التربية بتزكية النفس في مقابل تدسيتها.

وقد أقسم الخالق ـ سبحانه ـ أقساماً سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكَّى نفسه والخاسر من دسَّاها، فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 1 - 10] .

والمقصود بالتزكية هنا: طهارة النفس أو تطهيرها وتنظيفها، مخالفاً للدسِّ الذي هو كناية عن الإغراق في الوسخ والأوحال. ولا يعني ذلك أبداً التزكية مطلقاً لما تعترضها من سلبيات، مثل: الاستعلاء والتكبر والترفع الذي نهى الله ـ تعالى ـ عنه، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النساء: 49] .

والقرآن هو طبُّ النفوس باعتباره روح الروح ونور البصيرة، به يتحقق الضبط والانضباط، كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] .

والنور يضيء ويبين الأمراض، ويهدي إلى طريق الصواب، ولا يتم ذلك إلا بتحديد أمراض النفس المهلكة التي سطَّرها القرآن، من أجل تقديم الدواء الناجع لها من آياته وسُوره العِظَام.

- آفتا النفس البشرية:

فالنفس معرَّضة لآفتين ذكرهما القرآن ـ وبمعرفتهما يُستعان على تحقيق الضبط والانضباط لنفس الإنسان ـ هما الخطأ والنسيان، وهما مستمدَّان من آية يعلِّمنا فيها الخالق أن ندعوه ونسأله عدم المؤاخذة فيهما في قوله ـ تعالى ـ: {لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ؛ حيث إن أول معصية وقعت في الكون من قتل الإنسان كانت بسبب النسيان، لقوله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] . وسبب ذلك وسوسة الشيطان كما قال ـ تعالى ـ: {فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} [طه: 120] .

ووساوس الشيطان لا تنتهي، كيف وقد أقسم الشيطان بعزَّة الرحمن أن يغرِّر بالإنسان ويوقعه في جملة من المعاصي والآثام؛ حيث ذكر القرآن على لسانه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] . وقوله: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} [النساء: 118 - 119] . والهدف هو أن يقعـ الإنسان في نسيان ذكر الله، كما قال ـ تعالى ـ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] .

ومن الطبعي أن تقع النفس البشرية في الخطأ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (?) . بل لو لم تخطئ لغيَّرها الله بغيرها من أجل التوبة والمغفرة، لقوله -صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم» (?) . والخطأ يصدر عن النفس بدلائل من القرآن، منها:

قوله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] . وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] . وما ورد على لسان الأبوين آدم وحوَّاء ـ عليهما السلام ـ: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وقوله على لسان ملكة سبأ: {قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . وقوله على لسان موسى كليم الرحمن: {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] . وقوله على لسان امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53] .

وقوله ـ تعالى ـ حكاية لقول الشيطان حين القضاء بين العباد: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] .

- وسائل ضبط النفس وانضباطها:

ضبط النفس ليس بالأمر الهيِّن؛ إذ الصراع داخليٌّ مائة بالمائة، ولكن آثاره وبوادره داخلية وخارجية، ولكن لحسن السير، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، لا مفرَّ من بذل مجهود مضاعف يُستطاع به ضبط أمراض النفس، ولن يتم ذلك إلا بأمور، منها:

1 - الاعتراف بعيوب النفس والتعرف عليها:

ويتم ذلك باتِّباع توجيهات القرآن التي سمَّاها بالبصائر في قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104] .

فإذا أراد الله بعبده خيراً بصَّره بعيوب نفسه، ومن كملت له بصيرته لم تخفَ عليه عيوبه، وإذا عرف عيوبه أمكنه علاجها.

فالإنسان يلاحظ كثيراً على غيره، ولكنه لا يجرؤ على النظر في عيوبه، أو يبحث عنها، الكل يرى القَذَى في عين أخيه، ولكنه لا يرى ما في عينيه؛ ما يحصل للإنسان هو نفسه ما يحصل للجمل الذي يرى ما على ظهر أخيه من تقوس واعوجاج، ولكنه لا يعلم أن الاعوجاج عامٌّ في بني جنسه.

ولتحقيق هذا الاستبصار وجب سلوك سبيلين:

أ - أن يطلب ذلك بالجدِّ والاجتهاد والإخلاص؛ ولا يتم ذلك إلا بمراقبة من يعلم السرَّ وأخفى، على مستوى القول والفعل والسلوك، مع الاستعانة بمدِّ يد الرجاء إلى الله تعالى.

وحتماً بهذا الفعل ستكون النتيجة هي الاهتداء لقوله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .

ب ـ مراقبة أحوال وأقوال وأفعال الآخرين، ليقف على السيِّئ منها فيلحظه في نفسه ليتجنَّبه، باعتبار تقارب طباع الناس، فيتفقد نفسه ويطهرها في ضوء ما يراه مذموماً في غيره. وقد قيل قديماً: «العاقل من اتّعظ بغيره» .

فالإعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس، ولهذا الإعراض سبب أساسي يوقع فيه وهو: اعتقاد الإنسان أنه بلغ مرحلة من الصلاح، مع أن كل إنسان معرَّض للنقصان والخطأ، ورحم الله عمر القائل: «أحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي» (?) .

2 ـ مجاهدة أمراض النفس وأخطائها وصفاتها الذميمة:

أخطاء النفس كثيرة، لا يستطيع عادٌّ عدَّها أو حصرها، وإن كانت الإشارة إليها والتنبيه على أهمِّها أمراً أساسياً.

وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعض أخطاء النفس فقال: «في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتوُّ عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغيُ قارون، وقحّة هامان (أي لؤم) ، وهوى بلعام (عرّاف أرسله ملك ليلعن بني إسرائيل فبارك ولم يلعن) ، وحِيَلُ أصحاب السبت، وتمرُّد الوليد، وجهل أبي جهل.

وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَهُ الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضبِّ، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصَولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفَّة الفراش، ونوم الضَّبع (?) .

والحديث عن كل هذه الأخطاء بالتفصيل يحتاج إلى مِداد ليس بالقليل، ووقت ليس باليسير وجهد عسير، عسى أن يمنَّ به المولى العزيز الكريم، فنتصدَّى لها بالتفسير والتعليل، لكن ما لا يُدرك كلُّه لا يترك جلُّه، فليكن حديثي عن بعضها وأهمها في نظري انطلاقاً مما ذكر القرآن.

- أهمُّ أخطاء النفس:

1 ـ الشهوة ووسيلة ضبطها:

يقول الله ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] .

وخطورتها تكمن في كون طريقها يؤدي إلى النار حيث يقول -صلى الله عليه وسلم -: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (?) .

- وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فنظر فيها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لقد خشيت ألّا يدخلها أحد، قال: فلما خلق النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفَّها بالشهوات ثم قال: يا جبريل اذهب إليها فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لقد خشيت ألّا يبقى أحد إلا دخلها» (?) .

فالشهوة ما تشتهيه النفس وتتمنَّاه وترغب في تحقيقه مهما كان المقابل خطيراً. وقد جُبلت النفس على حب الشهوات التي لن تتجاوز ما ذكر في القرآن، ويمكن أن نُطلق على الآيات السابقة أصول الشهوات التي يتفرع عنها غيرها.

- فأصل الشهوات النساء كما أكَّد على ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ما تركت بعدي فتنة في الناس أضرَّ على الرجال من النساء» (?) . وقد يحصل الشذوذ والانحراف فتنقلب الشهوة إلى نمط آخر، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81 ـ والنمل: 55] .

- ويتبعها البنون؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «إن الولد مبخلة مجبنة محزنة» (?) .

ـ ثم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال» (?) .

- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن ممَّا أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومُضلاَّت الفتن» وفي رواية «ومُضلاَّت الهوى» (?) .

ووسيلة ضبطها «أي الشهوات» ذكرها القرآن بعد سردها كلها فقال سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار} [آل عمران: 15 - 17] .

وهذا يدل على الاعتقاد الجازم بقضاء الله، وأن محل تحقيق شهوات النفس ـ دون الوقوع فيما يغضب الله ـ الَجنانُ؛ حيث يقول ـ تعالى ـ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102] . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] . وقال ـ تعالى ـ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] .

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يجيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِى الخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ! قالَ: رَبِّ! فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (?) .

2 ـ الغفلة ووسيلة ضبطها اليقظة والتذكر:

واليقظة تعني ـ ضمن ما تعنيه ـ طرد الغفلة والتفريط الذي يحصل للنفس البشرية، وقد حذَّر الشارع الحكيم من الوقوع في ذلك فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 55 - 56] .

والتفريط يعني: التقصير والتضييع كما في اللِّسان، فرط في الأمر أي: قصر فيه وضيعه (?) . وهو لا يحصل إلا بالغفلة والنسيان، أو التكاسل والإهمال.

ومسلمو اليوم كما غالى الكثير منهم في الكثير من أمور دينهم، ضيَّعوا الكثير من أمور دينهم، وابتعدوا عن منهج حبيبهم محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.

ولكل ما وقع بالتأكيد أسباب أدَّت إليه وأوقعت فيه، أسباب محتاجة إلى تجليتها وبيانها، لعلَّ الأعين تبصر، والآذان تسمع، والقلوب تعقل، فتحصل الوقفة النقدية المرجوة، بحثاً عن التصحيح. وهي كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها وقد تغيب أخرى، ومنها:

| الانشغال التامُّ بالدنيا.

| الاقتصار على بعض مظاهر التدين.

| عدم إدراك قيمة النِّعم وقدر المنعم.

| التسويف.

3 ـ الحسد ووسيلة ضبطه:

مصدر الحسد نفس الإنسان؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] .

وهو ثاني المعاصي التي وقعت في الكون، وتمثَّلت في قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وسببه النفس الغضبية أو السبعية، أي: عدم كظم غيظ النفس والاستسلام لظلمها وسببه الحسد الذي هو خلق في الإنسان ويحتاج إلى محاربته في نفسه وإلا أوقعه في النيران.

وقد حسد قابيل أخاه هابيل لما قُبل قربانه ولم يتقبل منه، فقتله وفي ذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27 -.3] .

كما حسد إخوة يوسف أخاهم وسعوا إلى قتله حيث يقول ـ تعالى ـ حاكياً قولَهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] .

وليس لهذا الدَّاء من ضبط سوى:

| الاستعانة بالله أولاً، ثم الصبر وتقوى الله:

فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فليستعمل معه الصبر والتقوى فيكره ذلك في نفسه.

| القيام بحقوق المحسود.

| عدم البغض:

وفي الحديث: «ثلاثٌ لا ينجو منهن أحد: الحسد، والظن، والطِّيَرَة. وسأحدثكم بما يخرج من ذلك: إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فامض» (?) .

| العلم بأن الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا، ومنفعته للمحسود في الدين والدنيا.

| الثناء على المحسود وبرّه: قال ـ تعالى ـ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .

| القناعة بعطاء الله:

قال بعض الحكماء: «من رضي بقضاء الله ـ تعالى ـ لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد، فيكون راضياً عن ربه ممتلئ القلب به، ويتيقن بأن الحرمان أحياناً للإنسان خير من العطاء، وأن المصيبة قد تكون له نعمة، وأن الإنسان أحياناً يحب ما هو شر له ويكره ما هو خير له» (?) .

| قمع أسباب الحسد:

فأما الدواء المفصَّل فهو تتبُّع أسباب الحسد من الكِبْر وغيره وعزَّة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني، فهي مواد المرض ولا يقمع المرض إلا بقمع المادة.

بالإضافة إلى هذه الآفات، ذكر القرآن مجموعة من الأمراض تسيطر على النفس وتقودها إلى العصيان والخذلان، منها:

- الكِبْر، لقوله ـ تعالى ـ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] .

- الشُّح، لقوله ـ تعالى ـ: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] .

- الاغترار بالرأي الشخصي واتباع الظن، لقوله ـ تعالى ـ: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} [النجم: 23] .

- ضوابط أساسية لضبط النفس، ومن أهمّها:

1 - الاستعانة بعبادة الله تعالى:

التقرُّب إلى الله ـ عز وجل ـ بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله جل وعلا، وعلى رأسها توحيد الله، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعاً عظيماً لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه» (?) .

ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتَّى، تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن التي يعتبر أداؤها من أهمِّ عوامل ضبط النفس، من قيام ليل وصيام تطوع وصدقة وقراءة قرآن، وذِكْرٍ لله آناء الليل وأطراف النهار. لا شكَّ أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتضبط النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكِلُّ ولا تَسْأَمُ، لكن الانتباه لأمور تَرِدُ أمرٌ أساسي، ومنها:

| الحذر من تحوُّل العبادة إلى عادة.

| الحذر من تقديم المهمِّ على الأهمِّ، أو الأدنى على الأعلى - أي النوافل على الفرائض - كمن يقوم الليل - مثلاً - ثم ينام عن صلاة الفجر.

فالمسلم كالنَّحلة تجمع الرَّحيق من كل الزهور، ثم تُخرجه عسلاً مصفّىً شهياً سائغاً للآكلين.

| تقديم الواجب عند تعارضه مع المستحب.

| التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» (?) .

إن استشعار المؤمن المكاره التي تحفُّ بالجنة، يتطلب منه هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي للتغلُّب عليها، مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

ولنستمع إلى ثابت البناني الذي يقول: تعذَّبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها (?) .

وقد قيل للإمام أحمد: يا إمام! متى الراحة؟ فيقول وهو يدعو إلى المجاهدة: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة (?) .

إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.

هذه هي الصلاة التي تعد رمز الضبط والانضباط، قال ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] . وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22] .

فالهلع والجزع والمنع نقائص وعيوب، وعلاجها يكون بالصلاة وعموم الطاعات والعبادات.

فهي قيام ومثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، وحقُّها حضور القلب وخشوع الجوارح {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] . لكن كم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا التعب والنصب! كم من مصلٍّ يصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا النصف أو الثلث! وأن ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها. بل إنها لتدعو للإنسان أو عليه. ثم إن الصلاة مضبوطة بأزمنة وأمكنة، فالأزمنة منها ما هو اختياري، ومنها ما هو اضطراري، والأمكنة منها ما هو فاضل كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومنها ما هو عادي كسائر المساجد، ومن الأمكنة ما تحرم فيه الصلاة أو تُكره كالمزبلة والمقبرة والمجزرة.

والصلاة مضبوطة بالإمام والمأموم؛ فالإمام يحسن أن يمتاز بصفات، كأن يكون أقرأَ القوم وغير مكروه لديهم، والمأموم له أن ينبِّه الإمام عند السهو أو الخطأ، لكن يخشى عليه إن هو رفع رأسه قبل الإمام أن يُجعل رأسه رأس حمار، فإنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به.

والصلاة مضبوطة بالإحرام والتسليم، وبالركوع والسجود، وما يتخلل ذلك من تكبير وغيره، وهي إلى ذلك مضبوطة بالنواقض والجوابر ... إلخ.

إنها الصلاة التي كانت راحةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، كما أخبر الصادق المصدوق يوماً فقال لصاحبه: «أَرِحْنا بها يا بلال!» (?) ؛ عكس أبناء الأمة اليوم الذين يقولون «أرحنا منها» . وإن لم تنطق بها شفاههم، فإن أفعالهم بها ناطقة، إنها مَفْزَعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، حيث كان «كلما حَزَبَهُ أمرٌ صلّى» (?) ، وهي قُرَّة عينه -صلى الله عليه وسلم - كما قال: «حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم الطِّيب والنساء، وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (?) .

إنها المعين الحقيقي على تقوية الإيمان؛ فإقامة الصلاة بأداء أركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها يوصل الإنسان إلى تحقيق تلك الصلة المطلوبة بين العبد وربه، وحريٌّ بمن فعل ذلك أن يعينه الله، وحريٌّ به هو أن يكون لما سواها مقيماً، كما قال عمر في رسالة لعمَّاله: «إن أهمَّ أموركم عندي الصلاة، من حفظها أو حافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع» (?) .

الفريضة المرافقة لوجود الإنسان المؤمن فوق هذه البسيطة، فريضة لا تسقط أبداً مع جميع الأعذار، سواء كان مرضاً أو خوفاً أو حرباً.

إقامة الصلاة كما أرادها الله أن تقام، لا كما أرادها الناس.

والعجيب في القرآن أنه عند حديثه عن فلاح المؤمنين ذكر من صفاتهم السِّت، الصلاةَ مرتين، حيث بدأ بها وختم بها، فكان البدء بالخشوع فيها والختم بالمحافظة عليها، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 10] .

إنها مضخَّة الإطفاء التي تطفئ النار المشتعلة الموقدة التي تلفح القلوب والعقول، وممحاة للذنوب، حيث يروي (?) لنا سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يوماً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فأخذ منها غصناً يابساً، فهزَّه حتى تَحَاتَّ ورقُه، ثم قال: يا سلمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتَّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق، ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .

- بل إنها كالماء الذي يطفئ النار وسوادها ويغسل أثرها من بين جوانح الإنسان، لهذا قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها» (?) .

وهو ما شرحه ابن مسعود: «تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا» (?) .

هذا بعض من كل، وغيض من فيض من عظمة الصلاة ودورها في ضبط وانضباط النفس، ولكل مؤمن أن يتساءل عن عدد المصلين وعدد مساجد المسلمين، وغياب الضبط المطلوب، فسيتعرف على السبب اليقين، ولن يلوم إلا نفسه، ولن يرجو إلا رب العالمين.

ومما يفيد النفس ويضبطها ويزكيها أمام باريها كثرة الذكر والاستغفار لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] .

2 - الاستعانة بمحاسبة النفس:

قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] .

إن آيات القرآن لتذكِّر الإنسان بيوم لا مردَّ له، فيه مساءلة الرحمن لبني الإنسان بكل ما سعت له وإليه من أعمال، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] .

والإنسان محتاج للتذكر والتذكير بأن هذا اليوم هو يوم العدل المطلق، ليس فيه ظلم {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] . وليس فيه رخصة للرجوع والاعتذار أو المقايضة كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] .

بل سيجد الإنسان نفسه وبيده كتابه يقرؤه بنفسه، كما قال ـ تعالى ـ: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] .

ومحاسبة النفس تكون قبل العمل، كما قال الحسن البصري: «رحم الله عبداً وقف عند همِّه؛ فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخَّر» (?) .

وتكون أثناءه، باستحضار شرع الله ومراقبته في السر والعلن.

وتكون بعده، باستحضار قوله ـ تعالى ـ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] . قال أحد السلف: «فإذا سأل الله الصادقين فما بالك بالكاذبين؟» .

3 - تنمية الصفات الطيبة:

وذلك حتى يكون لها الغلبة؛ ذلك مثل: صفات الحلم والكرم والتواضع والشكر، ولا يكفي في ذلك قراءة كتاب أو حفظ نصوص، لكن تحصيلها لا بدَّ له من مجاهدة وتمرُّن وتدريب؛ فمثلاً من أراد أن يكون حليماً؛ فهذا ينبغي له أن يقوِّي إيمانه ويزيد في صبره ويكظم غيظه ويملك نفسه في مواقف الغضب، قال -صلى الله عليه وسلم -: «إنما الحلم بالتحلُّم» (?) .

وقد أثنى الله ـ جلَّ وعلا ـ على الكاظمين الغيظ، فقال ـ جلَّ مِنْ قائلٍ ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] .

فالحديث عن المتقين هنا هو حديث عن صفة مهمة من صفاتهم، وهي كظم الغيظ، وهو أحد أهم الوسائل المعينة على ضبط النفس.

قال القرطبي في معناه: «كظم الغيظ ردُّه في الجوف» (?) .

ويُقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه. فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع (?) .

ومن خلال ما ذكر نستطيع القول بأن ضبط النفس في مثل هذه الحالة، يكون بمنعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدراً من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف. وقد وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم - فيها بيان فضل كظم الغيظ ومن ثَم ضبط النفس، منها: ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (?) .

وبإيجاز، فضبط النفس يقتضي من المسلم أن يتجاوز مرحلة البناء التي يجب ألَّا تتوقف، باعتبار استمرارها إلى آخر رَمَقٍ من عُمْر الإنسان، لقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] . ليصلَ بالنفس إلى مرحلة الإعراب.

فأن يصبح المرء معرَباً، هذا هو المطلوب، فهو كالكلمة، المعرب منها له في موقع الفاعل الرفع، وفي موقع المفعول به النصب، وأحياناً تجرّ إذا سبقت بحرف صغير من حروف الجر، أما المبني فقد تجاهله النحاة من قبلُ، ولم يعيروه من الاهتمام كما فعلوا مع المعرَب، لأنه ثابت لا يتغير، كما أنه لا يتفاعل مع ما حوله من جمل وكلمات تفاعل المعرب.

فيجب على الإنسان أن يبادر (الفاعل) ليرفع سهمه عند الله، بحسن عمله في المجتمع بإبداعاته وإنجازاته؛ فالمؤمن كالغيث النافع أينما وقع نفع، وكل همِّه أن يسود الخير، وتنتشر المحبة، ويشارك في صناعة الحياة، همُّه أن يصبح راحلة يعين في رفع الأثقال عن أمته، وليس فقط واحداً يريد أن يحمل، وقد ورد في الحديث الصحيح: «الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» (?) . فليحرص الإنسان على أن يكون راحلة ينفع نفسه وينفع أمته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015