مجله البيان (صفحة 5423)

حقيقة الشورى بين الاتباع والادعاء (?)

محمد بن شاكر الشريف

الشورى بما تحمله من مضمون تعاوني تكاملي في العمل على الوصول إلى المصالح المجردة، أو تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وكذلك بدفع المفاسد الخالصة أو بدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، أو بالاختيار من بين متعدد لمناسبة ظرف أو حال أو مكان؛ تُعد من السياسة الحكيمة التي يتبعها الإنسان الراشد.

وقد كانت الشورى من الأمور المشتركة التي مارستها كثير من الأمم على نحو ما؛ فهي من هذه الوجهة تعد من التراث الإنساني المشترك، وما تميزت به شريعة الإسلام في ذلك كان في الضوابط التي وضعت للقيام بعملية الشورى وتنفيذها لتُحَقِّق الغرض الذي من أجله شُرِعت على وجه صحيح، على ما سيأتي بيانه في هذا المقال إن شاء الله تعالى.

وقد سجل لنا القرآن بعض النماذج التي ظهر فيها أخذ أقوام من غير المسلمين بالشورى والعمل بها.

- نماذج من الشورى قبل الإسلام:

ففي قصة ملكة سبأ عندما أرسل إليها سليمان نبي الله تعالى ـ عليه السلام ـ يدعوها وقومها إلى الإسلام والدخول في دين الله ـ تعالى ـ ذكر الله ـ سبحانه ـ موقفها عند قراءة الخطاب: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] ، والملأ هم أشراف القوم وعِلْيَتُهم، فشاورتهم في أمر هذا الخطاب واستنصحتهم في ذلك، لكن الملأ هنا كان موقفهم سلبياً؛ إذ لم يزيدوا على قولهم: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] ، فلم يقدموا لها مشورة ولم يقترحوا عليها تصرفاً، بل عرَّضوا باستعدادهم للحرب عن طريق بيان قوتهم وبأسهم، وهو أمر لم يكن خافياً على بلقيس حتى يذكروه لها، ثم فوضوا إليها التصرف وتركوا ما كان ينبغي عليهم من الإشارة بما يرون فائدته، وقالوا لها: والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين؟ وهذا أحد الفروق الهامة بين الشورى في الإسلام وبين الشورى في النظم الجاهلية؛ حيث يتنازل المستشارون عن القيام بدورهم لصالح التفويض المطلق للحاكم، بعكس الشورى في الإسلام؛ حيث يبذل المستشار جهده في الدلالة على ما يرى صوابه من الخير والصلاح، أو التحذير من الشر والفساد؛ انطلاقاً من كونه مأموناً على ذلك كما ورد في الحديث: «المستشار مؤتمَن» (?) ، فلا ينبغي له أن يدل على غير ما يرى، أو يتقاعس ويبخل بما عنده من النصيحة والإرشاد، وهذه الشورى الواردة هنا تعد طلباً للشورى في مسألة من مسائل السياسة الخارجية في تعامل الدولة مع غيرها من الدول.

وكذلك فرعون الطاغية قد شاور الملأ من قومه في أمر موسى ـ عليه السلام ـ فقد أثبت القرآن الكريم المحاورة التي جرت في ذلك بين فرعون والملأ من قومه؛ فقد قال الملأ من قوم فرعون لفرعون عن موسى ـ عليه السلام ـ: {إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 34 - 35] ، عند ذلك قال فرعون للملأ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] ؟ أي بأي شيء تشيرون في أمر موسى؟ لكن الملاحظ هنا أن طلب المشورة إنما جاء في الوقت العصيب الشديد الذي يفقد فيه القائد قدرته على التفكير بحيث يكون لجوؤه للشورى في ذلك الموضع من قبيل الضرورة لا من قبيل المنهج المتبع، وهو ما يفرق بين الشورى من المنظور الإسلامي وبينها من منظور الطواغيت والمستبدين؛ فعندما يسقط الأمر في يد الطاغية، وعندما يفقد القدرة على التصرف فإنه عندئذ يلجأ إلى الشورى، ويؤيد ذلك ما قاله الشوكاني في تفسير الآية: «ما رأيكم فيه وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم واستجلاباً لمودتهم؛ لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرر به عليهم الاضمحلال، وإلا فهو أكبر تيهاً وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم، ويذعنون له بذلك، ويصدقونه في دعواه» (?) ، وهذه القاعدة لا ينافيها موقف الملكة بلقيس؛ فقد كان لها عقل وحكمة وكياسة، ولذلك هداها ذلك ودفعها إلى الإيمان عندما ظهرت لها دلائله؛ بعكس موقف فرعون الذي تبينت له الآيات هو وقومه كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، كما تشاور الملأ من قوم فرعون في قتل موسى ـ عليه السلام ـ فيما جاء على لسان المؤمن من آل فرعون؛ حين قال لموسى: {إنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] ، أي يتشاورون في قتلك. قال البيضاوي: «يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً؛ لأن كلاًّ من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر» (?) ، وهذه الشورى التي طلبها فرعون تعد من قبيل الشورى في مسائل السياسة الداخلية.

وهناك نموذج ثالث قد تحدث عنه القرآن وهو ما كان من ملك مصر زمن يوسف ـ عليه السلام ـ حينما رأى رؤيا أفزعته، فقال للملأ من قومه: {إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43] إلى أن قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، فأجابوه بقولهم: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] ، فقد استشارهم فيما رأى ليدلوه إن كان عندهم علم، لكنهم تكلموا ورجموا بغير علم، فقالوا: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ، ثم ناقضوا أنفسهم وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] ، وهذا أيضاً بعكس الشورى في الإسلام؛ حيث لا يشير المستشار إلا بعلم، ولا يرجم بالظن؛ لأن المسلم منهي عن القول بغير علم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ؛ فإن كان لديه علم أشار به، وإن لم يكن عنده في الأمر المعروض عليه علم قال: لا أعلم. وهذه الشورى التي طلبها ملك مصر لا تتعلق بجانب سياسي، بل بجانب شخصي. وهناك في التاريخ والأخبار نماذج كثيرة غير هذه ولا شك، والغرض الإشارة لا الحصر. قال ابن عاشور: «والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبة الصلاح وتَطَلُّب النجاح في المساعي ... وإنما يلهي الناس عنها حب الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى؛ وذلك من انحراف الطبائع، وليس من أصل الفطرة؛ ولذلك يُهرَع المستبد إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البر في بهجة المجالس: «الشورى محمودة عند عامة العلماء، ولا أعلم أحداً رضي الاستبداد إلا رجل مفتون، مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكِلا الرجلين فاسق» (?) .

والملاحظ هنا في جميع النماذج على اختلاف مجالاتها أنها لم تكن إلا مع الملأ من القوم، وقد جاء في النهاية أن: «المَلأ أشرافُ الناس ورؤَساؤُهم ومُقَدَّموهم الذين يُرجَعُ إلى قولهم» (?) ، فكأن هذا هو المؤهل الوحيد الذي يؤهلهم لذلك، بعكس الشورى في الإسلام فإن أصحابها لهم مؤهلات تؤهلهم لذلك غير كونهم من الملأ، سيأتي ذكرها في هذا المقال إن شاء الله تعالى. وقد كان الملأ دوماً أعداء الرسل الذين يكذبونهم ويصدون الناس عن اتباعهم كما هو موجود في قصص الأنبياء في القرآن الكريم.

ويمكننا أن نلخص ما تميزت به الشورى في الأمم غير المسلمة التي سبقت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم - خير البشرية؛ فمن ذلك:

1 - قصر الشورى على الكبراء والرؤساء.

2 - تفويض أهل الشورى للملك أو الرئيس أو الأمير في اتخاذ القرارات وعدم المشاركة فيها؛ بحيث يكونون مجرد آلات للتنفيذ.

3 - الإشارة بغير علم أو بجهل، رجماً بالغيب، وهو ما يعني عدم تقدير المسؤولية.

4 - أن طلب الشورى لا يكون إلا عندما يسقط في يد القيادة، وأما في غير ذلك فالاستبداد هو القاعدة.

وتختلف الشورى في الإسلام عن كل ما تقدم، على ما سيتبين ذكره إن شاء الله تعالى.

- تعريف الشورى:

بالبحث في معاجم اللغة يتبين أن من معاني الشورى: الاستخراج، فيقال: شار العسل أي استخرجه واجتناه من موضعه، ومن ذلك أيضاً اختبار الشيء وفحصه ومعرفة كنهه، فيقال: شار الدابة يشورها شوراً: بلاها ينظر ما عندها، وقيل: قلَّبها، وكذلك الأَمَة، والتشوير أن تشور الدابة تنظر كيف سيرتها، وكذلك من معناها الأمر بالشيء، فيقال: أشار عليه بأمر كذا: أمره به، وهي الشُورى والمَشُورة بضم الشين، وتقول: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى، وشاوره مشاورة واستشاره طلب منه المشورة، وأشار عليه بالرأي: أومأ إليه، ونبهه أو دله عليه، وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجَرْيٍ أو غيره، ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار، وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار، إذا أخذته من موضعه» (?) .

ومن مجموع ما تقدم يتبين أن الشورى عملية يحدث فيها استخراج الآراء المتعددة في الأمر المعروض ممن يحسنون ذلك، وتقليبها وفحصها والموازنة بينها، واختبارها لاختيار أنفعها وأصلحها، والدلالة عليها، قال البدر العيني: «وحاصل معنى شاورته عرضت عليه أمري حتى يدلني على الصواب منه» (?) .

والشورى ينظر إليها بعض أهل العلم على أنها اسم فتكون بمعنى الأمر الذي يُتشاور فيه. قال الراغب الأصفهاني: «والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل: إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه» (?) ، وقال ابن عاشور: «والمشاورة مصدر شاور، والاسم الشورى والمشورة» (?) ، لكن ابن عاشور لم يثبت على هذا القول؛ فقد قال في موضع آخر متأخر عن هذا الموضع أن الشورى مصدر: «والشورى مصدر كالبشرى والفتيا» (?) ، بينما ينظر إليها فريق آخر من أهل العلم على أنها مصدر فتكون بمعنى التشاور في الأمر. قال القرطبي: «والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى» (?) والكلام نفسه كرره الشوكاني فقال: «والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى» (?) وقال الزمخشري: «والشورى: مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (?) والكلام نفسه قاله النسفي قال: «والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (?) وكذلك قال البيضاوي: «وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (?) وقد علق الآلوسي على كلام الراغب السابق بقوله: «والمشهور كونه مصدراً» (?) والأقرب في ذلك أن تكون الشورى مصدراً فتكون بمعنى عملية التشاور نفسها.

وأياً ما كان الأمر فليس لهذا الخلاف كبير تأثير على بحثنا؛ غير أن هناك من المعاصرين من حاول التفريق بين الشورى وبين المشورة أو الاستشارة، فخص الشورى بما يكون في الأمور الملزمة، وجعل المشورة والاستشارة في الأمور غير الملزمة (?) ، وهناك من عكس القضية فجعل الشورى هي أخذ الرأي مطلقاً، خص المشورة بأنها أخذ الرأي على سبيل الإلزام (?) ، ومنهم من جعل الشورى فيما يتعلق بأمر الأمة، أما ما يتعلق بالأمور الفردية فيمكن أن يسمى استشارة (?) وكل ذلك تفريق بلا دليل أو أثارة من علم.

- الشورى في القرآن الكريم:

وقد وردت مادة كلمة «شور» في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى:

الأولى: الشورى في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وهي آية مكية نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، وعلى ذلك فلا يمكن قصر هذه الآية على الجانب السياسي، وإن كانت تتضمنه بعموم اللفظ، وقد وردت في مدح الأنصار على ما ذكره طائفة من أهل التفسير. قال القرطبي: «كانت الأنصار قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم - إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه، ثم عملوا عليه، فمدحهم الله ـ تعالى ـ به قاله النقاش ... وقال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له، وقيل: تشاورهم فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض» (?) . والآية دالة على مدح الشورى، كما هي دالة على مدح من يعملون بها، وهم المؤمنون من أي قبيل كانوا وفي أي زمان وجدوا، وجملة: وأمرهم شورى بينهم، جملة اسمية مما يعني ثبات هذا الأمر واستقراره في الممدوحين بها. قال الجصاص: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدل على أنَّا مأمورون بها» (?) .

والثانية: شاور في قوله ـ تعالى ـ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وهي آية مدنية جاءت بلفظ الأمر، فهي تأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم - وكل من يقوم مقامه في قيادة الأمة بمشاورة المسلمين، وذلك لما في الشورى من الخير والمصلحة؛ فعن الضحاك بن مزاحم في قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، «قال: ما أمر الله ـ عز وجل ـ نبيه -صلى الله عليه وسلم - بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل» (?) ، «وعن الحسن في قوله ـ عز وجل ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال: علمه الله ـ سبحانه ـ أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده» (?) .

الثالثة: تشاور في قوله ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] وهي تتحدث عن فطام الرضيع؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد جعل للرضيع سنتين في الرضاعة كما قال ـ تعالى ـ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] إلا أن يتفق الوالدان على الفِطام فبل الحولين عن تراض منهما وتشاور، فيما فيه مصلحة المولود لفطمه كما جاء فى قوله ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن} [البقرة: 233] الآية.

- مجالات الشورى (متعلق الاستشارة) :

أنزل الله ـ تعالى ـ كتابه وأرسل رسوله ليبلغ للناس شرعه، فيأمرهم بما يحبه ويرضاه، وينهاهم عما يكرهه ويبغضه، ويبين لهم ثواب من أطاع، وعقاب من عصى، فكان في ذلك بيان أن المسلم الصادق في إيمانه ليس له إزاء ما شرعه الله إلا القبول والالتزام، والسعي في تنفيذ ما شرعه الله، وهذا يعني أن الشورى لا مدخل لها فيما شرعه الله تعالى؛ إذ ليس أمام المسلم إلا قبول الشريعة، وإنما تكون الشورى في هذا الجانب في البحث عن أفضل كيفيات التنفيذ عند تعددها؛ فهي شورى في سبيل تنفيذ الشرع، وليس في سبيل معارضته أو تعطيله، كما تكون الشورى فيها للفهم الصحيح عند تعدد دلالات النص.

وبالجملة فإن الشورى في هذا الجانب لا تكون إلا بمعنى التشاور والتباحث للفهم الصحيح للنصوص، والبحث عن كيفيات التنفيذ الموافقة للنصوص الشرعية والمناسبة للزمان والمكان، وبهذا يتبين أن الأمر الوارد في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وكذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قد خرجت منه النصوص الشرعية بالمعنى المتقدم، ويُحمل لفظ الأمر بعد ذلك على كل ما يتناوله، فيشمل الأمر الخاص كما يشمل الأمر العام، ويشمل الأمر الذي يخص فرداً أو مجموعة من الأفراد أو جماعة أو قبيلة أو بلدة، كما يشمل الأمر الذي يعم الأمة كلها، وذلك في الأمور المهمة أو المشكلة، وقد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم - في ذلك كله، فشاور في الأمر الخاص كما شاور عليّاً وأسامة في حادثة الإفك، وشاور في الأمر العام كما شاور في غزوتي بدر وأحد، والأمثلة كثيرة.

وعلى ذلك فمجالات الشورى هي: الحدود التي تعمل فيها الشورى؛ أي بيان الأمور التي يجب، أو يجوز، أو لا يجوز، أن تكون محلاً للشورى، ومجالها قسمان: قسم عام، وقسم خاص.

فأما القسم الخاص: فهو متعلق بطالب المشورة؛ فقد يشاور في بيع، أو في شراء، أو علاج، أو سكن، أو غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها، وقد يشاور قريبه، أو صديقه، أو أهل الاختصاص.

وأما القسم العام: فإن الشورى فيه وهي تتعلق بالأمة أو جمهورها أو طائفة كبيرة منها أَوْلى من الشورى في المسائل الخاصة التي تتعلق بأفراد، أو مصالح جزئية؛ لأن الأولى خطرها عظيم ونفعها كبير، ولذلك كانت الشورى في المسائل المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي ـ الذي يمثِّل السياج الواقي للإسلام ودولته ـ وكذلك المصالح العامة أَوْلى بكثير من غيرها، ولا يستغني ولي الأمر عنها في إدارته لشؤون ولايته إدارة حسنة.

وقد اختلف أهل العلم في تحديد المراد بـ «الأمر» الوارد في قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قال القرطبي: «واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه ـ عليه السلام ـ أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو ... وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي» (?) وقال الزمخشري: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتستظهر برأيهم ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم» (?) . وقال ابن الجوزي: «وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة، والثاني: أمر الدين والدنيا وهو أصح» (?) . وقال البيضاوي: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] : أي في أمر الحرب؛ إذ الكلام فيه، أو فيما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم، وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة» (?) وقال ابن كثير: «في مثل الحروب وما جرى مجراها» (?) ، وقال أبو السعود: «وشاورهم في الأمر أي في أمر الحرب؛ إذ هو المعهود، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة، استظهاراً بآرائهم، وتطييباً لقلوبهم، وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة» (?) . وقال ابن حجر: «وقد اختلف في متعلق المشاورة، فقيل: في كل شيء ليس فيه نص، وقيل: في الأمر الدنيوي فقط، وقال الداودي: إنما كان يشاورهم في أمر الحرب، مما ليس فيه حكم؛ لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه، قال: ومن زعم أنه كان يشاورهم في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة، وأما في غير الأحكام فربما رأى غيره أو سمع ما لم يسمعه أو يره، كما كان يستصحب الدليل في الطريق، وقال غيره: اللفظ وإن كان عامّاً لكن المراد به الخصوص، للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام، قلت: وفي هذا الإطلاق نظر؛ فقد أخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان من حديث علي قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] الآية قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم -: ما ترى؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] الآية قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة، ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام» (?) لكن المشاورة كانت في أمر مطلق وهو قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فالصدقة المطلوب تقديمها مطلقة غير مقيدة من الشارع، فلا تنافي المشاورة فيها أنه -صلى الله عليه وسلم - لم يكن يشاور في فرائض الأحكام (?) ، وقال الشوكاني: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، أي: الذي يرد عليك: أي أمر كان، مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصة، كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك، حتى لا يأنف منه أحد بعدك، والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها» (?) ، وقال ابن عاشور عن الشورى: «إنما تكون في الأمر المهم المشكل من شؤون المرء في نفسه، أو شؤون القبيلة، أو شؤون الأمة، و (أل) في: الأمر [يعني في قوله: وشاورهم في الأمر] للجنس والمراد بالأمر: المهم الذي يؤتمر له ... وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب؛ فاللام للعهد ... وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيما عبر عنه بـ (الأمر) وهو مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيرها، وذلك في غير أمر التشريع» (?) . ومن خلال كلام أهل العلم المتقدم يتبين أن الأمر العام المتشاور فيه هو ما كان من المصالح العامة لجماعة المسلمين مما لم يأت به وحي، وسواء في ذلك ما كان متعلقاً بأمر الدنيا أو بأمر الدين على التفصيل المتقدم.

- متى تطلب الشورى؟

عندما يُشْكِل الأمر في قضية ما، أو عندما تتعدد الحلول لمشكلة ما، وعندما لا يكون المرء قادراً على اتخاذ القرار السليم في تلك الأوضاع المتقدمة، أو عندما يريد التأكد من صواب القرار الذي يريد أن يأخذه، أو يريد التوصل إلى الأيسر والأنسب من الحلول الصالحة المتعددة، أو عندما يكون الأمر ليس خاصاً بفرد، بل يعم مجموعة من الناس أو الجماعة المسلمة كلها، فإنه يلجأ والحالة هذه إلى من يعتقد أن لديه القدرة على القيام بذلك مع الأمانة والصدق فيما يشير به، ويطلب منه أن يعاونه برأيه في تلك المسائل، وقد يطلب ذلك من فرد أو مجموعة من الناس، إما على انفراد وإما على اجتماع، وقد يكرر الاستشارة في الأمر الواحد إذا لم يتضح له وجه الصواب، وقد يكتفي بإشارة أول من يشير عليه إذا تبين له صواب رأي المشير وصلاحه.

- أهل الشورى:

يختلف تحديد أهل الشورى باختلاف المجال الذي يراد الاستشارة فيه؛ فأمور الدين يستشار فيها العلماء، وأمور الخطط الحربية يستشار فيها قواد الجيوش، وهكذا. كما تختلف إذا كانت الاستشارة في أمور خاصة تخص فرداً أو أفراداً محصورين، أو في أمور عامة تشمل جماعة المسلمين. قال القرطبي: «قال ابن خويز منداد: «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح (أي مصالح الناس) ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها» (?) وقال القرطبي: «قال الله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك» (?) . وقال ابن الجوزي: «إنما أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم - بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم» (?) . وأما الأمور الخاصة فيشاور فيها من تعنيهم. قال ابن عاشور في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، «وقوله {بَيْنَهُمْ} ظرف مستقر هو صفة لـ {شُورَى} ، والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين؛ فالوجه أن يكون هذا الظرف إيماءً إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي، فلا يدخل فيها من لا يهمه الأمر» (?) .

- صفات أهل الشورى:

وينبغي أن تتوافر في كل هؤلاء صفات تؤهلهم لذلك: منها العلم أو الخبرة فيما يُستشارون فيه، والأمانة وتقدير المسؤولية التي تحجز عن التقاعس عن الانتصاب لهذا الأمر، أو الإقدام بغير علم أو خبرة؛ مع العقل الراجح والشجاعة في إبداء الرأي ولو خالف به الأكثرين. قال القرطبي: «قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً دَيِّناً؛ وقلما يكون ذلك إلا في عاقل» وقال: «وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير» (?) . قال ابن قدامة في مشاورة القاضي: «يشاور أهل العلم والأمانة؛ لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة، ولا يُسكَن إلى قوله. قال سفيان: وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة، ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق» (?) . وقال البخاري: «وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها؛ فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم -. وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً أو شباناً، وكان وقَّافاً عند كتاب الله عز وجل» (?) . قال ابن حجر: «قوله: وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها: أي إذا لم يكن فيها نص بحكم معين، وكانت على أصل الإباحة؛ فمراده ما احتمل الفعل والترك احتمالاً واحداً، وأما ما عُرِف وجه الحكم فيه فلا، وأما تقييده بالأمناء فهي صفة موضحة؛ لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يُلتفت لقوله، وأما قوله: بأسهلها فلعموم الأمر بالأخذ بالتيسير والتسهيل، والنهي عن التشديد الذي يُدخِل المشقة على المسلم. قال الشافعي: إنما يؤمر الحاكم بالمشورة لكون المشير ينبهه على ما يغفل عنه ويدله على ما لا يستحضره من الدليل، لا ليقلد المشير فيما يقوله؛ فإن الله لم يجعل هذا لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد من استشارة الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - أخبار كثيرة منها مشاورة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في قتال أهل الردة، وقد أشار إليها المصنف، وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنَّة؛ فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم، وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك» (?) .

وخلاصة صفات المستشارين: العلم والعدالة والديانة، والعقل والبلوغ والأمانة والخبرة، وأنه لا يلزم لذلك سن معينة؛ فقد كان الشبان من العلماء من أصحاب مشورة عمر رضي الله تعالى عنه، ولم يكن يتقيد في ذلك بكونهم من الشيوخ أو كبار السن، كما لا يلزم أيضاً أن يكونوا من أشراف القوم أو أغنيائهم، وأفاد قوله: وكان وقّافاً عند كتاب الله: أي أن هذا المسلك في مشاورة أهل العلم من الشباب أو الشيوخ ومن الأغنياء أو الفقراء، ومن أشراف الناس أو عامتهم، مما دل عليه كتاب الله تعالى، وأن عمر كان يقف عند ما دل عليه ولا يتجاوزه.

- الشورى في الأمر العام:

الأمر العام هو الذي يشمل المسلمين جميعهم، وهو المصالح العامة التي يحتاجها المسلمون مما لم يأت في خصوصها أدلة شرعية واجبة الاتباع، والأمر العام تكون الشورى فيه لمن يعنيهم. وللشورى في هذا الموطن فوائد منها:

- الشورى تلغي فكرة الاستئثار بالصواب، والقدرة على التفكير المنتج، ورهن ذلك بالحاكم وأعوانه فقط.

- الشورى ترسخ فكرة اشتراك الأمة مع الحاكم في تحمل مسؤولية البحث عن الصواب، أو الأفضل، والعمل به.

- الشورى توجِد تلاحماً حقيقياً بين الأمة والحكومة، بحيث يشعر الناس أنهم أصحاب دار، ليسوا ضيوفاً أو أجراء.

- الشورى توجِد اطمئناناً لدى الشعوب بصواب العمل، وأنهم لا يُقادون من خلال نزعات فردية، مما يساهم بدرجة كبيرة في قناعة الناس بما يصدر من تنظيمات، أو ترتيبات، وهذا يسهم بدوره في الالتزام بها، والعمل على إنجاحها.

- الشورى تمثل دافعاً من دوافع العمل والإنتاج؛ حيث يشعر الإنسان بالانتماء إلى مجتمع كبير يقدره ويعترف بمكانته.

- الشورى تقود إلى المشاركة في تدبير الشأن العام وتحمل المسؤولية في ذلك، وتقضي على السلبية واللامبالاة التي تعاني منها المجتمعات.

- الشورى تعمل على إنضاج الرأي العام، وتسهم بدور كبير في تكوين الرأي العام الرشيد.

- حكم الشورى:

والشورى مأمور بها في الجملة، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب، فإنَّ ترك التشاور تعريض لمصالح المسلمين للخطر والفوات. لكن ليس كل ما نريد الإقدام عليه ينبغي فيه الشورى؛ فهناك أمور معلومة معروفة ينفذها الإنسان من غير احتياج إلى مشورة، وهذا الأمر يدركه كل واحد منا في نفسه، وإنما تراد المشورة أو تطلب عند الإشكال أو في الأمور المهمة، وقد درج كثير من الكاتبين في هذا الموضوع على سَوْق حكم واحد في هذا المجال، والتدليل عليه بما يرى من الأدلة؛ فمن الناس من يذهب إلى أن الشورى واجبة ونتيجتها ملزمة وينبغي التقيد بما دلت عليه، بينما هناك من يقول: إن الشورى مستحبة وليست واجبة، ونتيجتها غير ملزمة للحاكم، بل بوسعه مخالفتها إذا لم يقتنع بها، ويسوق كل فريق منهم الحجج التي يراها تؤيد قوله، والناظر في هذه الأقوال وما استدل به الفرقاء من أدلة، يمكنه القول: إن كل فريق قد أصاب فيما قال، والخطأ إنما يكمن في تعميمه لمقولته على موضوعات الشورى كلها؛ إذ هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها واجبة ونتيجتها ملزمة حسبما يقول الفريق الأول، بينما هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها مستحبة ونتيجتها غير ملزمة حسبما يقول الفريق الثاني، كما أن هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها واجبة ونتيجتها غير ملزمة، ولسنا الآن في حاجة إلى سوق أدلة الفريقين، وإيراد ما أجاب به كل فريق على أدلة الفريق الآخر، بل في حاجة إلى بيان موضوعات الشورى الملزمة والشورى غير الملزمة، حسبما ذكرنا، وفي هذا الصدد يمكننا تقسيم تلك الموضوعات إلى ثلاثة أقسام: الأول: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، والثاني: شورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة، والثالث: شورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة. (وهذا ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015