الحمد لله معلم القرآن، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى الصحب والآل، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:
فإن معالم البِشْر، وصور الخير في أمتنا كثيرة، وهذا لا ينفي وجود خلل بيِّن، ومظاهر ضعف جسيمة قعدت بالأمة، وجعلتها في مؤخرة التسابق الحضاري في عالمنا اليوم.
وحين نتساءل عن مصدر الداء وطريق الدواء نجد ذلك جلياً في القرآن الكريم؛ إذ أنزل البَرُّ الرحيم كتابه لقوم يعقلونه هادياً للتي هي أقوم، فيه: {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] ، {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] ، {وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] ، و {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية: 20] ، و {نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] ، و {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، و {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ، {يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِمٍ} [الأحقاف: 30] ، و {تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه: 3] ، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] .
وقد أفصح النبي -صلى الله عليه وسلم - عن هذه الحقيقة وجلاَّها، حين قال: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله» (?) ، وأبان الباري ـ عز وجل ـ عاقبة الإعراض عن ذكره وعدم الاهتداء بنوره، فقال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127] ، حيث تكفل ـ سبحانه ـ لمن أقبل على كتابه وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقد فقه الصحابة الكرام هذا المقام الرفيع للقرآن، فتلوه حق تلاوته، وتدبروا معانيه، وانطلقوا من توجيهاته، واتبعوا أحكامه، وتحاكموا في أمورهم كلها إليه، فسهَّل الله ـ تعالى ـ دربهم، وأنار سبيلهم، ووفقهم، وأعانهم، وأصلح بالهم، فتغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم، وصاروا سادة الدنيا وقادة الأرض، بعد أن كانوا أصحاب قلوب تائهة، ونفوس مريضة، وعقول ضيقة حائرة، لهم اهتمامات محدودة، وتتحكم فيهم الأنانية، وتشيع في أوساطهم الفرقة والبغضاء وكثير من السلوكيات المشينة، قابعين على هامش من التاريخ، لا يأبه لهم أحد، وليس لهم بين الأمم حساب أو وزن.
\ الصحابة والقرآن:
حين نتأمل هدي الصحابة الكرام في التعامل مع القرآن، نرى عجباً؛ فقد كان القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم؛ فالتعظيم له كبير، والإقبال عليه شديد، والعيش معه طويل، والتأثر به والبكاء عند قراءته كثير، واتِّباعه والانطلاق منه وصناعة الحياة كلها وفق رؤيته أمر واقع، وقضية محسومة في حياة الصغير والكبير والفرد والمجتمع والدولة.
يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ مبيناً منهج الصحابة في تلقي القرآن: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» (?) ، ويقول أبو عبد الرحمن السلمي: «حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وأُبَيُّ بن كعب ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أن رسول الله كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» (?) .
وعن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم» (?) . وعن أبي صالح قال: «لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب» (?) .
ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران يُعَدُّ فينا عظيماً» ، وفي رواية: «جد فينا» (?) أي: علت منزلته وعظمت.
وسِيَر القوم زاخرة بالشواهد على أن القرآن كان ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، وذهاب همومهم؛ فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم - «كان خلقه القرآن» (?) وكان «يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» (?) ، ويقوم -صلى الله عليه وسلم - ليلة بآية يرددها حتى يصبح (?) ، ومرة يقوم الليل فيقرأ «البقرة وآل عمران والنساء في ركعة لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استجار» (?) .
وهذا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كان «رجلاً بَكَّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن» (?) ، وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ كان كثير التلاوة لكتاب الله، شديد التأثر به (9) .
وهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف» (?) .
وهذا علي ـ رضي الله عنه ـ يقول: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت» (?) .
وهذا ترجمان القرآن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يتهجد من الليل، فيقرأ الآية ثم يسكت طويلاً من أجل التأويل يفكر فيها، ثم يقرأ (?) ، وكان يقول: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبَّرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن أجمعَ هَذْرَمَةً» (?) .
وهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - كان لليلهم من قراءة القرآن دوي كدوي النحل (?) ، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون (?) .
وهذا أنس ـ رضي الله عنه ـ يخبر أنه كان يدير الخمر قبل تحريمها على جمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى مالت رؤوسهم من أثرها، فينادي منادٍ: ألا إن الخمر قد حُرِّمَتْ قال: «فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سُلَيْم، ثم خرجنا إلى المسجد» (?) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أُنزِلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وكل ذي قرابته؛ فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان» (?) .
وهذا عمر يقول له عيينة بن حصن: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به، فقيل له: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، يقول الراوي: «فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وَقَّافاً عند كتاب الله» (?) ، أي: يعمل بما فيه ولا يتجاوزه.
فحالهم كما وصف الله: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] .
إنها معرفة منشئة للعمل، وتلقٍّ للتنفيذ، وقراءة بتدبر بغرض تلمُّس التوجيه للانصياع له والعمل بما فيه.
\ إنه منهج متكامل لا مجرد تلاوة:
ولذا فلم يُعرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ القرآن في ليلة، بل قال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (?) ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعِها سمعك؛ فإنه خير تؤمَر به أو شر تُنهى عنه» (?) ، ويقول ـ رضي الله عنه ـ: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون» (?) .
ووجدنا أئمة الهدى يشتد نكيرهم حين يرون غياب هذا النهج الراشد في التعامل مع القرآن. يقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لقد لبثنا برهة من دهر وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، تنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وآمِرَها وزاجِرَها وما ينبغي أن يوقَف عنده منها كما يتعلم أحدكم السورة، ولقد رأيت رجالاً يؤتَى أحدهم القرآن قبل الإيمان، يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يعرف حلاله ولا حرامه ولا آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدَّقَل» (?) ، ويقول أيضاً: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في صدر الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن - منهم الصبي والأعمى - ولا يُرزَقون العمل به» (?) .
ويقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لا تنثروه نثر الدقَل، ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (?) ، ومرة قال: «إنَّا صَعُب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به» (?) .
ويذكر الحسن ـ رضي الله عنه ـ أن أناساً قرؤوا القرآن «لا علم لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله، ما يُرى له القرآن في خُلُق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ، لا والله ما هؤلاء بالقراء، ولا بالعلماء، ولا الحكماء، ولا الوَرَعة، ومتى كانت القراءة هكذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء» (?) .
وقال الفُضيل: «إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً، فقيل له: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه» (?) .
وهذا ابن تيمية يوصي طالب العلم بأن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين، ثم يقول: «والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل؛ فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين» (?) .
\ القرآن منطلق النهضة:
واليوم نعيش في زمن تلاطمت فيه الأفكار والمفاهيم، وكثرت فيه الشبهات، وغرق فيه كثيرون في بحور الشهوات؛ ومظاهر المرض والتخلف بادية في جسم أمتنا (أفراداً ومجتمعات) ، في جوانب رئيسة، هي شروطٌ أساس لتحقيق نهضة جادة، كجانب الهوية والانتماء، والانطلاق من الثوابت، والجدية، والشعور بالمسؤولية، والعمق في البحث وامتلاك المعرفة، وحسن الإدارة والتنفيذ، والتمسك بمنظومة القيم والأخلاق العالية التي تمتلكها الأمة ... فنحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بعودة صادقة إلى الكتاب العزيز، نجعل فيه القرآن في حياتنا أولاً: إيماناً وتصديقاً، حفاوة وإجلالاً، تلاوة وحفظاً، تدبراً وفهماً، خشوعاً وخضوعاً، اتباعاً وتطبيقاً، تحاكماً وتحكيماً، ذبّاً عنه ودعوة إليه.. متى ما كنا نريد أن نأتي ربنا الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون بقلوب سليمة، ومتى ما كنا نريد لأمتنا عزة ورفعة، ونهوضاً وتمكيناً.
إن الابتعاد عن القرآن سبب الذل والهوان الذي تعاني منه أمتنا اليوم، وإن الانطلاق منه في كافة الأمور هو السبيل الوحيد النافذ أمامها للوصول لساحة العزة، وبوابتها الواسعة لنيل الرفعة والظفر بالتمكين، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها.
وها نحن اليوم في شهر رمضان المبارك، الشهر الذي أنزل الله ـ تعالى ـ فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والذي يستحب فيه مدارسة القرآن والإكثار من تلاوته؛ ولذا يجدر بنا أن نستثمره في تعميق عودة صادقة إلى القرآن، فنعلِّم أنفسنا والناس تلاوته وتدبره وفقه معانيه، وننشر في الأمة المنهج الصحيح في التعامل معه، في كل وسط، ولكل أحد، كل بحسبه وفي الموقع الذي هو فيه، إن ربي لطيف لما يشاء، وهو على كل شيء حفيظ.
اللهم علِّمنا كتابك، وفقِّهنا فيه، وجنبنا هجره، وهذب به نفوسنا، وأَحْيِ به قلوبنا، وأصلح به حال أمتنا، وانفع به أولادنا وأهلينا، وارزقنا تلاوته وتدبره، واجعلنا من أهله الناشرين لعلومه، ووفقنا للاجتماع عليه والعمل به على الوجه الذي يرضيك عنا، بجودٍ منك وإحسان يا قريب يا مجيب!